فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يا محمد مع علوّ درجتك وسموّ منزلتك، وكونك سيد ولد آدم {أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم} وأصل الملة اسم لما شرعه الله لعباده على لسان نبيّ من أنبيائه.
وقيل: والمراد هنا اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم لملة إبراهيم في التوحيد والدعوة إليه.
وقال ابن جرير: في التبرّي من الأوثان، والتدّين بدين الإسلام.
وقيل: في مناسك الحج.
وقيل: في الأصول دون الفروع.
وقيل: في جميع شريعته، إلاّ ما نسخ منها، وهذا هو الظاهر، وقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء مع كونه سيدهم، فقال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90].
وانتصاب {حَنِيفًا} على الحال من إبراهيم، وجاز مجيء الحال منه؛ لأن الملة كالجزء منه.
وقد تقرّر في علم النحو أن الحال من المضاف إليه جائز إذا كان يقتضي المضاف العمل في المضاف إليه، أو كان جزءًا منه أو كالجزء {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} وهو تكرير لما سبق للنكتة التي ذكرناها.
{إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} أي: إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه، أو إنما جعل فرض تعظيم السبت وترك الصيد فيه على الذين اختلفوا فيه، لا على غيرهم من الأمم.
وقد اختلف العلماء في كيفية الاختلاف الكائن بينهم في السبت، فقالت طائفة: إن موسى أمرهم بيوم الجمعة وعيّنه لهم، وأخبرهم بفضيلته على غيره، فخالفوه وقالوا: إن السبت أفضل، فقال الله له: دعهم وما اختاروا لأنفسهم.
وقيل: إن الله سبحانه أمرهم بتعظيم يوم في الأسبوع، فاختلف اجتهادهم فيه، فعينت اليهود السبت، لأن الله سبحانه فرغ فيه من الخلق، وعينت النصارى يوم الأحد لأن الله بدأ فيه الخلق.
فألزم الله كلا منهم ما أدّى إليه اجتهاده، وعيّن لهذه الأمة الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلًا منه ونعمة.
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شرائع إبراهيم، فأخبر الله سبحانه أنه إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه، ولم يجعله على إبراهيم ولا على غيره {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي: بين المختلفين فيه {يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فيجازي كلا فيه بما يستحقه ثوابًا وعقابًا، كما وقع منه سبحانه من المسخ لطائفة منهم والتنجية لأخرى.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يدعو أمته إلى الإسلام فقال: {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ} وحذف المفعول للتعميم، لكونه بعث إلى الناس كافة، وسبيل الله هو الإسلام {بالحكمة} أي: بالمقالة المحكمة الصحيحة.
قيل: وهي الحجج القطعية المفيدة لليقين {والموعظة الحسنة} وهي المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي يستحسنها السامع، وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها.
قيل: وهي الحجج الظنية الإقناعية الموجبة للتصديق بمقدّمات مقبولة.
قيل: وليس للدعوة إلاّ هاتان الطريقتان، ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألدّ إلى استعمال المعارضة والمناقضة، ونحو ذلك من الجدل.
ولهذا قال سبحانه: {وجادلهم بالتى هي أَحْسَنُ} أي: بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة.
وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقًا وغرضه صحيحًا، وكان خصمه مبطلًا وغرضه فاسدًا {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} لما حثّ سبحانه على الدعوة بالطرق المذكورة، بيّن أن الرشد والهداية ليس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذلك إليه تعالى فقال: {إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} أي: هو العالم بمن يضلّ ومن يهتدّي {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أي: بمن يبصر الحقّ فيقصده غير متعنت، وإنما شرع لك الدعوة، وأمرك بها قطعًا للمعذرة، وتتميمًا للحجة، وإزاحة للشبهة، وليس عليك غير ذلك.
ثم لما كانت الدعوة تتضمن تكليف المدعوّين بالرجوع إلى الحق، فإن أبوا قوتلوا، أمر الداعي بأن يعدل في العقوبة فقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} أي: أردتم المعاقبة {فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} أي: بمثل ما فعل بكم، لا تجاوزوا ذلك.
قال ابن جرير: أنزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلاّ مثل ظلامته، لا يتعدّاها إلى غيرها.
وهذا صواب؛ لأن الآية وإن قيل: إن لها سببًا خاصًا كما سيأتي، فالاعتبار بعموم اللفظ، وعمومه يؤدّي هذا المعنى الذي ذكره، وسمى سبحانه الفعل الأوّل الذي هو فعل البادىء بالشرّ عقوبة، مع أن العقوبة ليست إلاّ فعل الثاني، وهو المجازي للمشاكلة، وهي باب معروف وقع في كثير من الكتاب العزيز.
ثم حثّ سبحانه على العفو فقال: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين} أي: لئن صبرتم عن المعاقبة بالمثل، فالصبر خير لكم من الانتصاف، ووضع {الصابرين} موضع الضمير، ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد.
وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية محكمة لأنها واردة في الصبر عن المعاقبة والثناء على الصابرين على العموم.
وقيل: هي منسوخة بآيات القتال، ولا وجه لذلك.
ثم أمر الله سبحانه رسوله بالصبر فقال: {واصبر} على ما أصابك من صنوف الأذى {وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} أي: بتوفيقه وتثبيته.
والاستثناء مفرغ من أعمّ الأشياء، أي: وما صبرك مصحوبًا بشيء من الأشياء إلاّ بتوفيقه لك.
وفيه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
ثم نهاه عن الحزن فقال: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي: على الكافرين في إعراضهم عنك، أو لا تحزن على قتلى أحد، فإنهم قد أفضوا إلى رحمة الله.
{وَلاَ تَكُ في ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ} قرأ الجمهور بفتح الضاد، وقرأ ابن كثير بكسرها.
قال ابن السكيت: هما سواء، يعني: المفتوح والمكسور.
وقال الفراء: الضيق بالفتح: ما ضاق عنه صدرك، والضيق بالكسر: ما يكون في الذي يتسع، مثل الدار والثوب.
وكذا قال الأخفش، وهو من الكلام المقلوب؛ لأن الضيق.
وصف للإنسان يكون فيه ولا يكون الإنسان فيه، وكأنه أراد وصف الضيق بالعظم حتى صار كالشيء المحيط بالإنسان من جميع جوانبه، ومعنى {مما يمكرون} من مكرهم لك فيما يستقبل من الزمان.
ثم ختم هذه السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} أي: اتقوا المعاصي على اختلاف أنواعها {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا بها منها.
وقيل: المعنى {إن الله مع الذين اتقوا} الزيادة في العقوبة، {والذين هم محسنون} في أصل الانتقام، فيكون الأوّل إشارة إلى قوله: {فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} والثاني إشارة إلى قوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين}، وقيل {الذين اتقوا} إشارة إلى التعظيم لأمر الله {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} إشارة إلى الشفقة على عباد الله تعالى.
وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد، بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن مسعود: أنه سئل عن الأمة ما هي؟ فقال: الذي يعلم الناس الخير، قالوا: فما القانت؟ قال: الذي يطيع الله ورسوله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ} قال: كان على الإسلام ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره، فلذلك قال الله: {كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ}.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {كَانَ أُمَّةً} قال: إمامًا في الخير {قانتا} قال: مطيعًا.
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد تشهد له أمة، إلاّ قبل الله شهادتهم» والأمة: الرجل فما فوقه، إن الله يقول {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} والأمة الرجل فما فوقه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عمرو وقال: صلى جبريل بإبراهيم الظهر والعصر بعرفات، ثم وقف حتى إذا غابت الشمس دفع به، ثم صلى المغرب والعشاء، بجمع ثم صلى الفجر به كأسرع ما يصلي أحدكم من المسلمين، ثم وقف به حتى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين دفع، به، ثم رمى الجمرة، ثم ذبح، ثم حلق، ثم أفاض به إلى البيت فطاف به، فقال الله لنبيه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا}.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} قال: أراد الجمعة، فأخذوا السبت مكانها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق السدّي عن أبي مالك وسعيد بن جبير في الآية قال: باستحلالهم إياه.
رأى موسى رجلًا يحمل حطبًا يوم السبت، فضرب عنقه، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، يعني: الجمعة، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس فيه لنا تبع، اليهود غدًا والنصارى بعد غد».
وأخرج مسلم وغيره من حديث حذيفة نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وجادلهم بالتى هي أَحْسَنُ} قال: أعرض عن أذاهم إياك.
وأخرج الترمذي وحسنه، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة في الفوائد، وابن حبان، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب، قال: لما كان يوم أحد، أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلًا، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، فمثّلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة، أنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصبر ولا نعاقب كفوا عن القوم إلاّ أربعة».
وأخرج ابن سعد، والبزار، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، وأبو نعيم في المعرفة، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حيث استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه، ونظر إليه قد مثل به، فقال: «رحمة الله عليك، فإنك كنت ما علمت وصولًا للرحم، فعولًا للخير، ولولا حزن من بعدك عليك، لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من أرواح شتى، أما والله لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك»، فنزل جبريل، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية، فكفّر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر.
وأخرج ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس مرفوعًا نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية، قال: هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل من قاتله، ثم نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم فهذا منسوخ.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} قال: اتقوا فيما حرّم عليهم، وأحسنوا فيما افترض عليهم. اهـ.

.قال القاسمي:

{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}.
منصوب بـ {رحيم} أو بـ {اذكر} واليوم يوم القيامة، ومعنى: {تُجَادِلُ} أي: تحاجّ وتسعى في خلاصها. لا يهمها إلا ذاتها وشأنها، ولا يغني عنها مال ولا أب ولا ابن ولا شيء ما: {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} أي: من خير وشر: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [112- 113].
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}.
اعلم أنه لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة، أنذرهم بنقمته في الدنيا أيضًا بالجوع والخوف، ومعنى قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً} أي: جعل القرية التي هذه حالها مثلًا لكل قوم أنعم الله عليهم. فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته. فيدخل فيهم أهل مكة دخولًا أوليًا، أو لقوم معينين، وهم أهل مكة، والقرية إما مقدرة بهذه الصفة غير معنية؛ إذ لا يلزم وجود المشبه به. أو معينة من قرى الأولين، وقد ضمن {ضرب} معنى {جعل} و{مثلًا} مفعول ثان، و{قريةً} مفعول أول.
قال أبو السعود: وتأخير {قرية} مع كونها مفعولًا أول؛ لئلا يحول المفعول الثاني بينها وبين صفتها وما يترتب عليها؛ إذ التأخير عن الكل مخلٍّ بتجاذب أطراف النظم وتجاوبها، ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس ترقبًا لوروده، وتشوقًا إليه. لاسيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه. فإن المثل مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوال ما هو مثل. فيتمكن المؤخر عند وروده لديها فضل تمكن، والمراد بالقرية: أهلها مجازًا، أو بتقدير مضاف، ومعنى كونها: {آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} أنه لا يزعجها خوف، و{الرغد} الواسع، و{الأنعم} جمع نعمة.
وفي قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} شبه أثر الجوع والخوف وضررهما المحيط بهم، باللباس الغاشي للابس. فاستعير له اسمه، وأوقع عليه الإذاقة المستعارة؛ لمطلق الإيصال المنبئة عن شدة الإصابة، بما فيها من اجتماع إدراكي اللامسة والذائقة، على نهج التجريد. فإنها لشيوع استعمالها في ذلك، وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة.
قال ابن كثير: هذا مثل أريد به أهل مكة. فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمنًا لا يخاف، كما قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57]، وهكذا قال ها هنا، و: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا} أي: هنيئًا سهلًا: {مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ} أي: جحدت آلاء الله عليها، وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28- 29]، ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما، فقال: {فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} أي: ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها من كل مكان، وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم، فأكلوا العلهز: {هو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحر} وقوله: {والْخَوْفِ} وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة، من سطوته وسراياه وجيوشه، وجعل كل ما لهم في دمار وسفال. حتى فتحها الله عليهم، وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم، وامتن به عليهم في قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عِمْرَان: 164]. الآية، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولًا} [الطلاق: 10]، وقوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 151]، إلى قوله: {وَلاَ تَكْفُرُونِ} وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرغد؛ بدَّل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنًا، ورزقهم بعد العَيْلة، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم. انتهى.