فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ثم إنّ ربّك للذين عملوا السُّوء بجهالةٍ}.
فيه وجهان:
أحدها: بجهالة أنها سوء.
الثاني: بجهالة لغلبة الشهوة عليهم مع العلم بأنها سوء.
ويحتمل ثالثًا: أنه الذي يعجل بالإقدام عليها ويعد نفسه بالتوبة.
{ثم تابوا مِنْ بعد ذلك وأصْلَحوا} لأنه مجرد التوبة من السالف إذا لم يصلح عمله في المستأنف لا يستحق ولا يستوجب الثواب. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}.
هذه الآية مخاطبة للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كانت ميتة يدل على ذلك قوله حكاية عنهم {وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء} [الأنعام: 139]، والآية تقتضي كل ما كان لهم من تحليل وتحريم فإنه كله افتراء منهم، ومنه ما جعلوه في الشهور، وقرأ السبعة وجمهور الناس {الكَذِبَ} بفتح الكاف وكسر الذال وفتح الباء، و{ما} مصدرية فكأنه قال لوصف ألسنتكم الكذب، وقرأ الأعرج وأبو طلحة وأبو معمر والحسن، {الكذبِ} بخفض الباء على البدل من {ما}، وقرأ بعض أهل الشام ومعَاذ بن جبل وابن أبي عبلة {الكُذُبُ} بضم الكاف والذال والباء على صفحة الألسنة، وقرأ مسلمة بن محارب {الكذبَ} بفتح الباء {الكُذُبَ} بفتح الباء على أنه جمع كذاب ككتب في جمع كتاب، وقوله: {هذا حلال} إشارة إلى ميتة بطون الأنعام وكل ما أحلوا، وقوله: {وهذا حرام} إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموا، وقوله: {لتفتروا على الله الكذب}، إشارة إلى قولهم في فواحشهم التي هذه إحداها، وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سننًا لا يرضاها الله افتراء عليه، لأن من شرع أمرًا فكأنه قال لأتباعه هذا هو الحق، وهذا مراد الله، ثم أخبرهم الله {إن الذين يفترون على الله الكذب} لا يبلغون الأمل، والفلاح بلوغ الأمل، فطورًا يكون في البقاء كما قال الشاعر، والصبح والمسى لافلاح معه، ويشبه أن هذه الآية من هذا المعنى، يقوي ذلك قوله: {متاع قليل}، وقد يكون في المساعي ومنه قول عبيد: بالرجز.
أفلح بما شئت فقد يبلغ ** بالضعف وقد يخدع الأريب

وقوله: {متاع قليل} إشارة إلى عيشهم في الدنيا، {ولهم عذاب أليم} بعد ذلك في الآخرة، وقوله: {وعلى الذين هادوا} الآية، لما قص تعالى على المؤمنين ما حرم عليهم أعلم أيضًا بما حرم على اليهود ليبين تبديلهم الشرع فيما استحلوا من ذلك وفيما حرموا من تلقاء أنفسهم، وقولهم {ما قصصنا عليك}، إشارة إلى ما في سورة الأنعام من ذي الظفر والشحوم الآية: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام: 146]، وقوله: {وما ظلمناهم} أي لم نضع العقوبة بتحريم تلك الأشياء عليهم في غير موضعها، بل هم طرقوا إلى ذلك وجاء من تسبيبهم بالمعاصي ما أوجب ذلك، وقوله: {ثم إن ربك للذين عملوا السوء} هذه آية تأنيس لجميع العالم، أخبر الله تعالى فيها أنه يغفر للتائب، والآية إشارة إلى الكفار الذين افتروا على الله وفعلوا الأفاعيل المذكورة، فهم إذا تابوا من كفرهم بالإيمان وأصلحوا من أعمال الإسلام غفر الله لهم، وتناولت هذه الآية بعد ذلك كل واقع تحت لفظها من كافر وعاص.
وقالت فرقة الجهالة العمد، والجهالة عندي في هذا الموضع ليست ضد العلم بل هي تعدي الطور وركوب الرأس، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أو أجهل أو يجهل علي» وهي التي في قول الشاعر، الوافر.
ألا لا يجهلنْ أحد علينا ** فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا

والجهالة التي هي ضد العلم تصحب هذه الأخرى كثيرًا، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر، وقلما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع، والضمير في {بعدها} عائد على التوبة. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}.
فيه مسألتان:
الأولى قوله تعالى: {لِمَا تَصِفُ} ما هنا مصدرية، أي لوصف.
وقيل: اللام لام سبب وأجل، أي لا تقولوا لأجل وصفكم {الكذب} بنزع الخافض، أي لما تصف ألسنتكم من الكذب.
وقرئ {الكُذُبُ} بضم الكاف والذال والباء، نعتًا للألسنة، وقد تقدّم.
