فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أي: لديها مُقوِّمات الحياة، فلا تحتاج إلى غيرها، فالحياة فيها مُستقرَّة مريحة، والإنسان لا يطمئن إلا في المكان الخالي من المنغِّصات، والذي يجد فيه كل مقومات الحياة، فالأمن والطمأنينة هما سِرُّ سعادة الحياة واستقرارها.
وحينما امتنَّ الله تعالى على قريش قال: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتاء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}.
[قريش: 1-4].
فطالما شبعت البطن، وأمنتْ النفس استقرت بالإنسان الحياة.
والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا صورة مُثْلى للحياة الدنيا، فيقول: «مَنْ أصبح معافىً في بدنه، آمنًا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».
ويصف الحق سبحانه هذه القرية بأنها: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ} [النحل: 112].
معلوم أن الناس هم الذين يخرجون لطلب الرزق، لكن في هذه القرية يأتي إليها الرزق، وهذا يُرجِّح القول بأنها مكة؛ لأن الله تعالى قال عنها: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].
ومن تيسَّر له العيش في مكة يرى فيها الثمرات والمنتجات من كل أنحاء العالم، وبذلك تمَّتْ لهم النعمة واكتملتْ لديهم وسائل الحياة الكريمة الآمنة الهانئة، فماذا كان منهم؟ هل استقبلوها بشكر الله؟ هل استخدموا نعمة عليهم في طاعته ومَرْضاته؟ لا.. بل: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} [النحل: 112].
أي: جحدت بهذه النعم، واستعملتها في مصادمة منهج الله وشريعته، فكانت النتيجة: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
وكأن في الآية تحذيرًا من الحق سبحانه لكل مجتمع كفر بنعمة الله، واستعمل النعمة في مصادمة منهجه سبحانه، فسوف تكون عاقبته كعاقبة هؤلاء.
{فَأَذَاقَهَا الله} [النحل: 112].
من الذوق، نقول: ذاق وتذوَّق الطعام إذا وضعه على لسانه وتذوَّقه، والذَّوْق لا يتجاوز حلمات اللسان. إذن: الذوْق خاصٌّ بطعْم الأشياء، لكن الله سبحانه لم يقُلْ: أذاقها طعم الجوع، بل قال: {لِبَاسَ الجوع والخوف} [النحل: 112].
فجعل الجوع والخوف وكأنهما لباسٌ يلبسه الإنسان، والمتأمل في الآية يطالع دقّة التعبير القرآني، فقد يتحول الجوع والخوف إلى لباس يرتديه الجائع والخائف، كيف ذلك؟
الجوع يظهر أولًا كإحساس في البطن، فإذا لم يجد طعامًا عوّض من المخزون في الجسم من شحوم، فإذا ما انتهتْ الشحوم تغذَّى الجسم على اللحم، ثم بدأ ينحت العظام، ومع شدة الجوع نلاحظ على البشرة شحوبًا، وعلى الجلد هُزَالًا وذبولًا، ثم ينكمش ويجفّ، وبذلك يتحول الجوع إلى شكل خارجي على الجلد، وكأنه لباس يرتديه الجائع.
وتستطيع أن تتعرف على الجوع ليس من بطن الجائع، ولكن من هيئته وشُحوب لونه وتغيُّر بشرته، كما قال تعالى عن الفقراء الذين لا يستطيعون ضربًا في الأرض: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافًا} [البقرة: 273].
وكذلك الخوف وإنْ كان موضعه القلب، إلا أنه يظهر على الجسم كذلك، فإذا زاد الخوف ترتعد الفرائص، فإذا زاد الخوف يرتعش الجسم كله، فيظهر الخوف عليه كثوب يرتديه.
وهكذا جَسَّد لنا التعبير القرآني هذه الأحاسيس الداخلية، وجعلها محسوسة تراها العيون، ولكنه أدخلها تحت حاسَّة التذوق؛ لأنها أقوى الحواسّ.
وفي تشبيه الجوع والخوف باللباس ما يُوحي بشمولهما الجسم كله، كما يلفّه اللباس فليس الجوع في المعدة فقط، وليس الخوف في القلب فقط.
ومن ذلك ما اشتُهِر بين المحبين والمتحدثين عن الحب أن محله القلب، فنراهم يتحدثون عن القلوب، كما قال الشاعر:
خَطَرَاتُ ذِكْرِكَ تَسْتَسِيغُ مَودَّتي ** فَأُحِسُّ مِنْها في الفُؤادِ دَبِيبَا

فإذا ما زاد الحب وتسامى، وارتقت هذه المشاعر، تحوَّل الحب من القلب، وسكَن جميع الجوارح، وخالط كل الأعضاء، على حَدِّ قول الشاعر:
لاَ عُضْو لِي إِلاَّ وَفِيهِ صَبَابةٌ ** فَكأنَّ أَعْضَائِي خُلِقْنَ قُلُوبَا

وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
أي: أن الحق سبحانه ما ظلمهم وما تجنَّى عليهم، بل ما أصابهم هو نتيجة عملهم وصدودهم عن سبيل الله، وكفرهم بأنعمه، فحبسها الله عنهم، فهم الذين قابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصُّدود والجحود والنكران، وتعرَّضوا له ولأصحابه بالإيذاء وبيَّتوا لقتله، حتى دعا عليهم قائلًا: «اللهم اشْدُدْ وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف».
فاستجاب الحق سبحانه لنبيه، وألبسهم لباس الجوع والخوف، حتى إنهم كانوا يأكلون الجيف، ويخلطون الشعر والوبر بالدم فيأكلوه.
وظلوا على هذا الحال سبع سنين حتى ضَجُّوا، وبلغ بهم الجَهْد والضَّنْك مُنْتهاه، فأرسلوا وفدًا منهم لرسول الله، فقالوا: هذا عملك برجال مكة، فما بال صبيانها ونسائها؟ فكان صلى الله عليه وسلم يرسل لهم ما يأكلونه من الحلال الطيب.
أما لباس الخوف فتمثَّل في السرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لترهبهم وتزعجهم؛ ليعلموا أن المسلمين أصبحتْ لهم قوة وشوكة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ}.
رأينا كيف كانت النعمة تامة على أهل مكة، وقد تمثلت هذه النعمة في كَوْنها آمنة مطمئنة، وهذه نعمة مادية يحفظ الله بها القالب الإنساني، لكنه ما يزال في حاجة إلى ما يحفظ قِيَمه وأخلاقه.
وهذه هي نعمة النعم، وقد امتنَّ الله عليهم بها حينما أرسل فيهم رسولًا منهم، فما فائدة النعم المادية في بلد مهزوزة القيم، مُنْحلة الأخلاق، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُقوِّم ما اعوجّ من سلوكهم، ويُصلح ما فسد من قِيَمهِم ومبادئهم.
وقوله: {مِّنْهُمْ} [النحل: 113].
أي: من جنسهم، وليس غريبًا عنهم، وليس من مُطْلق العرب، بل من قريش أفضل العرب وأوسطها.
يقول تعالى: {فَكَذَّبُوهُ} [النحل: 113].
وكان المفترض فيهم أن يستقبلوه بما علموا عنه من صفات الخير والكمال، وبما اشتهر به بينهم من الصدق والأمانة، ولكنهم كما كفروا بالنعم المادية كفروا أيضًا بالنعم القيمية متمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: {فَأَخَذَهُمُ العذاب} [النحل: 113].
مَنِ الذي أخذهم؟
لم تقُلْ الآية: أخذهم الله بالعذاب، بل: أخذهم العذاب، كأن العذابَ نفسه يشتاق لهم، وينقضُّ عليهم، ويسارع لأخذهم، ففي الآية تشخيص يُوحي بشدة عذابهم.
كما قال تعالى في آية أخرى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30]. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)}.
قوله: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمانه} قد اختلف أهل العلم في إعرابه، فذهب الأكثرون على أنه بدل إما من {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله} وما بينهما اعتراض، والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره، فلا يدخل تحت حكم الافتراء.
