فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى الخفاف والعباس عن أبي عمرو: {والخوف} بالنصب بايقاع أذاقها عليه {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.
روى مشرح بن فاعان عن سليمان بن عمر بن عثمان قال: صدرنا من الحج مع حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان محصور بالمدينة، كانت تسأل عنه حين رأت راكبين، فأرسلت اليهما تسألهما فقالا: قتل. فقالت حفصة: والذي نفسي بيده إنها يعني المدينة القرية التي قال الله تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} الآية. {وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ} إلى قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب} بفتح التاء والكاف بمعنى ولا تقولوا الكذب الذي تصف ألسنتكم وتكون {ما} للمصدر.
وقرأ ابن عبّاس: {الكذب} برفع الكاف والذال والباء على نعت الألسنة {هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام {لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} ويقولون: إن الله حرّم هذا وأمرنا بها {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} لاينجون من عذاب الله {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} يعني الذي هم فيه من الدنيا متاع قليل أو لهم متاع قليل في الدنيا {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة {وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} يعني في سورة الأنعام وهو قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146]. الآية.
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بتحريم ذلك عليهم {ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فجزيناهم ببغيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ} الآية قيل الهاء في قوله بعدها راجع إلى الجهالة، وقيل: إلى المعصية لأن السوء بمعنى المعصية، فردّ الكناية إلى المعنى، وقيل: إلى الفعلة {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي معلمًا للخير يأتم بأهل الدنيا، وقد اجتمع فيه من الخصال الحميدة والأخلاق الجميلة ما يجتمع في أمة.
روى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} فقلت: إنما قال الله: {إن إبراهيم كان أُمة قانتا}. فقال: أتدري ما الأُمة وما القانت؟ قلت: الله أعلم، قال: الأُمة الذي يعلَّم الخير والقانت المطيع لله، وكذلك كان معاذ بن جبل فكان يعلَّم الخير وكان مطيعًا لله ولرسوله.
وقال مجاهد: كان مؤمنًا وحده والناس كفار كلهم، وقال قتادة: ليس من أهل دين إلا يقولونه ويرضونه.
شهر بن حوشب قال: لم يبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض ويخرج بركتها، إلاّ زمن إبراهيم فإنه كان وحده {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} مسلمًا مستقيمًا على دين الاسلام {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً} يعني الرسالة والحكمة والثناء الحسن.
وقال مقاتل بن حيان: يعني الصلوات في قول هذه الأُمة: اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم، وقيل أولادًا أبرارًا على الكبر، وقيل: القبول العام في جميع الأُمم {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} حاجًا مسلمًا {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}.
ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جاء جبرئيل عليه السلام إلى إبراهيم عليه السلام فراح به إلى منى فصلى به الصلوات جميعًا الظهر، والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر ثمّ غدا به إلى عرفات فصلى به الصلاتين جميعًا الظهر والعصر، ثمّ راح فوقف به حتّى إذا غربت الشمس أفاض به إلى جمع فصلى به الصلاتين المغرب والعشاء، ثمّ بات به حتّى إذا كان كما عجل ما يصلي أحد من المسلمين صلى به الفجر، ثمّ وقف حتّى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين أفاض به إلى منى فرمى الجمرة وذبح وحلق، ثمّ أفاض به إلى البيت فطاف به فأوحى الله تعالى إلى محمّد: {أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}».
{إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا} يقول: ما فرض الله تعالى بتعظيم السبت وتحريمه إلاّ على الذين اختلفوا فيه.
فقال بعضهم: هو أعظم الأيام، لأن الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثمّ سبت يوم السبت.
وقال آخرون: بل أعظم الله يوم الأحد لانه اليوم الذي ابتدأ الله فيه خلق الأشياء واختاروا تعظيم غير مافرض الله عليهم تعظيمه، وتركوا تعظيم يوم الجمعة الذي فرض عليهم تعظيمه واستحلوه.
قال الكلبي: أمرهم موسى بالجمعة فقال: تفرغوا لله عزّ وجلّ في كل سبعة أيام يومًا واحدًا فأعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه لصناعتكم، وستة أيام لصناعتكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا لا نريد إلاّ اليوم الذي فرض الله من الخلق يوم السبت، فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم فيه.
ثمّ جاءهم عيسى بن مريم بالجمعة فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، يعنون اليهود وإتخذوا يوم الأحد فقال الله: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ}.
