فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ.
المسألة الأولى:
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ.
فَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ بِهَذَا إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ الْأُمَّةَ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَإِنَّ الْقَانِتَ هُوَ الْمُطِيعُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا.
فَقُلْت فِي نَفْسِي: غَلِطَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إنَّمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إنَّ إبْرَاهِيمُ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا}.
فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا الْأُمَّةُ الْقَانِتُ؟ قُلْت: اللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: الْأُمَّةُ الَّذِي يُعَلِّمُ الْخَيْرَ.
وَالْقَانِتُ لِلَّهِ: الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُعَلِّمُ الْخَيْرَ، وَكَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
المسألة الثانية:
الْحَنِيفُ: الْمُخْلِصُ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ قَائِمًا لِلَّهِ بِحَقِّهِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا، آتَاهُ اللَّهُ رُشْدَهُ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ، فَنَصَحَ لَهُ، وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَبَايَنَ قَوْمَهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَدَعَا إلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَلَمْ تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ؛ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ أَلَّا يَبْعَثَ نَبِيًّا بَعْدَهُ إلَّا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ أَلَّا يُسَافِرَ فِي الْأَرْضِ، فَتَخْطُرُ سَارَةُ بِقَلْبِهِ إلَّا هَتَكَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْحِجَابَ، فَيَرَاهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مِنْ اخْتَتَنَ، وَأَقَامَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَضَحَّى، وَعَمِلَ بِالسُّنَنِ نَحْوَ قَصِّ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا، فَاتَّفَقَتْ الْأُمَمُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْقُصْ مَا أُعْطِيَ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَظِّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأُوحِيَ إلَى مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ.
فَعَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ، وَيُعَلِّمَ الْأُمَّةَ، فَيَكُونَ فِي دِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَى الْمِلَّةِ.
قوله تعالى: {إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّك لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
الْمُرَادُ بِاَلَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَيْ فُرِضَ تَعْظِيمُ يَوْمِ السَّبْتِ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ؛ هُوَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فَرَغَ مِنْ خَلْقِ الْأَشْيَاء يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ سَبَّتَ يَوْمَ السَّبْتِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْأَحَدِ؛ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي ابْتَدَأَفِيهِ خَلْقَ الْأَشْيَاء، فَاخْتَلَفُوا فِي تَعْظِيمِ غَيْرِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمُهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَحَلُّوهُ.
المسألة الثانية:
مَا الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ؟ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْظِيمِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ اسْتَحَلَّهُ بَعْضُهُمْ، وَحَرَّمَهُ آخَرُونَ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ.
الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانُوا يَطْلُبُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَخْطَئُوهُ، وَأَخَذُوا السَّبْتَ، فَفُرِضَ عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ فِي الْقَوْلِ الرَّابِعِ: إنَّهُمْ أُلْزِمُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدًا، فَخَالَفُوا وَقَالُوا: نُرِيدُ يَوْمَ السَّبْتِ؛ لِأَنَّهُ فَرَغَ فِيهِ مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ.
الْخَامِسُ: رُوِيَ أَنَّ عِيسَى أَمَرَ النَّصَارَى أَنْ يَتَّخِذُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدًا، فَقَالُوا: لَا يَكُونُ عِيدُنَا إلَّا بَعْدَ عِيدِ الْيَهُودِ، فَجَعَلُوهُ الْأَحَدَ.
وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِبَنِي إسرائيل: تَفَرَّغُوا إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ تَعْبُدُونَهُ، وَلَا تَعْمَلُونَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا؛ فَاخْتَارُوا يَوْمَ السَّبْتِ، فَأَمَرَهُمْ مُوسَى بِالْجُمُعَةِ، فَأَبَوْا إلَّا السَّبْتَ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
المسألة الثالثة:
الَّذِي يُفَصِّلُ هَذَا الْقَوْلَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ».
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَذَا الْيَوْمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ»، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَارَ كُلُّ أَحَدٍ مَا ظَهَرَ إلَيْهِ، وَأَلْزَمْنَاهُ مِنْ غَيْرِ عَرْضٍ، فَالْتَزَمْنَاه.
وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ».
وَفِي الصَّحِيحِ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: «فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ».
وَهَذَا مُجْمَلٌ، فَسَّرَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ».
المسألة الرابعة:
رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ حِينَ اخْتَارُوا يَوْمَ السَّبْتِ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَالْخِلْقَةَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَأَتَمَّهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ، فَنَحْنُ نَتْرُكُ الْعَمَلَ يَوْمَ السَّبْتِ.
فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ بِقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} الْآيَةَ.
فَلَمَّا تَرَكُوا الْعَمَلَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ بِالْتِزَامِهِمْ، وَابْتَدَعُوهُ بِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ، وَاخْتِيَارِهِمْ الْفَائِلِ، كَانَ مِنْهُمْ مَنْ رَعَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَرَمَهُ فَسَخِطَ اللَّهُ عَلَى الْجَمِيعِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَاخْتَارَ اللَّهُ لَنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقِبَلِنَا خِيرَةَ رَبِّنَا لَنَا، وَالْتَزَمْنَا مِنْ غَيْرِ مَثْنَوِيَّةٍ مَا أَلْزَمَنَا، وَعَرَفْنَا مِقْدَارَ فَضْلِهِ، فَقَالَ لَنَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَم، وفِيهِ أُهْبِطَ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَاتَ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تُصْبِحُ إلَى حِينِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ، شَفَقًا مِنْ السَّاعَةِ، إلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ» فِي حَدِيثٍ طَوِيل هَذَا أَكْثَرُهُ.
وَجَمَعَ لَنَا فِيهِ الْوَجْهَيْنِ: فَضْلَ الْعَمَلِ فِي الْآخِرَةِ، وَجَوَازَ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا، وَخَشِيَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا جَرَى لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ التَّنَطُّعِ فِي يَوْمِهِمْ الَّذِي اخْتَارُوهُ، فَمَنَعْنَا مِنْ صِيَامِهِ، فَقَالَ: «لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ، وَلَا لَيْلَتَهَا بِقِيَامٍ».
وَعَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاء.
وَرَأَى مَالِكٍ أَنَّ صَوْمَهُ جَائِزٌ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ.
وَقَالَ: إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِهِ كَانَ يَصُومُهُ، وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاه.
وَنَهْيُ النَّبِيِّ عَنْ تَخْصِيصِهِ أَشْبَهُ بِحَالِ الْعَالِمِ الْيَوْمَ فَإِنَّهُمْ يَخْتَرِعُونَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُلْحِقُهُمْ بِمَنْ تَقَدَّمَ، وَيَسْلُكُونَ بِهِ سُنَّتَهُمْ؛ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ فِيهِ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ الصِّيَامَ، وَشَرَعَ فِيهِ الذِّكْرَ وَالدُّعَاء؛ فَوَجَبَ الِاقْتِفَاء لِسُنَّتِهِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا أَبَانَ مِنْ شِرْعَتِهِ، وَالْفِرَارُ عَنْ الرَّهْبَانِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ، والْخَشْيَةُ مِنْ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ.
المسألة الخامسة:
قَوْلُهُ: {فِيهِ خُلِقَ آدَم} يَعْنِي: جَمَعَ فِيهِ خَلْقَهُ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَهَذَا فَضْلٌ بَيِّنٌ.
وَقَوْلُهُ: {فِيهِ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ} يَخْفَى وَجْهُ الْفَضْلِ فِيهِ؛ وَلَكِنَّ الْعُلَمَاء أَشَارُوا إلَى أَنَّ وَجْهَ التَّفْضِيلِ فِيهِ أَنَّهُ تِيبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَهَبَطَ إلَى الْأَرْضِ لِوَعْدِ رَبِّهِ، حِينَ قَالَ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}.
فَلَمَّا سَبَقَ الْوَعْدُ بِهِ حَقَّقَهُ اللَّهُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَنَفَاذُ الْوَعْدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَفَضْلٌ عَظِيمٌ، وَوَجْهُ الْفَضْلِ فِي مَوْتِهِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِلِقَائِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الإثنين وَقْتًا لِلِقَائِهِ.
قُلْنَا: يَكُونُ هَذَا أَيْضًا فَضْلًا، يَشْتَرِكُ فِيهِ مَعَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَبْقَى لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَضْلُهُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ لَهُ زَائِدًا عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ؛ وَمَنْ شَارِكْ شَيْئًا فِي وَجْهٍ، وَسَاوَاهُ فِيهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْضُلَهُ فِي وُجُوهٍ أُخَرَ سِوَاه.
وَأَمَّا وَجْهُ تَفْضِيلِهِ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ فِيهِ فَلِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، فَجَعَلَ قُدُومَهُ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ، وَتَكُونُ فَاتِحَتُهُ فِي أَكْرَمِ أَوْقَاتِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَمِنْ فَضْلِهِ اسْتِشْعَارُ كُلِّ دَابَّةٍ، وَتَشَوُّقُهَا إلَيْهِ؛ لِمَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ؛إذْ هُوَ وَقْتُ فَنَائِهَا، وَحِينِ اقْتِصَاصِهَا وَجَزَائِهَا، حَاشَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ اللَّذَيْنِ رُكِّبَتْ فِيهِمَا الْغَفْلَةُ الَّتِي تَرَدَّدَ فِيهَا الْآدَمِيُّ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاء، وَهُمَا رُكْنَا التَّكْلِيفِ، وَمَعْنَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وفَائِدَةُ جَرَيَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَمَامُ الْفَضْلِ، وَوَجْهُ الشَّرَفِ تِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي يَنْشُرُ الْبَارِّي فِيهَا رَحْمَتَهُ، وَيَفِيضُ فِي الْخَلْقِ نَيْلُهُ، وَيَظْهَرُ فِيهَا كَرْمُهُ؛ فَلَا يَبْقَى دَاعٍ إلَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ، وَلَا كَرَامَةٌ إلَّا وَيُؤْتِيهَا، وَلَا رَحْمَةٌ إلَّا يَبُثُّهَا لِمَنْ تَأَهَّبَ لَهَا، وَاسْتَشْعَرَ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ غَافِلًا عَنْهَا.
وَلَمَّا كَانَ وَقْتًا مَخْصُوصًا بِالْفَضْلِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ قَرَنَهُ اللَّهُ بِأَفْضَلِ الْحَالَاتِ لِلْعَبْدِ، وَهِيَ حَالَةُ الصَّلَاةِ، فَلَا عِبَادَةَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَلَا حَالَةَ أَخَصُّ بِالْعَبْدِ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهَا عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ كُلِّهِمْ؛ إذْ مِنْهُمْ قَائِمٌ لَا يَبْرَحُ عَنْ قِيَامِهِ وَرَاكِعٌ لَا يَرْفَعُ عَنْ رُكُوعِهِ، وَسَاجِدٌ لَا يَتَفَصَّى مِنْ سُجُودِهِ، فَجَمَعَ اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ فِي عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَدْ جَاء فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الْعَبْدَ إذَا نَامَ فِي سُجُودِهِ بَاهَى اللَّهُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ، يَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي، اُنْظُرُوا عَبْدِي، رُوحُهُ عِنْدِي، وَبَدَنُهُ فِي طَاعَتِي».
وَصَارَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ فِي الْأَيَّامِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي اللَّيَالِي فِي مَعْنَى الْإِبْهَامِ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي أَنَّ إبْهَامَهَا أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ مِنْ تَعْيِينِهَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَوْ عُلِمَتْ وَهَتَكُوا حُرْمَتَهَا مَا أُمْهِلُوا، وَإِذَا أُبْهِمَتْ عَلَيْهِمْ عَمَّ عَمَلُهُمْ الْيَوْمَ كُلَّهُ وَالشَّهْرَ كُلَّهُ، كَمَا أُبْهِمَتْ الْكَبَائِرُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَهُوَ جَانِبُ السَّيِّئَاتِ، لِيَجْتَنِبَ الْعَبْدُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَخْلَصُ لَهُ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ تَحْصِيلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَلْيَقُمْ الْحَوْلَ عَلَى رَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَوْ الشَّهْرَ كُلَّهُ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ، أَوْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ عَلَى رَأْيِ كُلِّ أَحَدٍ.
وَلَقَدْ كُنْت فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، وَكَانَ بِهَا مُتَعَبِّدٌ يَتَرَصَّدُ سَاعَةَ الْجُمُعَةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، فَإِذَا كَانَ هَذَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَثَلًا خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الضُّحَى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ الضُّحَى إلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّالِثَةِ خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ انْقَلَبَ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الرَّابِعَةِ خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ الْعَصْرِ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَتَحْصُلُ لَهُ السَّاعَةُ فِي أَرْبَعِ جُمَعٍ، فَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَقَالَ لَنَا شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ: هَذَا لَا يَصِحُّ لَهُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ تَكُونَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَرْصُدُهَا مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْعَصْرِ تَكُونُ مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ، وَفِي الْيَوْمِ الَّذِي تَكُونُ مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ يَتَرَصَّدُهَا هُوَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الضُّحَى؛ إذْ يُمْكِنُ أَنْ تَنْتَقِلَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَى سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ؛ يَشْهَدُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ انْتِقَالُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي لَيَالِيِ الشَّهْرِ؛ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي لَيْلَةٍ، لَا تَكُونُ فِيهَا فِي الْعَامِ الْآخَرِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَبَ لَهُمْ عَلَيْهَا عَلَامَةً مَرَّةً، فَوَجَدُوا تِلْكَ الْعَلَامَةَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَسَأَلَهُ آخَرُ مَتَى يَنْزِلُ: فَإِنَّهُ شَاسِعُ الدَّارِ؟ فَقَالَ لَهُ: انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعَلِّمَ عَلَامَةً فَلَا يَصْدُقُ، وَمَا كَانَ أَيْضًا لِيَسْأَلهُ سَائِلٌ ضَعِيفٌ لَا يُمْكِنُهُ مُلَازَمَتُهُ عَنْ أَفْضَلِ وَقْتٍ يَنْزِلُ إلَيْهِ فِيهِ، وَأَكْرَمِ لَيْلَةٍ يَأْتِيه فِيهَا، لِيَحْصُلَ لَهُ فَضْلُهُ، فَيَحْمِلُهُ عَلَى النَّاقِصِ عَنْ غَيْرِهِ، الْمَحْطُوطِ عَنْ سِوَاهُ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّك عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ تَحْصِيلَ السَّاعَةِ عَمَرَ الْيَوْمَ كُلَّهُ بِالْعِبَادَةِ، أَوْ تَحْصِيلَ اللَّيْلَةِ قَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ فِي جَمِيعِ لَيَالِيِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْوُضُوءِ، أَوْ اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ، فَجَاءتْ تِلْكَ السَّاعَةُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَهُوَ غَيْرُ دَاعٍ وَلَا سَائِلٍ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ؟ قُلْنَا: إذَا كَانَ وَقْتُهُ كُلُّهُ مَعْمُورًا بِالْعِبَادَةِ وَالدُّعَاء، فَجَاءتْ وَقْتَ الْوُضُوءِ أَوْ الْأَكْلِ أُعْطِيَ طَلِبَتَهُ، وَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ، وَلَمْ يُحَاسَبْ مِنْ أَوْقَاتِهِ بِمَا لابد لَهُ مِنْهُ، عَلَى أَنِّي قَدْ رَأَيْت مِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ: إذَا تَوَضَّأَأَوْ أَكَلَ، فَاشْتَغَلَ بِذَلِكَ بَدَنُهُ وَلِسَانُهُ، فَلِيُقْبِلْ عَلَى الطَّاعَةِ بِقَلْبِهِ، حَتَّى يَلْقَى تِلْكَ السَّاعَةَ مُتَعَبِّدًا بِقَلْبِهِ.
وَهَذَا حَسَنُ، وَهُوَ عِنْدِي غَيْرُ لَازِمٍ؛ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لِلْعِبَادَةِ، مَا عَدَّا أَوْقَاتِ الْوُضُوءِ وَالْأَكْلِ، فَيُعْفَى عَنْهُ فِيهَا، وَيُعْطَى عِنْدَهَا كُلَّ مَا سَأَلَ فِي غَيْرِهَا بِلُطْفِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَعُمُومِ فَضْلِهِ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ.
عَلَى أَنَّ مُسْلِمًا قَدْ كَشَفَ الْغِطَاء عَنْ هَذَا الْخَفَاء، فَقَالَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهُ سُئِلَ عَنْ السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: «هِيَ مِنْ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى انْقِضَاء الصَّلَاةِ».
وَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصٌّ فِي أَنَّهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَلَا يَصِحُّ. اهـ.