فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} في سورة الأنعام يعني {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} [الأنعام: 146]. الآية {وَمَا ظلمناهم} بالتحريم {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فحرمنا عليهم عقوبة على معاصيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة} في موضع الحال أي عملوا السوء جاهلين غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم، ومرادهم لذة الهوى لا عصيان المولى {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد التوبة {لَغَفُورٌ} بتكفير ما كثروا قبل من الجرائم {رَّحِيمٌ} بتوثيق ما وثقوا بعد من العزائم.
{إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} إنه كان وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير كقوله:
ليس على الله بمستنكر ** أن يجمع العالم في واحد

وعن مجاهد: كان مؤمنًا وحده والناس كلهم كفار، أو كان أمة بمعنى مأموم يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير {قَانِتًا لِلَّهِ} هو القائم بما أمره الله.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن معاذًا كان أمة قانتًا لله فقيل له: إنما هو إبراهيم عليه السلام.
فقال: الأمة الذي يعلم الخير والقانت المطيع لله ورسوله، وكان معاذ كذلك.
وقال عمر رضي الله عنه: لو كان معاذ حيًا لاستخلفته فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أبو عبيدة أمين هذه الأمة، ومعاذ أمة لله قانت لله ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون» {حَنِيفًا} مائلًا عن الأديان إلى ملة الإسلام {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نفى عنه الشرك تكذيبًا لكفار قريش لزعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم، وحذف النون للتشبيه بحروف اللين {شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ} رُوى أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفًا فأخر غداءه، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذامًا فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم شكرًا لله على أنه عافاني وابتلاكم {اجْتَبَاهُ} اختصه واصطفاه للنبوة {وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} إلى ملة الإسلام {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} نبوة وأموالًا وأولادًا، أو تنويه الله بذكره فكل أهل دين يتولونه، أو قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} لمن أهل الجنة.
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكين} في {ثم} تعظيم منزلة نبينا عليه السلام وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة اتباع رسولنا ملته.
{إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اختَلَفُوا فِيهِ} أي فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} رُوى أن موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يومًا للعبادة وأن يكون يوم الجمعة فأبوا عليه وقالوا: نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السماوات والأرض وهو السبت، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة فهذا اختلافهم في السبت لأن بعضهم اختاروه وبعضهم اختاروا عليه الجمعة، فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك وهو يحكم بينهم يوم القيامة فيجازي كل واحد من الفريقين بما هو أهله {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ} إلى الإسلام {بِالْحِكْمَةِ} بالمقالة الصحيحة المحكمة وهو الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة {وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها، أو بالقرآن أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة، أو الحكمة المعرفة بمراتب الأفعال والموعظة الحسنة أن يخلط الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة {وَجَادِلُهُم بِالِّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة، أو بما يوقظ القلوب ويعظ النفوس ويجلو العقول وهو رد على من يأبى المناظرة في الدين {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي هو أعلم بهم فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل.
{وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} سمى الفعل الأول عقوبة والعقوبة هي الثانية لازدواج الكلام كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40]. فالثانية ليست بسيئة، والمعنى إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أونحوه فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه.
رُوى أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد، وبقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم، فرأى النبي عليه السلام حمزة مبقور البطن فقال: «أما والذي أحلف به لأمثلن بسبعين مكانك» فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراده.
ولا خلاف في تحريم المثلة لورود الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} الضمير في {لهو} يرجع إلى مصدر {صبرتم} والمراد بالصابرين المخاطبون أي ولئن صبرتم لصبركم خير لكم، فوضع {الصابرين} موضع الضمير ثناء من الله عليهم لأنهم صابرون على الشدائد، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ} أنت فعزم عليه بالصبر {وَمَا صبَرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} أي بتوفيقه وتثبيته {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} على الكفار أن لم يؤمنوا وعلى المؤمنين وما فعل بهم الكفار فإنهم وصلوا إلى مطلوبهم {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} {ضِيق} مكي.
والضيق تخفيف الضيق أي في أمر ضيق ويجوز أن يكونا مصدرين كالقيل والقول، والمعنى ولا يضيقن صدرك من مكرهم فإنه لا ينفذ عليك {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا والَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} أي هو ولي الذين اجتنبوا السيئات وولي العاملين بالطاعات.
قيل: من اتقى في أفعاله وأحسن في أعماله كان الله معه في أحواله.
ومعيته نصرته في المأمور وعصمته في المحظور. اهـ.

.قال البيضاوي:

{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ}.
منصوب بـ {رَّحِيمٌ} أو باذكر. {تجادل عَن نَّفْسِهَا} تجادل عن ذاتها وتسعى في خلاصها لا يهمها شأن غيرها فتقول نفسي نفسي. {وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} جزاء ما عملت. {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لا ينقصون أجورهم.
{وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً} أي جعلها مثلًا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا، فأنزل الله بهم نقمته، أو لمكة. {كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} لا يزعج أهلها خوف. {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} أقواتها. {رَغَدًا} واسعًا. {مِّن كُلِّ مَكَانٍ} من نواحيها. {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} بنعمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس. {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له كقول كثير:
غمرُ الرِّدَاء إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكَا ** غلقَتْ لِضَحْكَتِهِ رِقَابُ المال

فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لمَّا يلقى عليه، وأضاف إليه الغمر الذي هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء نظرًا إلى المستعار له، وقد ينظر إلى المستعار كقوله:
يُنَازِعْني رِدَائي عَبْدُ عَمْرو ** رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرُو بن بَكْرِ

لِي الشَّطرُ الَّذِي مَلَكت يَمِيني ** وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرٍ

استعار الرداء لسيفه ثم قال فاعتجر نظرًا إلى المستعار. {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} بصنيعهم.
{وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، والضمير لأهل مكة عاد إلى ذكرهم بعد ما ذكر مثلهم. {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظالمون} أي حال التباسهم بالظلم والعذاب ما أصابهم من الجدب الشديد، أو وقعة بدر.
{فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلَلًا طَيّبًا} أمرهم بأكل ما أحل الله لهم وشكر ما أنعم عليهم بعدما زجرهم عن الكفر وهددهم عليه بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم، صدًا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة. {واشكروا نِعْمَتَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} تطيعون، أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لما أمرهم بتناول ما أحل لهم عدد عليهم محرماته ليعلم أن ما عداها حل لهم، ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ} كما قالوا {مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا} الآية، ومقتضى سياق الكلام وتصدير الجملة بإنما حصر المحرمات في الأجناس الأربعة إلا ما ضم إليه دليل: كالسباع والحمر الأهلية، وانتصاب {الكذب} ب {لاَ تَقُولُواْ} و{هذا حلال وهذا حَرَامٌ} بدل منه أو متعلق بتصف على إرادة القول أي: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقولوا هذا حلال وهذا حرام، أو مفعول {لاَ تَقُولُواْ}، و{الكذب} منتصب ب {تَصِفُ} وما مصدرية أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب أي: لا تحرموا ولا تحللوا بمجرد قول تنطق به ألسنتكم من غير دليل، ووصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب كأن حقيقة الكذب كانت مجهولة وألسنتكم تصفها وتعرفها بكلامهم هذا، ولذلك عد من تصحيح الكلام كقولهم: وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر، وقرئ {الكذب} بالجر بدلًا من {ما}، و{الكذب} جمع كذوب أو كذاب بالرفع صفة للألسنة وبالنصب على الذم أو بمعنى الكلم الكواذب. {لّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} تعليل لا يتضمن الغرض. {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} لما كان المفتري يفتري لتحصيل مطلوب نفي عنهم الفلاح وبينه بقوله: {متاع قَلِيلٌ} أي ما يفترون لأجله أو ما هم فيه منفعة قليلة تنقطع عن قريب. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة.
{وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} أي في سورة الأنعام في قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} {مِن قَبْلُ} متعلق ب {قَصَصْنَا} أو ب {حَرَّمْنَا}. {وَمَا ظلمناهم} بالتحريم. {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه، وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم وأنه كما يكون للمضرة يكون للعقوبة.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة} بسببها أو ملتبسين بها ليعم الجهل بالله وبعقابه وعدم التدبر في العواقب لغلبة الشهوة، والسوء يعم الافتراء على الله وغيره.
{ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد التوبة. {لَغَفُورٌ} لذلك السوء. {رَّحِيمٌ} يثيب على الإنابة.
{إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص كثيرة كقوله:
لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ** أَنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِدٍ

وهو رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي جادل فرق المشركين، وأبطل مذاهبهم الزائغة بالحجج الدامغة، ولذلك عقب ذكره بتزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحله، أو لأنه كان وحده مؤمنًا وكان سائر الناس كفارًا، وقيل هي فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والنخبة من أمه إذا قصده، أو اقتدى به فإن الناس كانوا يؤمونه للاستفادة ويقتدون بسيرته كقوله: {إِنّي جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا} {قانتا لِلَّهِ} مطيعًا له قائمًا بأوامره. {حَنِيفًا} مائلًا عن الباطل. {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} كما زعموا فإن قريشًا كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم.
{شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ} ذكر بلفظ القلة للتنبيه على أنه كان لا يخل بشكر النعم القليلة فكيف بالكثيرة. {اجتباه} للنبوة. {وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} في الدعوة إلى الله. {وءاتيناه فِي الدنيا حَسَنَةً} يأن حببه إلى الناس حتى أن أرباب الملل يتولونه ويثنون عليه، ورزقه أولادًا طيبة وعمرًا طويلًا في السعة والطاعة. {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} لمن أهل الجنة كما سأله بقوله: {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين}.
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يا محمد، و{ثُمَّ} إما لتعظيمه والتنبيه على أن أَجَلَّ ما أوتي إبراهيم اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام ملته، أو لتراخي أيامه. {أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} في التوحيد والدعوة إليه بالرفق وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى والمجادلة مع كل أحد حسب فهمه {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} بل كان قدوة الموحدين.
{إِنَّمَا جُعِلَ السبت} تعظيم السبت، أو التخلي فيه للعبادة. {على الذين اختلفوا فِيهِ} أي على نبيهم، وهم اليهود أمرهم موسى عليه السلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة فأبوا وقالوا: نريد يوم السبت لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض، فألزمهم الله السبت وشدد الأمر عليهم، وقيل معناه إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه، فأحلوا الصيد فيه تارة وحرموه أخرى واحتالوا له الحيل، وذكرهم هنا لتهديد المشركين كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بالمجازاة على الاختلاف، أو بمجازاة كل فريق بما يستحقه.
{ادع} من بعثت إليهم. {إلى سَبِيلِ رَبِّكَ} إلى الإسلام. {بالحكمة} بالمقالة المحكمة، وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة. {والموعظة الحسنة} إلخ.طابات المقنعة والعبر النافعة، فالأولى لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق والثانية لدعوة عوامهم. {وجادلهم} وجادل معانديهم. {بالتي هِيَ أَحْسَنُ} بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين وإيثار الوجه الأيسر، والمقدمات التي هي أشهر فإن ذلك أنفع في تسكين لهبهم وتبيين شغبهم. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أي إنما عليك البلاغ والدعوة، وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فلا إليك بل الله أعلم بالضالين والمهتدين وهو المجازي لهم.
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} لما أمره بالدعوة وبين له طرقها أشار إليه وإلى من يتابعه بترك المخالفة، ومراعاة العدل مع من يناصبهم، فإن الدعوة لا تنفك عنه من حيث إنها تتضمن رفض العادات، وترك الشهوات والقدح في دين الأسلاف والحكم عليهم بالكفر والضلال، وقيل إنه عليه الصلاة والسلام لما رأى حمزة وقد مثل به فقال: «والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك» فنزلت. فكفر عن يمينه، وفيه دليل على أن للمقتص أن يماثل الجاني وليس له أن يجاوزه، وحث على العفو تعريضًا بقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} وتصريحًا على الوجه الآكد بقوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ} أي الصبر. {خَيْرٌ للصابرين} من الانتقام للمنتقمين، ثم صرح بالأمر به لرسوله لأنه أولى الناس به لزيادة علمه بالله ووثوقه عليه فقال: {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} إلا بتوفيقه وتثبيته. {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} على الكافرين أو على المؤمنين وما فعل بهم. {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ} في ضيق صدر من مكرهم، وقرأ ابن كثير في {ضَيْقٍ} بالكسر هنا وفي النمل وهما لغتان كالقول والقيل، ويجوز أن يكون الضيق تخفيف ضيق.
{إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} المعاصي. {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} في أعمالهم بالولاية والفضل، أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلة كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية». اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}.
التفسير:
هذا شروع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كان إذا أنزلت آية فيها شدة ثم نزلت آية ألين منها قالت كفار قريش: إن محمدًا يسخر من أصحابه يأمره اليوم بأمر وينهاهم عنه غدًا وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه فنزل: {وإذا بدلنا} ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وتبديل الآية رفعها بآية أخرى غيرها وهو نسخها بآية سواها. {والله أعلم بما ينزل} شيئًا فشيئًا على حسب المصالح مغلظًا ثم مخففًا أو بالعكس {بل أكثرهم لا يعلمون} فوائد النسخ والتبديل. قال أبو مسلم: أراد تبديل آية مكان آية في الكتب المتقدمة مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وسائر العلماء أطبقوا على أن المراد بهذا التبديل النسخ، ونقل عن الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة لأنه تعالى أخبر بتبديل مكان الآية.