وقرأ الحسن هنا خاصّةً {الكَذِبِ} بفتح الكاف وخفض الذال والباء، نعتًا {لما}؛ التقدير: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذبِ.
وقيل على البدل من ما؛ أي ولا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على اللَّهِ الكذب.
الآية خطاب للكفار الذين حرّموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كان ميتة.
فقوله: {هذا حلال} إشارة إلى ميتة بطون الأنعام، وكل ما أحلّوه.
وقوله: {هذا حرام} إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرّموه.
{إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} أي ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عن قريب.
وقال الزجاج: أي متاعهم متاع قليل.
وقيل: لهم متاع قليل ثم يردون إلى عذاب أليم.
الثانية أسند الدّارِمِيّ أبو محمد في مسنده أخبرنا هارون عن حفص عن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم قطّ يقول حلال ولا حرام، ولكن كان يقول: كانوا يكرهون وكانوا يستحبون.
وقال ابن وهب قال مالك: لم يكن من فُتْيَا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا إيّاكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا.
ومعنى هذا: أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل، وليس لأحد أن يقول أو يصرّح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يكون البارىء تعالى يخبر بذلك عنه.
وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول: إني أكره {كذا}.
وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى.
فإن قيل: فقد قال فيمن قال لزوجته أنت عليّ حرام إنها حرام ويكون ثلاثًا.
فالجواب أن مالكًا لمّا سمع عليّ بن أبي طالب يقول إنها حرام اقتدى به.
وقد يقوى الدليل على التحريم عند المجتهد فلا بأس عند ذلك أن يقول ذلك، كما يقول إن الربا حرام في غير الأعيان الستة، وكثيرًا ما يطلق مالك رحمه الله؛ فذلك حرام لا يصلح في الأموال الرّبوية وفيما خالف المصالح وخرج عن طريق المقاصد لقوة الأدلة في ذلك.
قوله تعالى: {وعلى الذين هَادُواْ}.
بيّن أن الأنعام والحَرْث حلال لهذه الأمة، فأما اليهود فحرمت عليهم منها أشياء.
{حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} أي في سورة الأنعام.
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} أي بتحريم ما حرمنا عليهم، ولكن ظلموا أنفسهم فحرمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم؛ كما تقدم في النساء.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء} أي الشرك؛ قاله ابن عباس.
وقد تقدم في النساء. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب} يعني ولا تقولوا لأجل وصفكم الكذب {هذا حلال وهذا حرام} يعني أنكم تحلون وتحرمون لأجل الكذب لا لغيره فليس لتحليلكم وتحريمكم معنى وسبب إلا الكذب فقط، فلا تفعلوا ذلك.
قال مجاهد: يعني البحيرة والسائبة.
وقال ابن عباس: يعني قولهم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يحلون أشياء ويحرمون أشياء من عند أنفسهم، وينسبون ذلك إلى الله تعالى وهو قوله تعالى: {لتفتروا على الله الكذب} يعني لا تقولوا إن الله أمرنا بذلك فتكذبوا على الله لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله ثم توعد المفترين للكذب فقال سبحانه وتعالى: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} يعني: لا ينجون من العذاب، وقيل: لا يفوزون بخير لأن الفلاح هو الفوز بالخير والنجاح ثم بين أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم عن قريب فقال تعالى: {متاع قليل} يعني متاعهم في الدنيا قليل فإنه لا بقاء له {ولهم عذاب إليم} يعني في الآخرة.
{وعلى الذين هادوا} يعني اليهود {حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} يعني ما سبق ذكره وبيانه في سورة الأنعام وهو قوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} الآية {وما ظلمناهم} يعني بتحريم ذلك عليهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} يعني إنما حرمنا عليهم ما حرمنا بسبب بغيهم وظلمهم أنفسهم ونظيره قوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم}.
وقوله تعالى: {ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة} المقصود من هذه الآية بيان فضل الله وكرمه وسعة مغفرته ورحمته، لأن السوء لفظ جامع لكل فعل قبيح فيدخل تحته الكفر وسائر المعاصي وكل ما لا ينبغي وكل من عمل السوء فإنما يفعله بجهالة، لأن العاقل لا يرضى بفعل القبيح فمن صدر عنه فعل قبيح من كفر أو معصية، فإنما يصدر عنه بسبب جهله إما لجهله بقدر ما يترتب عليه من العقاب أو لجهله بقدر من يعصيه، فثبت بهذا أن فعل السوء إنما يفعل بجهالة ثم إن الله تعالى وعد من عمل سوءًا بجهالة ثم تاب، وأصلح العمل في المستقبل أن يتوب عليه ويرحمه وهو قوله تعالى: {ثم تابوا من بعد ذلك}، يعني من بعد عمل ذلك السوء {وأصلحوا} يعني أصلحوا العمل في المستقبل، وقيل معنى الإصلاح الاستقامة على التوبة {إن ربك من بعدها} يعني من بعد عمل السوء بالجهالة والتوبة منه {لغفور} يعني لمن تاب وآمن {رحيم} يعني بجميع المؤمنين والتائبين. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}.
لما بين تعالى ما حرم، بالغ في تأكيد ذلك بالنهي عن الزيادة فيما حرم كالبحيرة، والسائبة، وفيما أحل كالميتة والدم، وذكر تعالى تحريم هؤلاء الأربع في سورة الأنعام.
وهذه السورة وهما مكيتان بأداة الحصر، ثم كذلك في سورة البقرة والمائدة بقوله: {أحلت لكم} الآية وأجمعوا على أن المراد: {مما يتلى عليكم} هو قوله: {حرمت عليكم} الآية وهما مدنيتان فكان هذا التحريم لهذه الأربع مشرعًا ثانيًا في أول مكة وآخرها، وأول المدينة وآخرها.
فنهى تعالى أن يحرموا ويحلوا من عند أنفسهم، ويفترون بذلك على الله حيث ينسبون ذلك إليه.
وقرأ الجمهور: {الكذب} بفتح الكاف والباء وكسر الذال، وجوزوا في ما في هذه القراءة أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف تقديره: للذي تصفه ألسنتكم.
وانتصب الكذب على أنه معمول لتقولوا أي: ولا تقولوا الكذب للذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة، من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي.
وهذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب، أو على إضمار فعل أي: فتقولوا هذا حلال وهذا حرام.
وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون انتصاب الكذب على أنه بدل من الضمير المحذوف العائد على ما، كما تقول: جاءني الذي ضربت أخاك، أي ضربته أخاك.
وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوبًا بإضمار أعني.
وقال الكسائي والزجاج: ما مصدرية، وانتصب الكذب على المفعول به أي: لوصف ألسنتكم الكذب.
ومعمول: ولا تقولوا، الجملة من قوله: {هذا حلال وهذا حرام} والمعنى: ولا تحللوا ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم كذبًا، لا بحجة وبينة.
وهذا معنى بديع، جعل قولهم: كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد جلت الكذب بحليته وصورته بصورته كقولهم: وجهه يصف الجمال، وعينها تصف السحر.
وقرأ الحسن، وابن يعمر، وطلحة، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وابن عبيد، ونعيم بن ميسرة: بكسر الباء، وخرج على أن يكون بدلًا من ما، والمعنى الذي: تصفه ألسنتكم الكذب.
وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون الكذب بالجر صفة لما المصدرية.
قال الزمخشري: كأنه قيل: لوصفها الكذب بمعنى الكاذب كقوله تعالى: {بدم كذب} والمراد بالوصف وصفها البهائم بالحل والحرمة انتهى.
وهذا عندي لا يجوز، وذلك أنهم نصوا على أنّ أنْ المصدرية لا ينعت المصدر المنسبك منها ومن الفعل، ولا يوجد من كلامهم: يعجبني أنْ قمت السريع، يريد قيامك السريع، ولا عجبت من أنْ تخرج السريع أي: من خروجك السريع.
وحكم باقي الحروف المصدرية حكم أنّ فلا يوجد من كلامهم وصف المصدر المنسبك من أنْ ولا، من ما ولا، من كي، بخلاف صريح المصدر فإنه يجوز أن ينعت، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع في ذلك ما تكلمت به العرب.
وقرأ معاذ، وابن أبي عبلة، وبعض أهل الشام: {الكذب} بضم الثلاثة صفة للألسنة، جمع كذوب.
قال صاحب اللوامح: أو جمع كاذب أو كذاب انتهى.
فيكون كشارف وشرف، أو مثل كتاب وكتب، ونسب هذه القراءة صاحب اللوامح لمسلمة بن محارب.
وقال ابن عطية: وقرأ مسلمة بن محارب {الكذب} بفتح الياء على أنه جمع كذاب، ككتب في جمع كتاب.
وقال صاحب اللوامح: وجاء عن يعقوب الكذب بضمتين والنصب، فأما الضمتان فلأنه جمع كذاب وهو مصدر، ومثله كتاب وكتب.
وقال الزمخشري: بالنصب على الشتم، أو بمعنى الكلم الكواذب، أو هو جمع الكذاب من قولك: كذب كذابًا ذكره ابن جني انتهى.
والخطاب على قول الجمهور بقوله: {ولا تقولوا} للكفار في شأن ما أحلوا وما حرموا من أمور الجاهلية، وعلى ذلك الزمخشري وابن عطية.
وقال العسكري: الخطاب للمكلفين كلهم أي: لا تسموا ما لم يأتكم حظره ولا إباحته عن الله ورسوله حلالًا ولا حرامًا، فتكونوا كاذبين على الله في إخباركم بأنه حلله وحرمه انتهى.
وهذا هو الظاهر، لأنه خطاب معطوف على خطاب وهو: فكلوا إنما حرم عليكم، فهو شامل لجميع المكلفين.
واللام في لتفتروا لام التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض، قاله الزمخشري، وهي التي تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة.
قيل: ذلك الافتراء ما كان غرضًا لهم، والظاهر أنها لام التعليل وأنهم قصدوا الافتراء كما قالوا: {وجدنا عليها آباءنا} والله أمرنا بها، ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد لما تقدم لتضمنه الكذب، لأنّ هذا التعليل فيه التنبيه على من افتروه عليه، وهو الله تعالى.
وقال الواحدي: لتفتروا على الله الكذب يدل من قوله: {لما تصف ألسنتكم الكذب} لأنّ وصفهم الكذب هو افتراء على الله، ففسر وصفهم بالافتراء على الله انتهى.
وهو على تقدير ما مصدرية، وأما إذا كانت بمعنى الذي فاللام في لما ليست للتعليل، فيبدل منها ما يقتضي التعليل، بل اللام متعلقة بلا تقولوا على حد تعلقها في قولك: لا تقولوا، لما أحل الله هذا حرام أي: لا تسموا الحلال حرامًا، وكما تقول لزيد عمرو أي لا تطلق على زيد هذا الاسم.
والظاهر أنهم افتروا على الله حقيقة، وهو ظاهر الافتراء الوارد في آي القرآن.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سننًا لا يرضاها الله افتراء عليه، لأنّ من شرع أمرًا فكأنه قال لتابعه: هذا هو الحق، وهذا مراد الله.
ثم أخبر تعالى عن الذين يفترون على الله الكذب بانتفاء الفلاح.
والفلاح: الظفر بما يؤمل، فتارة يكون في البقاء كما قال الشاعر:
والمسى والصبح لا فلاح معه

وتارة في نجح المساعي كما قال عبيد بن الأبرص:
أفلح بما شئت فقد يب ** لغ بالضعف وقد يخدع الأريب

وارتفاع متاع على أنه خبر مبتدأ محذوف، فقدر الزمخشري منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم.
وقال ابن عطية: عيشهم في الدنيا.
وقال العسكري: يجوز أن يكون المتاع هنا ما حللوه لأنفسهم مما حرمه الله تعالى.
وقال أبو البقاء: بقاؤهم متاع قليل.
وقال الحوفي: متاع قليل ابتداء وخبر انتهى.
ولا يصح إلا بتقدير الإضافة أي: متاعهم قليل.
ولما بيّن تعالى ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام، أتبعه بما كان خص به اليهود محالًا على ما تقدم ذكره في سورة الأنعام، وهذا يدل على أنّ سورة الأنعام نزلت قبل هذه السورة، إذ لا تصح الحوالة إلا بذلك.
ويتعلق من قبل بقصصنا، وهو الظاهر.
وقيل: بحرمنا، والمحذوف الذي في من قبل تقديره من قبل تحريمنا على أهل ملتك.
والسوء هنا قال ابن عباس: الشرك قبل المعرفة بالله انتهى.
ما يسوء صاحبه من كفر ومعصية غيره.
والكلام في للذين عملوا وما يتعلق به تقدم نظيره في قوله: {ثم إن ربك للذين هاجروا} فأغنى عن إعادته.
وقال قوم: بجهالة تعمد.
وقال ابن عطية: ليست هنا ضد العلم، بل تعدى الطور وركوب الرأس منه: أو أجهل أو يُجهل عليّ.
وقول الشاعر:
ألا لا يجهلنَّ أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

والتي هي ضد العلم، تصحب هذه كثيرًا، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر.
وقلّ ما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع انتهى.
ملخصًا.
وقال الزمخشري: بجهالة في موضع الحال أي: عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم.
وقال سفيان: جهالته أن يلتذ بهواه، ولا يبالي بمعصية مولاه.
وقال الضحاك: باغترار الحال عن المآل.
وقال العسكري: ليس المعنى أنه يغفر لمن يعمل السوء بجهالة، ولا يغفر لمن عمله بغير جهالة، بل المراد أن جميع من تاب فهذا سبيله، وإنما خص من يعمل السوء بجهالة، لأنّ أكثر من يأتي الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة، أو عند غلبة شهوة، أو في جهالة شباب، فذكر الأكثر على عادة العرب في مثل ذلك.
والإشارة بذلك إلى عمل السوء، وأصلحوا: استمروا على الإقلاع عن تلك المعصية.
وقيل: أصلحوا آمنوا وأطاعوا، والضمير في من بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي: من بعد عمل السوء والتوبة والإصلاح.
وقيل: يعود على الجهالة.
وقيل: على السوء على معنى المعصية. اهـ.