قال قتادة: الذين اختلفوا فيه يعني اليهود واستحله بعضهم وحرمه بعضهم.
روى همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بَيَد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتينا من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدًا والنصارى بعد غد».
روى المسيب عن أبي سنان عن مكحول الشامي قال: كان لعمر بن الخطاب على يهودي حق فلقيه عمر فقال: والذي أصطفى أبا القاسم على البشر لا تعمل لي وأنا أطلبك بشيء فقال اليهودي: ما اصطفى الله أبا القاسم على البشر، فرفع عمر عليه السلام يده فلطم عينه، فقال اليهودي: بيني وبينك أبو القاسم، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال اليهودي: إن عمر زَعم إن الله إصطفاك على البشر وإني زعمت أن الله لم يصطفك على البشر، فرفع يده فلطمني، فقال صلى الله عليه وسلم: «أما أنت يا عمر فأرضه مِنْ لطمته، بلى يا يهودي، آدم صفي الله، وإبراهيم خليل الله، وموسى نجي الله، وعيسى روح الله، وأنا حبيب الله، بلى يا يهودي إسمان من أسماء الله تعالى سمّى بهما أمتي، سمّى نفسه السلام وسمّى أمتي المسلمين، وسمّى نفسه المؤمن وسمّى أمتي المؤمنين، بلى يا يهودي طلبتم يومًا وذخر لنا يعني يوم الجمعة فاليوم لنا عيد وغدًا لكم وبعد غد للنصارى، بلى يا يهودي أنتم الأولون ونحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بلى يا يهودي إن الجنة محرّمة على الانبياء حتّى أدخلها أنا وإنها لمحرمة على الأمم حتّى يدخلها أمتي».
{ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ} دين ربك {بالحكمة} بالقرآن {والموعظة الحسنة} يعني مواعظ القرآن {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن.
قال المفسرون: أعرض عن أذاهم ولا تقصّر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق، ونسختها آية القتال {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}.
قال أكثر المفسرين: سورة النحل مكية كلها إلاّ ثلاث آيات {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} إلى آخرها، فإنها نزلت بالمدينة في شهداء أحد، وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلهم يوم أحد في تبقير البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة، حتّى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا وقد مُثّل به غير حنظلة الراهب فإن أباه أبو عامر الراهب كان مع أبي سفيان، فتركوا حنظلة لذلك، فقال المسلمون حين رأوا ذلك: لئن أظهرنا الله عليهم لتزيدنّ على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ولنفعلنَّ ولنفعلنَّ، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمّه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وإذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه، وأخذت هند بن عتبة قطعة من كبده فمصصته ثمّ استرطتها لتأكلها، فلم تلبث في بطنها حتّى رمت بها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدًا، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئًا من جسده النار» فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه فقال صلى الله عليه وسلم: «رحمة الله عليك فإنك ما علمتك ما كنت إلا فعالًا للخيرات وصولا للرحم، ولولا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أُدعك حتّى تحشر من أفواه شتى، أم والله لئن أظفرني الله عليهم لأُمثلن بسبعين منهم مكانك».
فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية فقال صلى الله عليه وسلم: «بل نصبر فأمسك عمّا أراد وكفّر يمينه».
وقال ابن عبّاس والضحاك: وكان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال، فلمّا أعز الله الاسلام وأهله ونزلت براءة وأُمروا بالجهاد، نسخت هذه الآية.
وقال قوم: بل هذه الآية محكمة وإنما نزلت فيمن ظلم بظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالم أكثر مما نال الظالم منه أمر بالجزاء أو العفو ونهى عن الاعتداء، وهذا قول النخعي والثوري ومجاهد وابن سيرين، ثمّ قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} أي بمعونة الله وتوفيقه {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} في إعراضهم عنك {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ}.
قرأها بكسر الضاد هاهنا وفي سورة النحل ابن كثير والباقون: بالفتح وإختاره أبو عبيد، وقال: لأن الضيق في قلة المعاش وفي المساكن، فأما ما كان في القلب والصدر فإنه ضيق.
وقال أبو عمرو وأهل البصرة: الضيّق بفتح الضاد، الغم والضِيق بالكسر الشدّة.
وقال الفراء وأهل الكوفة: هما لغتان معروفتان في كلام العرب مثل رَطل ورِطل.
وقال ابن قتيبة: الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهيّن ولين وليّن، وعلى هذا التأويل صفته كأنه قال: ولا تكن في أمر ضيق.
{مِّمَّا يَمْكُرُونَ} من مكرهم {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} بالعون والنصرة.
روى شعبة عن أبي يونس عن أبي قزعة عن هرم بن حيان وقالوا له: أوصنا.
قال: أوصيكم بالآيات الأواخر من سورة النحل {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة} إلى آخر السورة. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة النحل: آية 111]

