فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة العقاب أو بالعقاب بغير ذنب، وقيل: بنقص أجورهم.
وتعقب بأنه علم من السابق.
وأجيب بأن القائل به لعله أراد بجزاء ما عملت العقاب، وعلى تقدير إرادة الأعم فهذا تكرار للتأكيد ووجه ضمير الجمع ظاهر.
{وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً} أي أهل قرية وذلك إما بإطلاق القرية وإرادة أهلها وإما بتقدير مضاف، وانتصابه على أنه مفعول أول لضرب على تضمينه معنى الجعل، وأخر لئلا يفصل الثاني بين الموصوف وصفته وما يترتب عليها، وتأخيره عن الكل مخل بتجاوب أطراف النظم الجليل وتجاذبه، ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس شوقًا لوروده لاسيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه كما هنا فيتمكن عند وروده فضل تمكن، وعن الزجاج أن النصب على البدلية والأصل عندهم ضرب الله مثلًا مثل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والمراد بالقرية إما قرية محققة من قرى الأولين، وإما مقدرة ووجود المشبه به غير لازم، ولم يجوز ذلك أبو حيان لمكان {وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ} [النحل: 113]، وأنت تعلم أنه غير مانع.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أنها مكة، وروى هذا عن ابن زيد وقتادة وعطية، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن سليم بن عمر قال: صحبت حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خارجة من مكة إلى المدينة فأخبرت أن عثمان قد قتل فرجعت وقالت: ارجعوا بي فوالذي نفسي بيده إنها للقرية التي قال الله تعالى وتلت ما في الآية، ولعلها أرادت أنها مثلها؛ ويمكن حمل ما روى عن الحبر ومن معه على ذلك، والمعنى جعلها الله تعالى مثلًا لأهل مكة أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمة ففعلوا ما فعلوا فجوزوا بما جوزوا، ودخل فيهم أهل مكة دخولًا أوليًا.
ولعله المختار {كَانَتْ ءامِنَةً} قيل: ذات أمن لا يأتي عليها ما يوجب الخوف كما يأتي على بعض القرى من إغارة أهل الشر عليها وطلب الإيقاع بها {مُّطْمَئِنَّةً} ساكنة قارة لا يحدث فيها ما يوجب الانزعاج كما يحدث في بعض القرى من الفتان بين أهاليها ووقوع بعضهم في بعض فإنها قلما تأمن من إغارة شرير عليها وهيهات هيهات أن ترى شخصين متصادقين فيها:
والمرء يخشى من أبيه وابنه ** ويخونه فيها أخوه وجاره

وقيل: يفهم من كلام بعضهم أن الاطمئنان أثر الأمن ولازمه من حيث أن الخوف يوجب الانزعاج وينافي الاطمئنان، وفي البحر أنه زيادة في الأمن {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} إقواتها {رَغَدًا} واسعًا {مّن كُلّ مَكَانٍ} من جميع نواحيها، وغير أسلوب هذه الصفة عما تقدم إلى ما ترى لما أن إتيان الرزق متجدد وكونها آمنة مطمئنة ثابت مستمر، وذكر الإمام أن الآية تضمنت ثلاث نعم جمعها قولهم:
ثلاثة ليس لها نهاية ** الأمن والصحة والكفاية

فآمنة إشارة إلى الأمن و{مُّطْمَئِنَّةً} إلى الصحة و{يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} إلخ. إلى الكفاية، وجعل سبب الاطمئنان ملاءمة هواء البلد لأمزجة أهله وفيه تأمل {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} جمع نعمة كشدة وأشد على ترك الاعتداد بالتاء لأن المطرد جمع فعل على أفعال لا فعلة، وقال الفاضل اليمني: اسم جمع للنعمة، وقطرب جمع نعم بضم النون كبؤس وأبؤس، والنعم عنده بمعنى النعيم، وحمل على ذلك قولهم: هذا يوم طعم ونعم، وعند غيره بمعنى النعمة، والمراد بالنعم ما تضمنته الآية قبل؛ ولعله في قوة نعم كثيرة بل هو كذلك، وفي إيثار جمع القلة إيذان بأن كفران نعم قليلة أوجبت هذا العذاب فما ظنك بكفران نعم كثيرة {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} شبه أثر الجوع والخوف وضررهما الغاشي باللباس بجامع الإحاطة والاشتمال فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة المستعارقة للإصابة، وأوثرت للدلالة على شدة التأثير التي تفوت لو استعملت الإصابة، وبينوا العلاقة بأن المدرك من أثر الضرر شبه بالمدرك من طعم المر البشع من باب استعارة محسوس لمعقول لأن الوجدانيات لزت في قرن العقليات، وكذا يقال في الأول، ولشيوع استعمال الإذاقة في ذلك وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة ولذا جعل إيقاعها على اللباس تجريدًا، فإن التجريد إنما يحسن أو يصح بالحقيقة أو ما ألحق بها من المجاز الشائع، فلا فرق في هذا بين أذاقها إياه وأصابها به، وإنما لم يقل: فكساها إيثارًا للترشيح لئلا يفوت ما تفيده الإذاقة من التأثير والإدراك وطعم الجوع لما في اللباس من الدلالة على الشمول وصاحب المفتاح حمل اللباس على انتقاع اللون ورثاثة الهيئة اللازمين للجوع والخوف، والاستعارة حينئذ من باب استعارة المحسوس للمحسوس، وما ذكر أولًا أولى إذ لا يجل موقع الإذاقة وتكون الإصابة أبلغ موقعًا.
ونقل عن الأصحاب أن لفظ اللباس عندهم تخييل، وبين ذلك بأن يشبه الجوع والخوف في التأثير بذي لباس قاصد للتأثير مبالغ فيه فيخترع له صورة كاللباس ويطلق عليها اسمه واعترض بأن ذلك لا يلائم بلاغة القرآن العظيم لأن الجوع إذا شبه بالمؤثر القاصد الكامل فيما تولاه ناسب أن تخترع له صورة ما يكون آلة للتأثير لا صورة اللباس الذي لا مدخل له فيه، وتعقب بأن صاحب المفتاح يرى أن التخييلية مسعملة في أمر وهيم توهمه المتكلم شبيهًا بمعناه الحقيقي فاللباس إذا كان تخييلًا يجوز أن يكون المراد به أمرًا مشتملًا على الجوع اشتمال اللباس كالقحط ومشتملًا على الخوف كإحاطة العدو فلا وجه لقوله: صورة اللباس مما لا دخل له في التأثير، والقول بأنه لا يناسب مع الفاعل إلا ذكر الآلة للتثير ما لم يصرح به أحد من القوم ولا يتأتى التزامه في كل مكنية، ألا تراك لو قلت مسافة القريض ما زال يطويها حتى نزل ببابه على تشبيه المدح بمسافر ثبت له المسافة تخييلًا وما بعده ترشيح كانت استعارة حسنة وليس قرينتها آلة لذلك الفاعل بل أمر من لوازمه، ومثله كثير في كلام البلغاء اهـ.
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يفيد عند صحيح التخيل تمييز ما نقل عن الأصحاب على ما ذكر أولًا ولا مساواته له، والمشهور أن في {لِبَاسَ} استعارتين تصريحية ومكنية، وبين ذلك بأن شبه ما غشى الإنسان عند الجوع والخوف من أثر الضرر من حيث الاشتمال باللباس فاستعير له اسمه ومن حيث الكراهة بالطعم المر البشع فيكون استعارة مصرحة نظر إلى الأول ومكنية إلى الثاني وتكون الإذاقة تخييلًا، وفيه بحث مشهور بين الطلبة، وجوز أن يكون لباس {الجوع} كلجين الماء أي أذاقها الله الجوع الذي هو في الإحاطة كاللباس، والأول أيضًا أولى، ومثل ذلك قول كثير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ** غلقت لضحكته رقاب المال

فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صوت الرداء لما يلقى عليه وأضاف إليه الغمر وهو في وصف المعروف استعارة جرت مجرى الحقيقة وحقيقته من الغمرة وهي معظم الماء وكثرته، وتقديم {الجوع} الناشيء من فقدان الرزق على {الخوف} المترتب على زوال الأمن المقدم فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسب بالإذاقة أو لمراعاة المقارنة بين ذلك وبين إتيان الرزق.