ثم قال: {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي: اعتقده وطابت به نفسه واطمأن إليه {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} وإما من المبتدأ الذي هو {أولئك} أو من الخبر الذي هو {الكاذبون}.
وذهب الزجاج إلى الأوّل.
وقال الأخفش: إن {من} مبتدأ وخبره محذوف اكتفي منه بخبر {من} الثانية، كقولك: من يأتنا منكنّ نكرمه.
وقيل: هو أي: {من} في {من كفر} منصوب على الذمّ؛ وقيل: إن من شرطية والجواب محذوف لأن جواب {من شرح} دالّ عليه، وهو كقول الأخفش، وإنما خالفه في إطلاق لفظ الشرط على من والجواب على خبرها، فكأنه قيل على هذا من كفر بالله فعليهم غضب إلاّ من أكره، ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب، وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما لا يظهر إلاّ من الكافر لولا الإكراه ـ.
قال القرطبي: أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر.
وحكي عن محمد بن الحسن أنه إذا أظهر الكفر، كان مرتدًا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله على الإسلام، وتبين منه امرأته، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلمًا، وهذا القول مردود على قائله، مدفوع بالكتاب والسنّة.
وذهب الحسن البصري، والأوزاعي، والشافعي، وسحنون إلى أن هذه الرخصة المذكورة في هذه الآية إنما جاءت في القول.
وأما في الفعل فلا رخصة، مثل أن يكره على السجود لغير الله، ويدفعه ظاهر الآية، فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول، وخصوص السبب، لا اعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرر في علم الأصول.
وجملة {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} في محل نصب على الحال من المستثنى، أي: إلا من كفر بإكراه، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته، وليس بعد هذا الوعيد العظيم، وهو الجمع للمرتدين، بين غضب الله وعظيم عذابه.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الكفر بعد الإيمان، أو إلى الوعيد بالغضب والعذاب، والباء في {بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا} للسببية، أي: ذلك بسبب تأثيرهم للحياة الدنيا {على الآخرة وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين} معطوف على {أَنَّهُمْ استحبوا} أي: ذلك بأنهم استحبوا، وبأن الله لا يهدي القوم الكافرين إلى الإيمان به.
ثم وصفهم بقوله: {أولئك} أي: الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة {الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم} فلم يفهموا المواعظ ولا سمعوها، ولا أبصروا الآيات التي يستدل بها على الحق.
وقد سبق تحقيق الطبع في أوّل البقرة، ثم أثبت لهم صفة نقص غير الصفة المتقدّمة، فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الغافلون} عما يراد بهم، وضمير الفصل يفيد أنهم متناهون في الغفلة، إذ لا غفلة أعظم من غفلتهم هذه.
{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ في الآخرة هُمُ الخاسرون} أي: الكاملون في الخسران، البالغون إلى غاية منه ليس فوقها غاية، وقد تقدّم تحقيق الكلام في معنى {لاَ جَرَمَ} في مواضع، منها ما هو في هذه السورة.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا} من دار الكفر إلى دار الإسلام، وخبر {إن} محذوف، والتقدير: لغفور رحيم، وإنما حذف لدلالة خبر {إن ربك} المتأخرة عليه.
وقيل: الخبر هو {للذين هاجروا} أي: إن ربك لهم بالولاية والنصرة لا عليهم، وفيه بعد.
وقيل: إن خبرها هو قوله: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، و{إن ربك} الثانية تأكيد للأولى.
قال في الكشاف: {ثم} ها هنا للدلالة على تباعد حال هؤلاء، يعني: الذين نزلت الآية فيهم عن حال أولئك، وهم عمار وأصحابه، ويدل على ذلك ما روي أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح، وسيأتي بيان ذلك {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أي: فتنهم الكفار بتعذيبهم لهم ليرجعوا في الكفر، وقرئ {فتنوا} على البناء للفاعل، أي: الذين فتنوا المؤمنين وعذبوهم على الإسلام {ثُمَّ جاهدوا} في سبيل الله {وصبروا} على ما أصابهم من الكفار، وعلى ما يلقونه من مشاق التكليف {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير الغفران والرحمة لهم.
ومعنى الآية على قراءة من قرأ: {فتنوا} على البناء للفاعل واضح ظاهر، أي: إن ربك لهؤلاء الكفار الذين فتنوا من أسلم وعذبوهم، ثم جاهدوا وصبروا لغفور رحيم.
وأما على قراءة البناء للمفعول وهي قراءة الجمهور، فالمعنى: أن هؤلاء المفتونين الذين تكلموا بكلمة الكفر مكرهين وصدورهم غير منشرحة للكفر إذا صلحت أعمالهم وجاهدوا في الله وصبروا على المكاره لغفور لهم، رحيم بهم.
وأما إذا كان سبب الآية هذه هو عبد الله بن أبي سرح الذي ارتدّ عن الإسلام ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام، فالمعنى: أن هذا المفتون في دينه بالردّة إذا أسلم وجاهد وصبر، فالله غفور له، رحيم به.
والضمير في {بعدها} يرجع إلى الفتنة، أو إلى المهاجرة والجهاد والصبر، أو إلى الجميع.
{يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا} قال الزجاج: {يوم تأتي} منتصب بقوله: {رحيم}، أو بإضمار اذكر، أو ذكرهم، أو أنذرهم، وقد استشكل إضافة ضمير النفس إلى النفس، ولابد من التغاير بين المضاف والمضاف إليه.
وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى: جملة بدن الإنسان، وبالنفس الثانية: الذات، فكأن قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، لا يهمه غيرها.
ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها، فهو مجادل ومخاصم عن نفسه، لا يتفرّغ لغيرها يوم القيامة.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه: «تفرّقوا عني، فمن كانت به قوّة فليتأخر إلى آخر الليل، ومن لم تكن به قوّة فليذهب في أوّل الليل، فإذا سمعتم بي قد استقرّت بي الأرض فألحقوا بي»، فأصبح بلال المؤذن، وخباب، وعمار، وجارية من قريش كانت أسلمت، فأخذهم المشركون وأبو جهل، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى، فجعلوا يضعون درعًا من حديد في الشمس، ثم يلبسونها إياه، فإذا ألبسوها إياه، قال: أحد أحد، وأما خباب، فجعلوا يجرّونه في الشوك، وأما عمار، فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربع أوتاد، ثم مدّها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم، واشتدّ على عمار الذي كان تكلم به.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أكان منشرحًا بالذي قلت أم لا»؟ قال لا، فأنزل الله {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان}.
وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فتركوه، فلما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما وراءك؟» قال: شرّ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: «كيف تجد قلبك»؟ قال: مطمئنًا بالإيمان.
قال: «إن عادوا فعد» فنزلت {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} قال: ذاك عمار بن ياسر {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} عبد الله بن أبي سرح.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن عساكر عن أبي مالك في قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} قال: نزلت في عمار بن ياسر، وفي الباب روايات مصرّحة بأنها نزلت في عمار ابن ياسر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: نزلت هذه الآية {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} في عياش بن أبي ربيعة.
وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: في سورة النحل {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ثم نسخ واستثنى من ذلك فقال: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} الآية قال: وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزله الشيطان، فلحق بالكفار. فأمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان بن عفان، فأجاره النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن مثله.
وأخرج ابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} فيمن كان يفتن من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان قوم من أهل مكة قد أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فنزلت فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا} الآية، فكتبوا إليهم بذلك: إنّ الله قد جعل لكم مخرجًا فأخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم، فنجا من نجا، وقتل من قتل.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن: أن عيونًا لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين، فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم.
قال: أتشهد أني رسول الله؟ فأهوى إلى أذنيه فقال: إنّي أصمّ، فأمر به فقتل.
وقال للآخر: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فأرسله فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: «أما صاحبك، فمضى على إيمانه، وأما أنت فأخذت بالرخصة» وهو مرسل. اهـ.