فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)}.
بعد أن ذكرتْ الآيات طرفًا من سيرة اليهود، وطرفًا من سيرة أهل مكة تعرَّضتْ لخليل الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والسؤال: لماذا إبراهيم بالذات دون سائر الأنبياء؟
ذلك لأنه أبو الأنبياء، ولو مكانته بين الأنبياء، والجميع يتمحكون فيه، حتى المشركون يقولون: نحن على دين إبراهيم، والنصارى قالوا عنه: إنه نصراني، واليهود قالوا: إنه يهودي.
فجاءت الآية الكريمة تحلل شخصية إبراهيم عليه السلام، وتُوضِّح مواصفاتها، وتردُّ وتُبطِل مزاعمهم في إبراهيم عليه السلام، وهاكم مواصفاته: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120].
أُمَّة: الأمة في معناها العام: الجماعة، وسياق الحديث هو الذي يُحدِّد عددها، فنقول مثلًا: أمة الشعراء. أي: جماعة الشعراء، وقد تكون الأمة جماعة قليلة العدد، كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ} [القصص: 23].
فسمي جماعة من الرعاة أمة؛ لأنهم خرجوا لغرض واحد، وهو سَقْي دوابهم.
وتُطلَق الأمة على جنس في مكان، كأمة الفرس، وأمة الروم، وقد تُطلِق على جماعة تتبع نبيًا من الأنبياء، كما قال سبحانه: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24].
وحين نتوسَّع في معنى نجدها في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تشمل جميع الأمم؛ لأنه أُرسِل للناس كافّة، وجمع الأمم في أمة واحدة، كما قال تعالى: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92].
ومعنى أمة واحدة. أي: جامعة لكل الأمم.
فالمعنى إذن أن إبراهيم عليه السلام يقوم مقام أمة كاملة؛ لأن الكمالات المطلقة لله وحده، والكمالات الموهوبة من الله لخلْقه في الرسل تُسمَّى كمالات بشرية موهوبة من الله.
أما ما دون الرسل فقد وُزِّعت عليهم هذه الكمالات، فأخذ كل إنسان واحدًا منها، فهذا أخذ الحلم، وهذا الشجاعة، وهذا الكرم، وهكذا لا تجتمع الكمالات إلا في الرسل.
فإذا نظرتَ إلى إبراهيم عليه السلام وجدتَ فيه من المواهب ما لا يُوجد إلا في أمة كاملة.
كذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حينما حَدَّد موقعه بين رسالات الله في الأرض يقول: «الخير فيَّ وفي أمتي» وهذا هو الكمال البشري الذي أعطاه الله إياه.
أي: أن كل واحد منهم أخذ جزءًا من هذا الكمال، فكأن كماله صلى الله عليه وسلم مُبعثر في أمته كلها.
لذلك حين تتتبع تاريخ إبراهيم عليه السلام في كتاب الله تعالى تجد كل موقف من مواقفه يعطيك خَصْلة من خصال الخير، وصِفة من صفات الكمال، فإذا جمعتَ هذه الصفات وجدتها لا توجد إلا في أمة بأسْرها، فهو إمام وقدوة جامعة لكل خصال الخير.
ومن معاني أمة: أنه عليه السلام يقوم مقام أمة في عبادة الله وطاعته.
وقوله: {قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120].
أي: خاشعًا خاضعًا لله تعالى في عبادته.
{حَنِيفًا} [النحل: 120].
الحنف في الأصل: الميْل، وقد جاء إبراهيم عليه السلام والكون على فساد واعوجاج في تكوين القيم، فمال إبراهيم عن هذا الاعوجاج، وحَاد عن هذا الفساد.
والحق سبحانه وتعالى لا يبعث الرسل إلا إذا طَمَّ الفساد، إذن: ميْله عن الاعوجاج والفساد، فمعناه أنه كان مستقيمًا معتدلًا على الدين الحق، مائلًا عن الاعوجاج حائدًا عن الفساد.
ثم يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} [النحل: 120].
وهذه هي الصفة الرابعة لخليل الله إبراهيم بعد أن وصفه بأنه كان أمة قانتًا لله حنيفًا، وجميعها تنفي عنه الشرك بالله، فما فائدة نَفْي الشرك عنه مرة أخرى في: {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} [النحل: 120].
يجب أنْ نُفرّق بين أنواع الشرك، فمنه الشرك الأكبر، وهو أن تجعل لله شركاء، وهو القمة في الشرك، ومنه الشرك الخفي، بأن تجعل للأسباب التي خلقها دَخْل في تكوين الأشياء.
فالآية هنا: {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} [النحل: 120].
أي: الشرك الخفي، فالأوصاف السابقة نفتْ عنه الشرك الأكبر، فأراد سبحانه أن ينفي عنه شركَ الأسباب أيضًا، وهو دقيق خفيّ.
ولذلك عندما أُلقِيَ عليه السلام في النار لم يلتفت إلى الأسباب وإنْ جاءت على يد جبريل عليه السلام، فقال له حينما عرض عليه المساعدة: أما إليك فلا. فأين الشرك الخفي إذن والأسباب عنده معدومة من البداية؟
ثم يقول الحق سبحانه: {شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ}.
قوله تعالى: {شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ} [النحل: 121].
فيه تلميح لأهل مكة الذين جحدوا نعمة الله وكفروها، وكانت بلدهم آمنة مطمئنة، فلا يليق بكم هذا الكفر والجحود، وأنتم تدَّعُون أنكم على ملِّة إبراهيم عليه السلام فإبراهيم لم يكن كذلك، بل كان شاكرًا لله على نعمه.
وقوله: {اجتباه} [النحل: 121].
اصطفاه واختاره للنبوة، واجتباء إبراهيم عليه السلام كان عن اختبار، كما قال تعالى: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124].
أي: اختبره ببعض التكاليف، فأتمها إبراهيم على أكمل وجه، فقال له ربه: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124].
ولكنه لحبه أن تتصل الإمامة في ذريته قال: {قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124].
فعدَّل الله له هذه الرغبة، وصحَّح له، بأن ذريتك ستكون منها الظالم، فقال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124].
لذلك تعلَّم إبراهيم عليه السلام من هذا الموقف، وأراد أن يحتاط لنفسه بعد ذلك، فعندما أراد أن يطلب من ربه أن يرزق أهل مكة من الثمرات قال: {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 126].
فصحَّح الله له أيضًا هذا المطلب، فالموقف هنا مختلف عن الأول، الأول كان في إمامة القيم والدين، وهذه لا يقوم بها ظالم، أما هذه فرزق وعطاء ربوبية يشمل المؤمن والكافر والطائع والعاصي، فالجميع في الرزق سواء، فقال تعالى: {وَمَن كَفَرَ} [البقرة: 126].
أي: سأرزق الكافر أيضًا.
وهنا تتجلى عظمة الربوبية التي تُربِّي الأنبياء، وتصنعهم على عَيْنها، فكل مواقف الأنبياء تتجمع في النهاية، وتعطينا خلاصة الكمال البشري.
ويدل على دقة إبراهيم عليه السلام في أداء ما طُلِب منه موقفه في بناء البيت، فبعد أن دَلَّه الله على مكانه أخذ يُزيح عنه آثار السيول، ويكشف عن قواعده، وكان يكفي إبراهيم لتنفيذ أمر ربه أنْ يرفع البناء إلى ما تناله يده من ارتفاع، ولكنه أحب أن يأتي بالأمر على أتمِّ وجوهه، وينفذه بدقة واحتياط، ففكَّر أن يأتي بحجر مرتفع، ويقف عليه ليزيد من ارتفاع البناء، فجاء بالحجر الذي هو مقام إبراهيم، كل ذلك وولده يساعده؛ لذلك لما أتى بالحجر جاء بحجر لا يرفعه إلا رجلان.
وكذلك موقفه الإيماني وتخلِّيه عن الأسباب، حينما ترك زوجه هاجر وصغيره إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع، وفي مكان خالٍ من مُقوِّمات الحياة وأسباب العيش.
إنه لا يؤمن بالأسباب، إنما يؤمن بمُسبِّبها، وطالما أنه سبحانه موجود فسوف يُوفِّر لهم من الأسباب ما يحفظ حياتهم؛ لذلك حينما سألته هاجر: أهذا منزل أنزلكه الله أم من عندك؟
فلما علمت أنه من الله قالت: إذن لن يُضيِّعنا، وكأن إيمان إبراهيم نضح على زوجته، وملأ قلبها يقينًا في الله تعالى.
وقوله سبحانه: {وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 121].
كيف.. بعد كل هذه الأوصاف الإيمانية تقول الآيات {وَهَدَاهُ} أليست هذه كلها هداية؟
نقول: المراد زاده هداية، كما قال تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
ثم يقول الحق سبحانه: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا}.
الحق سبحانه يُبيِّن أن جزاء إبراهيم عليه السلام عظيم في الدنيا قبل جزاء الآخرة، والمراد بحسنة الدنيا محبة جميع أهل الأديان له، وكثرة الأنبياء في ذريته والسيرة الطيبة والذكر الحسن.
وها نحن نتحدث عن صفاته ومناقبه ونفخر ونعتز به، وهذا العطاء من الله لإبراهيم في الدنيا؛ لأنه بالغ في طاعة ربه وعبادته.
وقد طلب إبراهيم عليه السلام من ربه هذه المكانة، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بالصالحين واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 83-84].
حُكْمًا: أي: حكمة أضع بها الأشياء في مواضعها.
ولسان صدق: هو الذكر الطيب والثناء الحسن بعد أن أموت.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} [النحل: 122].
فإنْ كان هذا جزاءه في الدنيا، فلا شكَّ أن جزاء الآخرة أعظم.
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}.
الحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر بعضًا من صفات الخليل إبراهيم من كونه أمة قانتًا لله حنيفًا، ولم يك من المشركين، وأنه شاكر لأنعمه، واجتباه ربه وهداه.. إلخ قال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النحل: 123].
يا محمد: {أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123].
كأن قمة مناقب إبراهيم وحسناته أننا أوحينا إليك يا خاتم الرسل أن تتبع ملته.
وملة إبراهيم: أي شريعة التوحيد.
ثم يُؤكّد الحق سبحانه براءة إبراهيم من الشرك فيقول: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [النحل: 123].
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت}.
بعد أن تحدَّث الحق سبحانه عن إبراهيم أبي الأنبياء، وذكر جانبًا من صفاته ومناقبه تكلَّم عن بني إسرائيل في قضية خالفوا فيها أمر الله بعد أن طلبوها بأنفسهم، وكأن القرآن يقول لهم: لقد زعمتم أن إبراهيم كان يهوديًا، فهاهي صفات إبراهيم، فماذا عن صفاتكم أنتم؟ وأين أنتم من إبراهيم عليه السلام؟
ويعطينا الحق سبحانه مثالًا عن مخالفتهم لربهم فيما يأمر به، وأنهم ليسوا كإبراهيم في اتباعه، فيذكر ما كان منهم في أمر السبت.
و{السبت} هو يوم السبت المعروف التالي للجمعة السابق للأحد، والسبت مأخوذ من سَبَتَ يَسْبِت سَبْتًا. يعني: سكن واستقرَّ، ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9].
ذلك أن بني إسرائيل طلبوا يومًا يرتاحون فيه من العمل، ويتفرغون فيه لعبادة الله، وقد اقترح عليهم نبيهم موسى عليه السلام أن يكون يوم الجمعة، فهو اليوم الذي أتمَّ الله فيه خَلْق الكون في ستة أيام، وهو اليوم الذي اختاره الخليل إبراهيم، ولكنهم رفضوا الجمعة واختاروا هم يوم السبت وقالوا:
إن الله خلق الدنيا في ستة أيام بدأها بيوم الأحد، وانتهى منها يوم الجمعة، وارتاح يوم السبت، وكذلك نحن نريد أن نرتاح ونتفرغ لعبادة الله يوم السبت، وهكذا كانت هذه رغبتهم واختيارهم.
أما العيسويون فرفضوا أن يتبعوا اليهود في يوم السبت، أو إبراهيم عليه السلام في يوم الجمعة، واختاروا الأحد على اعتبار إنه أول بَدْء الخلق.
أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد اختار لها الله يوم الجمعة يوم الانتهاء وتمام النعمة.
إذن: اليهود طلبوا يوم السبت واختاروه للراحة من العمل والتفرغ للعبادة، فهذا مطلبهم، وقد وافقهم ربُّهم سبحانه وتعالى عليه، وأمرهم أنْ يتفرغوا لعبادته في هذا اليوم، وافقهم ليُبيّن لجاجتهم وعنادهم، وأنهم لن يُوفُوا بما التزموا به وإن اختاروه بأنفسهم، ووافقهم ليقطع حجتهم، فلو اختار لهم يومًا لاعترضوا عليه، ولكن هاهم يختارونه بأنفسهم.
كما أن قصة السبت مع اليهود جاءت لتخدم قضية عقدية عامة، هي أن الآيات التي تأتي مُصدِّقة للرسل في البلاغ عن الله تعالى قد تكون من عند الله وباختياره سبحانه، وقد تكون باختيار المرسَل إليهم أنفسهم، وقد كان من بني إسرائيل أنْ كذَّبوا بهذه وهذه ولذلك قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} [الإسراء: 59].
أي: لكونهم يقترحون الآية ثم يُكذِّبونها، فأمْرهم تكذيب في تكذيب.
وقصة السبت ذُكِرَتْ في مواضع كثيرة، مثل قوله تعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].
لقد نقض اليهود عهدهم مع الله كعادتهم، وأخلفوا ما التزموا به، وذهبوا للصيد في يوم السبت، فكادهم الله وأغاظهم، فكانت تأتيهم الحيتان والأسماك تطفو على سطح الماء كالشراع، ولا ينتفعون منها بشيء إلا الحسرة والأسف، فيقولون: لعلها تأتي في الغد فيخيب الله رجاءهم: {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163].
وقد سمَّى القرآن الكريم ذلك منهم اعتداء؛ لأنهم اعتدوا على ما شرع الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65].
وقوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} [النحل: 124].
كلمة {اخْتَلَفُوا} تُوحي بوجود طائفتين متناقضتين في هذه القضية، والحقيقة أن الخلاف لم يكُنْ بين اليهود بعضهم البعض، بل بينهم وبين نبيهم الذي اختار لهم يوم الجمعة، فخالفوه واختاروا السبت، فجعل الله الخلاف عليهم.
فالمعنى: إنما جُعِل السبت حُجّة على الذين اختلفوا فيه؛ لأنه اثبت عدوانهم على يوم العبادة، فبعد أن اقترحوه اختاروه انقلب حُجة عليهم، ودليلًا لإدانتهم.
ولو تأملنا قوله: {على الذين} [النحل: 124].
نجد أن كلمة {عَلَى} تدلُّ على الفوقية أي: أن لدينا شيئًا أعلى وشيئًا أدنى؛ فكأن السبت جاء ضد مصلحتهم، وكأن خلافهم مع نبيهم انقلب عليهم.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6].
يؤولها بعضهم على معنى {مع ظلمهم} نقول: المعنى صحيح، ولكن المعية لا تقتضي العلو، فلو قلنا: مع ظلمهم فالمعنى أن المغفرة موجودة مع الظلم مجرد معية، أما قول الحق سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6].
أي: أن المغفرة عَلَت على الظلم، فالظلم يتطلب العقاب، ولكن رحمة الله ومغفرته عَلَتْ على أنْ تُعامِل الظالم بما يستحق، فرحمة الله سبقتْ غضبه، ونفس الملحظ نجده في قول الحق سبحانه: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39].
فالكبر كان يقتضي عدم الإنجاب ولكن هبة الله علت على سنة الكِبَر. اهـ.