وفي مصحف أبي: {لِبَاسَ الخوف والجوع} بتقديم الخوف، وكذا قرأ عبد الله إلا أنه لم يذكر اللباس وعد ذلك أبو حيان تفيرًا لا قراءة، وروى العباس عن أبي عمرو أنه قرأ: {والخوف} بالنصب عطفًا على {لِبَاسَ} وجعله الزمخشري على حذف مضاف وإقامة المضاف مقامه أي ولباس الخوف.
وقال صاحب اللوامح يجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل، وفي مقابلة ما تقدم بالجوع والخوف فقط ما يشير إلى عد الأمن والاطمئنان كالشيء الواحد وإلا فكان الظاهر فإذاقها الله لباس الجوع والخوف والانزعاج {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} فيما قبل أو على وجه الاستمرار وهو الكفران المذكور، و{مَا} موصولة والعائد محذوف أي يصنعونه، وجوز أن تكون مصدرية والباء على الوجهين سببية والضميران قيل: عائدان على أهل المقدر المضاف إلى القرية بعد ما عادت الضمائر السابقة إلى لفظها، وقيل: عائدان إلى القرية مرادًا بها أهلها.
وفي إرشاد العقل السليم أسند ما ذكر إلى أهل القرية تحقيقًا للأمر بعد إسناد الكفران إليها وإيقاع الإذاقة عليها إرادة للمبالغة، وفي صيغة الصنعة إيذان بأن كفران الصنيعة صنعة راسخة لهم وسنة مسلوكة.
{وَلَقَدْ جَاءهُمْ} من تتمة التمثيل، والضمير فيه عائد على من عاد إليه الضميران قبله، وجيء بذلك لبيان أن ما صنعوه من كفران أنعم الله تعالى لم يكن مزاحمة منهم لقضية العقل فقط بل كان ذلك معارضة لحجة الله تعالى على الخلق أيضًا أي ولقد جاء أهل تلك القرية {رَسُولٌ مّنْهُمْ} أي من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة وأنذرهم بسوء عاقبة ما هم عليه {فَكَذَّبُوهُ} في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر، فالفاء فصيحة وعدم ذكر ما أفصحت عنه للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم {فَأَخَذَهُمُ العذاب} المستأصل لشأفتهم غب ما ذاقوا منه ما سمعت {وَهُمْ ظالمون} أي حال التباسهم بالظلم وهو الكفران والتكذيب غير مقلعين عنه بما ذاقوا من المقدمات الزاجرة عنه، وفيه دلالة على تماديهم في الكفر والعناد وتجاوزهم في ذلك كل حد معتاد.
وترتيب أخذ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وبه يتم التمثيل فإن حال أهل مكة سواء ضرب المثل لهم خاصة أو لهما ولمن سار سيرتهم كافة أشبه بحال أهل تلك القرية من الغراب بالغراب فقد كانوا في حرم آمن يتخطف الناس من حولهم ولا يمر ببالهم طيف من الخوف ولايزعج قطا قلويهم مزعج وكانت تجيء إليه ثمرات كل شيء ولقد جاءهم رسول منهم وأي رسول تحار في إدراك سمو مرتبته العقول صلى الله عليه وسلم ما اختلف الدبور والقبول فأنذرهم وحذرهم فكفروا بأنعم الله تعلى وكذبوه عليه الصلاة والسلام فأذاقهم الله تعالى لباس الجوع والخوف حيث أصابهم بدعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» ما أصابهم من جدب شديد وأزمة ما عليها مزيد فاضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعطام المحروقة والعلهز وهو طعام يتخذ في سني المجاعة من الدم والوبر وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وعيرهم وقوافلهم ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب هذا ما اختاره شيخ الإسلام وقال: إنه الذي يقتضيه المقام ويستدعيه النظام، وأما ما أجمع عليه أكثر أهل التفسير من أن الضمير في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءهُمْ} لأهل مكة والكلام انتقال إلى ذكر حالهم صريحًا بعد ذكر مثلهم وأن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبالعذاب ما أصابهم من الجدب ووقعة بدر فبمعزل عن التحقيق كيف لا وقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} مفرع على نتيجة التمثيل وصد لهم عما يؤدي إلى مثل عاقبته. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}.
