فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}.
ختم الدرس الماضي بقوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} وفي هذا الدرس بيان لبعض ما في الكتاب من التبيان والهدى والرحمة والبشرى. فيه الأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وفيه الأمر بالوفاء بالعهد والنهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها.، وكلها من مبادئ السلوك الأساسية التي جاء بها هذا الكتاب.
وفيه بيان الجزاء المقرر لنقض العهد واتخاذ الأيمان للخداع والتضليل، وهو العذاب العظيم، والبشرى للذين صبروا وتوفيتهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
ثم يذكر بعض آداب قراءة هذا الكتاب، وهو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، لطرد شبحه من مجلس القرآن الكريم. كما يذكر بعض تقولات المشركين عن هذا الكتاب. فمنهم من يرمي الرسول صلى الله عليه وسلم بافترائه على الله، ومنهم من يقول: إن غلامًا أعجميًا هو الذي يعلمه هذا القرآن!
وفي نهاية الدرس يبين جزاء من يكفر بعد أيمانه، ومن يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ومن فتنوا عن دينهم ثم هاجروا وجاهدوا وصبروا.، وكل أولئك تبيان، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا تتخذون أيمانكم دخلًا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون}.
لقد جاء هذا الكتاب لينشيء أمة وينظم مجتمعًا، ثم لينشيء عالمًا ويقيم نظامًا. جاء دعوة عالمية إنسانية لا تعصب فيها لقبيلة أو أمة أو جنس؛ إنما العقيدة وحدها هي الآصرة والرابطة والقومية والعصبية.
ومن ثم جاء بالمبادئ التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات، واطمئنان الأفراد والأمم والشعوب، والثقة بالمعاملات والوعود والعهود:
جاء {بالعدل} الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالود والبغض، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والغنى والفقر، والقوة والضعف. إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع.
وإلى جوار العدل.. {الإحسان}. يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحًا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثارًا لود القلوب، وشفاء لغل الصدور، ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحًا أو يكسب فضلًا.
والإحسان أوسع مدلولًا، فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعًا.
ومن الإحسان {إيتاء ذي القربى} إنما يبرز الأمر به تعظيمًا لشأنه، وتوكيدًا عليه، وما يبني هذا على عصبية الأسرة، إنما يبنيه على مبدأ التكافل الذي يتدرج به الإسلام من المحيط المحلي إلى المحيط العام، وفق نظريته التنظيمية لهذا التكافل.
{وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي}، والفحشاء كل أمر يفحش أي يتجاوز الحد، ومنه ما خصص به غالبًا وهو فاحشة الاعتداء على العرض، لأنه فعل فاحش فيه اعتداء وفيه تجاوز للحد حتى ليدل على الفحشاء ويختص بها، والمنكر كل فعل تنكره الفطرة ومن ثم تنكره الشريعة فهي شريعة الفطرة، وقد تنحرف الفطرة أحيانًا فتبقى الشريعة ثابتة تشير إلى أصل الفطرة قبل انحرافها، والبغي الظلم وتجاوز الحق والعدل.
وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي.. ما من مجتمع تشيع فيه الفاحشة بكل مدلولاتها، والمنكر بكل مغرراته، والبغي بكل معقباته، ثم يقوم..
والفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة، مهما تبلغ قوتها، ومهما يستخدم الطغاة من الوسائل لحمايتها، وتاريخ البشرية كله انتفاضات وانتفاضات ضد الفحشاء والمنكر والبغي. فلا يهم أن تقوم عهود وأن تقوم دول عليها حينًا من الدهر، فالانتقاض عليها دليل على أنها عناصر غريبة على جسم الحياة، فهي تنتفض لطردها، كما ينتفض الحي ضد أي جسم غريب يدخل إليه، وأمر الله بالعدل والإحسان ونهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي يوافق الفطرة السليمة الصحيحة، ويقويها ويدفعها للمقاومة باسم الله. لذلك يجيء التعقيب: {يعظكم لعلكم تذكرون} فهي عظة للتذكر تذكر وحي الفطرة الأصيل القويم.
{وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا إن الله يعلم ما تفعلون}.
والوفاء بعهد الله يشمل بيعة المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم ويشمل كل عهد على معروف يأمر به الله، والوفاء بالعهود هو الضمان لبقاء عنصر الثقة في التعامل بين الناس، وبدون هذه الثقة لا يقوم مجتمع، ولا تقوم إنسانية، والنص يخجل المتعاهدين أن ينقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله كفيلًا عليهم، وأشهدوه عهدهم، وجعلوه كافلًا للوفاء بها. ثم يهددهم خفيًا {إن الله يعلم ما تفعلون}.
وقد تشدد الإسلام في مسألة الوفاء بالعهود فلم يتسامح فيها أبدًا، لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم، والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر بالوفاء والنهي عن النقض إنما تستطرد لضرب الأمثال، وتقبيح نكث العهد، ونفي الأسباب التي قد يتخذها بعضهم مبررات: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا تتخذون أيمانكم دخلًا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون}.
فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة أخرى قطعًا منكوثة ومحلولة! وكل جزئية من جزيئات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجب، وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب، وهو المقصود، وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه!
وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول صلى الله عليه وسلم بأن محمدًا ومن معه قلة ضعيفة، بينما قريش كثرة قوية. فنبههم إلى أن هذا ليس مبررًا لأن يتخذوا أقسامهم غشًا وخديعة فيتخلوا عنها: {تتخذون أيمانكم دخلًا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة} أي بسبب كون أمة أكثر عددًا وقوة من أمة، وطلبًا للمصلحة مع الأمة الأربى.
ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقًا لما يسمى الآن مصلحة الدولة فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر، تحقيقًا لمصلحة الدولة! فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر، ويجزم بالوفاء بالعهد، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل. ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهدًا ولا تعاونًا على غير البر والتقوى، ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان، وأكل حقوق الناس، واستغلال الدول والشعوب.، وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية فنعم العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام.
والنص هنا يحذر من مثل ذلك المبرر، وينبه إلى قيام مثل هذه الحالة: {أن تكون أمة هي أربى من أمة} هو ابتلاء من الله لهم ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم على أنفسهم وتحرجهم من نقض العهد الذي أشهدوا الله عليه: {إنما يبلوكم الله به} ثم يكل أمر الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى الله في يوم القيامة للفصل فيه: {وليبيِّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة: {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون}، ولو شاء الله لخلق الناس باستعداد واحد، ولكنه خلقهم باستعدادات متفاوتة، نسخًا غير مكررة ولا معادة، وجعل نواميس للهدى والضلال، تمضي بها مشيئته في الناس، وكل مسؤول عما يعمل. فلا يكون الاختلاف في العقيدة سببًا في نقض العهود.
فالاختلاف له أسبابه المتعلقة بمشيئة الله، والعهد مكفول مهما اختلفت المعتقدات، وهذه قمة في نظافة التعامل، والسماحة الدينية، لم يحققها في واقع الحياة إلا الإسلام في ظل هذا القرآن.
ويمضي السياق في توكيده للوفاء بالعهود، ونهيه عن اتخاذ الأيمان للغش والخديعة، وبث الطمأنينة الكاذبة للحصول على منافع قريبة من منافع هذه الدنيا الفانية، ويحذر عاقبة ذلك في زعزعة قوائم الحياة النفسية والاجتماعية، وزلزلة العقائد والارتباطات والمعاملات، وينذر بالعذاب العظيم في الآخرة، ويلوح بما عند الله من عوض عما يفوتهم بالوفاء من منافع هزيلة، وينوه بفناء ما بأيديهم وبقاء ما عند الله الذي لا تنفد خزائنه، ولا ينقطع رزقه: {ولا تتخذوا أيمانكم دخلًا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمنًا قليلًا إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.
واتخاذ الأيمان غشًا وخداعًا يزعزع العقيدة في الضمير، ويشوه صورتها في ضمائر الآخرين. فالذي يقسم وهو يعلم أنه خادع في قسمه، لا يمكن أن تثبت له عقيدة، ولا أن تثبت له قدم على صراطها، وهو في الوقت ذاته يشوه صورة العقيدة عند من يقسم لهم ثم ينكث، ويعلمون أن أقسامه كانت للغش والدخل؛ ومن ثم يصدهم عن سبيل الله بهذا المثل السيئ الذي يضربه للمؤمنين بالله.
ولقد دخلت في الإسلام جماعات وشعوب بسبب ما رأوا من وفاء المسلمين بعهدهم، ومن صدقهم في وعدهم، ومن إخلاصهم في أيمانهم، ومن نظافتهم في معاملاتهم. فكان الكسب أضخم بكثير من الخسارة الوقتية الظاهرية التي نشأت عن تمسكهم بعهودهم.
ولقد ترك القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين أثرًا قويًا وطابعًا عامًا في هذه الناحية ظل هو طابع التعامل الإسلامي الفردي والدولي المتميز.. روي أنه كان بين معاوية بن أبي سفيان وملك الروم أمد، فسار إليهم في أخر الأجل. {حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون} فقال له عمر بن عتبة: الله أكبر يا معاوية، وفاء لا غدر. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقده حتى ينقضي أمدها» فرجع معاوية بالجيش، والروايات عن حفظ العهود مهما تكن المصلحة القريبة في نقضها متواترة مشهورة.
وقد ترك هذا القرآن في النفوس ذلك الطابع الإسلامي البارز، وهو يرغب ويرهب، وينذر ويحذر ويجعل العهد عهد الله، ويصور النفع الذي يجره نقضه ضئيلًا هزيلًا، وما عند الله على الوفاء عظيمًا جزيلًا: {ولا تشتروا بعهد الله ثمنًا قليلًا إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون}، ويذكر بأن ما عند البشر ولو ملكه فرد فإنه زائل، وما عند الله باق دائم: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق}، ويقوي العزائم على الوفاء، والصبر لتكاليف الوفاء، ويعد الصابرين أجرًا حسنًا {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} والتجاوز عما وقع منهم من عمل سيئ، ليكون الجزاء على أحسن العمل دون سواه.
وبمناسبة العمل والجزاء، يعقب بالقاعدة العامة فيهما: {ومن عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}. فيقرر بذلك القواعد التالية:
أن الجنسين: الذكر والأنثى. متساويان في قاعدة العمل والجزاء، وفي صلتهما بالله، وفي جزائهما عند الله، ومع أن لفظ {من} حين يطلق يشمل الذكر والأنثى إلا أن النص يفصل: {من ذكر أو أنثى} لزيادة تقرير هذه الحقيقة، وذلك في السورة التي عرض فيها سوء رأي الجاهلية في الأنثى، وضيق المجتمع بها، واستياء من يبشر بمولدها، وتواريه من القوم حزنًا وغمًا وخجلًا وعارًا!
وأن العمل الصالح لابد له من القاعدة الأصيلة يرتكز عليها. قاعدة الإيمان بالله {وهو مؤمن} فبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء، وبغير هذه الرابطة لا يتجمع شتاته، إنما هو هباء كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، والعقيدة هي المحور الذي تشد إليه الخيوط جميعًا، وإلا فهي أنكاث. فالعقيدة هي التي تجعل للعمل الصالح باعثًا وغاية. فتجعل الخير أصيلًا ثابتًا يستند إلى أصل كبير. لا عارضًا مزعزعًا يميل مع الشهوات والأهواء حيث تميل.
وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض. لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال. فقد تكون به، وقد لا يكون معها، وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية: فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة.، وليس المال إلا عنصرًا واحدًا يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله.