فصل: التفسير المأُثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثاني: استدل بالآية على أن المكره غير مكلف، وأن الإكراه يبيح التلفظ بكلمة الكفر، بشرط طمأنينة القلب على الإيمان، واستدل العلماء بالآية على نفي طلاق المكره وعتاقه، وكل قول أو فعل صدر منه، إلا ما استثنى. أفاده السيوطي في الإكليل.
الثالث: روي عن ابن عباس: أنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم فوافقهم مكرهًا. ثم جاء معتذرًا. قال ابن جرير: أخذ المشركون عمارًا فعذبوه، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئنًا بالإيمان. قال صلى الله عليه وسلم: «إن عادوا فَعُدْ».
وقال ابن إسحاق: إن المشركين عَدَوْا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه. فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين. فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر. يفتنونهم عن دينهم. فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم، وكان بلال رضي الله عنه عبدًا لبعض بني جُمح، يخرجه أمية بن خلف، إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره. ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فيقول {وهو في ذلك البلاء}: أحدٌ، أحدٌ، حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه.
وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، رضي الله عنهم، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «صبرًا آل ياسر، موعدكم الجنة» فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام.
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر على أن يستوي جالسًا من شدة الضرب الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة. حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. حتى إن الجُعَل ليمر بهم فيقولون له: هذا الجُعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم؛ افتداء منهم، مما يبلغون من جَهدْه.
وقد ذكر ابن هشام في السيرة في بحث (عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة) غرائب في هذا الباب، فانظره.
قال ابن كثير: ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي؛ إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم، وهو يفعلون به الأفاعيل، وهو يقول: أحدٌ، أحدٌ، ويقول: والله! لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها. رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري، لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إربًا إربًا، وهو ثابت على ذلك.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي، أحد الصحابة، أنه أسرته الروم، فجاءوا به إلى ملكهم. فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي. فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب، على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين، ما فعلت. فقال: إذًا أقتلك. فقال: أنت وذاك. فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريبًا من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى. ثم أمر به فأنزل. ثم أمر بقدر فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى. فأمر به أن يلقى فيها. فرفع بالبكرة ليلقى فيها فبكى. فطمع فيه ودعاه، فقال: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة، تلقى في هذا القدر الساعة. فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي، نفس تعذب هذا العذاب في الله.
وفي بعض الروايات: أنه سجنه ومنعه الطعام والشراب أيامًا. ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه. ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما هو فقد حلَّ لي، ولكن لم أكن لأُشَمِّتَكَ فِيَّ. فقال له الملك: فقبِّل رأسي وأنا أطلقك وأطلق جميع أسارى المسلمين. قال: فقبَّل رأسه، وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده. فلما رجع قال عُمَر بن الخطاب: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [110].
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} بيان للذين كانوا مستضعفين بمكة، مهانين في قومهم، وافقوهم على الفتنة ظاهرًا، ثم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهاليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وجاهدوا الكافرين وصبروا على مشاقِّ الجهاد. أخبر تعالى أن هؤلاء من بعد الفتنة المذكورة، أي: إجابتهم إليها: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيغفر لهم ما فرط منهم ويرحمهم بالجزاء الحسن.
والجار في قوله: {لِلَّذِينَ} متعلق بالخبر على نية التقديم والتأخير، والخبر لـ {إن} الأولى، والثانية مكررة للتأكيد. أو للثانية وخير الأولى مقدر، وشمل قوله: {هَاجَرُوا} من هاجر إلى الحبشة من مكة فرارًا بدينه من الفتنة، ومن هاجر بعد إلى المدينة كذلك. كما شمل قوله: {جَاهَدُوا} في بث الحق ونشر كلمة الإيمان والدفاع عنه. أو قاتلوا في سبيل الله، ولأجل هذا الاحتمال في الفعلين قيل: الآية مدنية. اهـ.

.التفسير المأُثور:

قال السيوطي:
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن ابن عباس قال: «لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة، قال لأصحابه: تفرقوا عني، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض، فالحقوا بي. فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت، فأصبحوا بمكة فأخذهم المشركون وأبو جهل، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى، فجعلوا يضعون درعًا من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه، فإذا ألبسوها إياه قال: أحد.. أحد.، وأما خباب، فجعلوا يجرونه في الشوك، وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيةً، وأما الجارية، فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم، واشتد على عمار الذي كان تكلم به. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت: أكان منشرحًا بالذي قلت أم لا؟ قال: لا. قال: وأنزل الله {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}».
وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار، عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم. بخير، ثم تركوه فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال: «كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالايمان. قال: إن عادوا فعد» فنزلت {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين: «إن النبي لقي عمارًا وهو يبكي، فجعل يمسح عن عينيه ويقول: أخذك الكفار فغطوك في الماء فقلت كذا وكذا فإن عادوا فقل ذلك لهم».
وأخرج ابن سعد عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر في قوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} قال: ذلك عمار بن ياسر، وفي قوله: {ولكن من شرح بالكفر صدرًا} قال: ذاك عبد الله بن أبي سرح.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر، عن أبي مالك في قوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} قال: نزلت في عمار بن ياسر.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحكم {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} قال: نزلت في عمار.
وأخرج ابن جرير عن السدي، أن عبد الله بن أبي سرح أسلم ثم ارتد فلحق بالمشركين، ووشى بعمار وخباب عند ابن الحضرمي، أو ابن عبد الدار فأخذوهما وعذبوهما حتى كفرا، فنزلت {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.
وأخرج مسدد في مسنده وابن المنذر وابن مردويه، عن أبي المتوكل الناجي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمار بن ياسر إلى بئر للمشركين يستقي منها، وحولها ثلاث صفوف يحرسونها، فاستقى في قربة ثم أقبل، فأخذوه فأرادوه على أن يتكلم بكلمة الكفر، فأنزلت هذه الآية فيه {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.
وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} نزلت في عمار بن ياسر، أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر وقالوا: اكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فاتبعهم على ذلك وقلبه كاره فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: نزلت هذه الآية {إلا من أكره} في عياش بن أبي ربيعة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في أناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة: أن هاجروا فإنا لا نرى أنكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم، فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية.
وأخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم قال: كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر وابن فهيرة وقوم من المسلمين، وفيهم نزلت هذه الآية {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طريق علي، عن ابن عباس في قوله: {من كفر بالله} الآية، قال: أخبر الله سبحانه أن {من كفر بالله من بعد إيمانه} فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، فأما من أكره، فتكلم بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه، لأن الله سبحانه إنما يؤاخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا في سورة النحل {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} ثم نسخ واستثنى من ذلك فقال: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له أبو بكر وعمر وعثمان بن عفان فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس مثله.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} الآية، قال: ذكر لنا أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا، كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة فخرجوا فأدركهم المشركون فردوهم، فأنزل الله {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت: 1-2]. فكتب بهذا أهل المدينة إلى أهل مكة، فلما جاءهم ذلك تبايعوا على أن يخرجوا، فإن لحق بهم المشركون من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله، فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا. فأنزل الله {ثم إن ربك للذين هاجروا} الآية.
وأخرج عبد بن حميد عن الشعبي نحوه.
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية فيمن كان يفتن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا}.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فنزلت فيهم {ثم إن ربك للذين هاجروا} الآية، فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجًا فاخرجوا. فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن رضي الله عنه، أن عيونًا لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ فأهوى إلى أذنيه فقال: إني أَصَمّ. فأمر به فقتل، وقال للآخر: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم. فأرسله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «أما صاحبك فمضى على إيمانه، وأما أنت فأخِذْتَ الرخصة».
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} قال: نزلت في عياش بن أبي ربيعة، أحد بني مخزوم، وكان أخا أبي جهل لأمه، وكان يضربه سوطًا وراحلته سوطًا.
وأخرج ابن جرير عن أبي إسحق في قوله: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} قال: نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد رضي الله عنهم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.
قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بالله} يجوز فيه أوجهُ، أحدُها: أن يكونَ بدلًا من {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ}، أي: إنما يفترى الكذبَ مَنْ كفر. الثاني: أنه بدلٌ مِنَ {الكاذبون}، والثالث: مِنْ {أولئك} قاله الزمخشريُّ، فعلى الأولِ يكون قوله: {وأولئك هُمُ الكاذبون} جملةً معترضةً بين البدلِ والمُبْدلِ منه.
واستضعف الشيخُ الأوجهَ الثلاثةَ فقال: لأنَّ الأولَ يقتضي أنه لا يَفْتري الكذبَ إلا مَنْ كفر بالله من بعدِ إيمانِه، والوجودُ يَقْضي أنَّ المفتريَ مَنْ لا يؤمن، سواء كفر بالله من بعدِ إيمانِه، أم لا، بل الأكثرُ الثاني وهو المفتري قال: وأمَّا الثاني فَيَؤُوْل المعنى إلى ذلك؛ إذ التقديرُ: وأولئك: أي: الذين لا يؤمنون هم مَنْ كفر بالله من بعدِ إيمانِه، والذين لا يؤمنون هم المُفْترون، وأمَّا الثالثُ فكذلك؛ إذ التقديرُ: إنَّ المشارَ إليهم هم مَنْ كفرَ بالله من بعد إيمانه، مُخْبرًا عنهم بأنهم الكاذبون.
الوجه الرابع: أن ينتصبَ على الذمِّ، قاله الزمخشري. الخامس: أن يرتفعَ على خبرِ ابتداء مضمرٍ على الذمِّ أيضًا. السادس: أن يرتفعَ على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ، تقديره: فعليهم غضبٌ لدلالةِ ما بعد {مَنْ} الثانيةِ عليه.
السابع: أنها مبتدأٌ أيضًا، وخبرُها وخبرُ {مَنْ} الثانيةِ أيضًا قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ}، قاله ابن عطية، قال: إذ هو واحدٌ بالمعنى؛ لأنَّ الإِخبارَ في قوله: {مَن كَفَرَ بالله} إنما قَصَدَ به الصنفَ الشارحَ بالكفر. قال الشيخ: وهذا وإنْ كان كما ذكر، إلا أنهما جملتان شرطيتان، وقد فُصِل بينهما بأداةِ الاستدراك، فلابد لكلِّ واحدةٍ منهما على انفرادِها مِنْ جوابٍ لا يشتركان فيه، فتقديرُ الحَذْفِ أَجْرَى على صناعةِ الإِعرابِ، وقد ضَعَّفوا مذهبَ الأخفشِ في ادِّعائه أنَّ قوله: {فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} [الواقعة: 91]، وقوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89]. جوابُ {أمَّا}، و{إنْ} هذا، وهما أداتا شرط وَلِيَتْ إحداهما الأخرى.