قال بعض أهل العلم: إن هذا مثلٌ ضربه الله لأهل مكة، وهو رواية العوفي عن ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وحكاه مالك عن الزهري رحمهم الله، نقله عنهم ابن كثير وغيره.
وهذا الصفات المذكورة التي اتصفت بها هذا القرية- تتفق مع صفات أهل مكة المذكورة في القرآن. فقوله عن هذه القرية {كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّة} قال نظيره عن أهل مكة. كقوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص: 57]. الآية، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]. الآية، وقوله: {الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف} [قريش: 4]، وقوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]. الاية، وقوله: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ} قال نظيره عن أهل مكة أيضًا كقوله: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]، وقوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتاء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4]. فإن رحلة الشتء كانت إلى اليمن، ورحلة الصيف كانت إلى الشام، وكانت تأتيهم من كلتا الرحلتين أموال وأرزاق، ولذا أتبع الرحلتين بامتنانه عليهم: بأن أطعمهم من جوع، وقوله في دعوة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} [البقرة: 126]. {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات} [إبراهيم: 37]. الآية.
وقوله: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} ذكره نظيره عن أهل مكة في آيات كثيرة. كقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} [إبراهيم: 28].
وقد قدمنا طرفًا من ذلك في الكام على قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل: 83]. الآية.
وقوله: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وقع نظيره قطعًا لأهل مكة. لما لجوا في الكفر والعناد، ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء، حتى أكلوا الجيف والعله. {وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه}، وأصابهم الخوف الشديد بعد الأمن، وذلك الخوف من جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزواته وبعوثه وسراياه، وهذا الجوع والخوف أشار لهما القرآن على بعض التفسيرات. فقد فسر ابن مسعود آية {الدخان} بما يدل على ذلك.
قال البخاري في صحيحه: باب {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} [الدخان: 10]. فارتقب: فاتنظر، حدثنا عبدان، عن أبي حمزة عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله قال: مضى خمس: الدخان، والروم والقمر، والبطشة، واللزام. {يَغْشَى الناس هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 11]. حدثنا يحيى، حدثنا أبو معاويه. عن الأعمش، عن مسلمن عن مسروق قالك قال عبد الله: إنما كان هذا لأن قريشًا لما استعصوا على السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد.
فأنزل الله تعالى: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى الناس هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 10-11]. فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، استسق الله لمضر فإنها قد هلكت! قال: لمضر؟! إنك لجريء! فاستسقى فسقوا. فنزلت {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} [الدخان: 15]. فلما أصابتهم الرفاهبة عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية. فأنزل الله عز وجل: {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان: 16]. يعني يوم بدر.
باب قوله تعالى: {رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُون} [الدخان: 12]. حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: دخلت على عبد الله فقال: إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم، إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين} [ص: 86]. إن قريشًا لما غلبوا النَّبي صلى الله عليه وسلم واستعصوا عليه قال: «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخار من الجوع قالوا. {رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُون} [الدخان: 12]. فقيل له: إن كشفنا عنهم عادوا. فدعا فكشف عنهم فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر. فذلك قوله: {يَوْمَ تَأْتِي السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} [الدخان: 10]. إلى قوله جل ذكره: {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان: 16]. انتهى بلفظه من صحيح البخاري.
وفي تفسير ابن مسعود رضي الله عنه لهذه الآية الكريمة- ما يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في {سورة النحل} من لباس الجوع أذيقه أهل مكة، حتى أكلوا العظام، وصار الرجل منهم يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع، وهذا التفسير من ابن مسعود رضي الله عنه له حكم الرفع. لما تقرر في علم الحديث: من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع. كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله:
تفسير صاحب له تعلق ** بالسبب الرفع له محقق

وكما هو معروف عند أهل اعلم، وقد قدمنا ذلك في سورة البقرة في الكلان: على قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222].