{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)}.
منصوب برحيم. أو بإضمار اذكر. فإن قلت: ما معنى النفس المضافة إلى النفس؟ قلت: يقال لعين الشيء وذاته نفسه، وفي نقيضه غيره، والنفس الجملة كما هي، فالنفس الأولى هي الجملة، والثانية عينها وذاتها، فكأنه قيل: يوم يأتى كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره، كل يقول: نفسي نفسي، ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار عنها كقوله: {هؤُلاء أَضَلُّونا}، {ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} ونحو ذلك.

.[سورة النحل: الآيات 112- 113]

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)}.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً} أي جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم اللّه عليهم فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل اللّه بهم نقمته. فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن تكون في قرى الأوّلين قرية كانت هذه حالها، فضربها اللّه مثلا لمكة إنذارًا من مثل عاقبتها {مُطْمَئِنَّةً} لا يزعجها خوف، لأن الطمأنينة مع الأمن، والانزعاج والقلق مع الخوف رَغَدًا واسعًا، والأنعم: جمع نعمة، على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع.
أو جمع نعم، كبؤس وأبؤس، وفي الحديث. نادى منادى النبي صلى اللّه عليه وسلم بالموسم بمنى: «إنها أيام طعم ونعم فلا تصوموا». فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار، فما وجه صحة إيقاعها عليه؟ قلت: قال أحمد: وهذا الفصل من كلامه يستحق على علماء البيان أن يكتبوه بذوب التبر لا بالحبر، وقد نظر إليهما جميعًا في قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} فاستعير الشراء لاختيارهم الضلالة على الهدى، وقد كانوا متمكنين من اختياره عليها، ثم جاء ملاحظا الشراء المستعار قوله: {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ} فاستعمل التجارة والربح ليناسب ذلك لاستعارة الشراء، ثم جاء ملاحظا الحقيقة الأصلية المستعار لها قوله: {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} فانه مجرد عن الاستعارة، إذ لو قيل أولئك الذين ضلوا وما كانوا مهتدين، لكان الكلام حقيقة معرى عن ثوب الاستعارة والنظر إلى المستعار في بابه، كترشيح المجاز في بابه، ومنه:
إذا الشيطان قصع في ** قفاها تنفقناه بالحبل التؤام

فجعل الشيطان في قفاها قاصعًا ثم نافقًا، ثم جعله مستخرجا بالحبل المحكم المثنى كما يستخرج الحيوان من جحره، والشوط في هذا الفن البديع فطين، واللّه الموفق.
أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمسّ الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه العذاب: شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المرّ والبشع، وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس: ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث، وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل: فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في نحو هذا طريقان لابد من الإحاطة بهما، فإن الاستنكار لا يقع إلا لمن فقدهما، أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظر إليه هاهنا، ونحوه قول كثير:
غَمْرُ الرِّدَاء إذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا ** غَلِقَتْ لِضِحْكَتِهِ رِقَابُ المَالِ

استعارة الرداء للمعروف، لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال، لا صفة الرداء، نظر إلى المستعار له، والثاني: أن ينظروا فيه إلى المستعار، كقوله:
يُنَازِعُنِى رِدَائِى عَبْدُ عَمْرٍو ** رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرِو بْنِ بَكْر

لِىَ الشّطْرُ الذي مَلَكَتْ يَمِينِى ** وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرِ

.[سورة النحل: الآيات 114- 115]

{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)}.
لما وعظهم بما ذكر من حال القرية وما أوتيت به من كفرها وسوء صنيعها، وصل بذلك بالفاء في قوله فَكُلُوا صدّهم عن أفعال الجاهلية ومذاهبهم الفاسدة التي كانوا عليها، بأن أمرهم بأكل ما رزقهم اللّه من الحلال الطيب، وشكر إنعامه بذلك، وقال: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} يعني تطيعون. أو إن صحّ زعمكم أنكم تعبدون اللّه بعبادة الآلهة، لأنها شفعاؤكم عنده. ثم عدد عليهم محرمات اللّه، ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم وجهالاتهم، دون اتباع ما شرع اللّه على لسان أنبيائه.

.[سورة النحل: الآيات 116- 117]

{وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)}.
وانتصاب {الْكَذِبَ} بلا تقولوا، على: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم: {ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا} من غير استناد ذلك الوصف إلى وحى من اللّه أو إلى قياس مستند إليه، واللام مثلها في قولك: ولا تقولوا لما أحل اللّه هو حرام، وقوله: {هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ} بدل من الكذب.
ويجوز أن يتعلق بتصف على إرادة القول، أي: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم، فتقول هذا حلال وهذا حرام، ولك أن تنصب الكذب بتصف، وتجعل {ما} مصدرية، وتعلق {هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ} بلا تقولوا، على: ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب، أي: لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم، لا لأجل حجة وبينة، ولكن قول ساذج ودعوى فارغة. فإن قلت: ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت: هو من فصيح الكلام وبليغه، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصوّرته بصورته، كقولهم: ووجهها يصف الجمال، وعينها تصف السحر، وقرئ {الكذب} بالجرّ صفة لما المصدرية، كأنه قيل: لوصفها الكذب، بمعنى الكاذب، كقوله تعالى: {بِدَمٍ كَذِبٍ} والمراد بالوصف: وصفها البهائم بالحل والحرمة، وقرئ {الكذب} جمع كذوب بالرفع، صفة للألسنة، وبالنصب على الشتم. أو بمعنى: الكلم الكواذب، أو هو جمع الكذاب من قولك: كذب كذابا، ذكره ابن جنى.
واللام في {لِتَفْتَرُوا} من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض {مَتاعٌ قَلِيلٌ} خبر مبتدأ محذوف، أي منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم.