فصل: التفسير المأُثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها، ويعين وسائلها وطرائقها، ويرسم المنهج للرسول الكريم، وللدعاة من بعده بدينه القويم فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن.
إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله. لا لشخص الداعي ولا لقومه. فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله.
والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها.
فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية. فإن الرفق في الموعظة كثيرًا ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ.
وبالجدل بالتي هي أحسن. بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح. حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة، وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلًا عن هيبتها واحترامها وكيانها، والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها. في سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر!
ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين. فلا ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك لله.
هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة. فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير، فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازًا لكرامة الحق، ودفعًا لغلبة الباطل، على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع، فالإسلام دين العدل والاعتدال، ودين السلم والمسالمة، إنما يدفع عن نفسه وأهله البغي ولا يبغي {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}، وليس ذلك بعيدًا عن دستور الدعوة فهو جزء منه. فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها، فلا تهون في نفوس الناس، والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد، ولا يثق أنها دعوة الله. فالله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها، والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله والعزة لله جميعًا. ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض وتحقيق العدل بين الناس، وقيادة البشرية إلى الطريق القويم، فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فلا يعاقبون، ويعتدى عليهم فلا يردون؟!.
ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل، فإن القرآن الكريم يدعو إلى العفو والصبر، حين يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان، في الحالات التي قد يكون العفو فيها والصبر أعمق أثرًا.
وأكثر فائدة للدعوة. فأشخاصهم لا وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة تؤثر العفو والصبر. فأما إذا كان العفو والصبر يهينان دعوة الله ويرخصانها، فالقاعدة الأولى هي الأولى.
ولأن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال، وضبط للعواطف، وكبت للفطرة، فإن القرآن يصله بالله ويزين عقباه: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله}. فهو الذي يعين على الصبر وضبط النفس، والاتجاه إليه هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله والقصاص له بقدره.
ويوصي القرآن الرسول صلى الله عليه وسلم وهي وصية لكل داعية من بعده، الا يأخذه الحزن إذا رأى الناس لا يهتدون، فإنما عليه واجبه يؤديه، والهدى والضلال بيد الله، وفق سنته في فطرة النفوس واستعداداتها واتجاهاتها ومجاهدتها للهدى أو للضلال، وألا يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية لله، فالله حافظه من المكر والكيد، لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته لا يبتغي من ورائها شيئًا لنفسه..
ولقد يقع به الاذى لامتحان صبره، ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه، ولكن العاقبة مظنونة ومعروفة {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون.
هذا هو دستور الدعوة إلى الله كما رسمه الله، والنصر مرهون باتباعه كما وعد الله، ومن أصدق من الله؟. اهـ.

.التفسير المأُثور:

قال السيوطي:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
أخرج ابن مردويه عن أبي ليلى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تمسكوا بطاعة أئمتكم ولا تخالفوهم، فإن طاعتهم طاعة الله معصيتهم معصية الله، فإن الله إنما بعثني أدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، فمن خالفني في ذلك فهو من الهالكين وقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله، ومن ولي من أمركم شيئًا فعمل بغير ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} قال: أعرض عن أذاهم إياك.
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)}.
أخرج الترمذي وحسنه وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلًا، ومن المهاجرين ستة، منهم حمزة فمثلوا بهم فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لَنُربِيَنَّ عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصبر ولا نعاقب كفوا عن القوم إلا أربعة».
وأخرج ابن سعد والبزار وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل، عن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد، فنظر إلى منظر لم يَرَ شيئًا قط كان أوجع لقلبه منه، ونظر إليه قد مثل به فقال: رحمة الله عليك فإنك كنت ما علمت وصولًا للرحم فعولًا للخيرات، ولولا حزن من بعدك عليك لسّرني أن أتركك حتى يحشرك الله من أرواح شتى، أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك. فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم النحل {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم} الآية. فكفّر النبي عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر».
وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل حمزة ومثل به: «لئن ظفرت بقريش لأمثلن بسبعين رجلًا منهم. فأنزل الله {وإن عاقبتم} الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نصبر يا رب» فصبر ونهى عن المثلة.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير، عن الشعبي قال: «لما كان يوم أحد وانصرف المشركون فرأى المسلمون بإخوانهم مثله، جعلوا يقطعون آذانهم وآنافهم ويشقون بطونهم. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن أنالَنَا الله منهم لنفعلن ولنفعلن فأنزل الله {وإن عاقبتم} الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نصبر».
وأخرج ابن إسحق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة النحل كلها بمكة إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة يوم أحد حيث قتل حمزة ومثل به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بثلاثين رجلًا منهم فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط» فأنزل الله {وإن عاقبتم فعاقبوا} إلى آخر السورة.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} قال: هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل من قاتله، ثم نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم. قال: فهذا من المنسوخ.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن زيد قال: كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذو منعة، فقالوا: يا رسول الله، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب. فنزلت هذه الآية، ثم نسخ ذلك بالجهاد.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: {إن الله من الذين اتقوا والذين هم محسنون} قال: اتقوا فيما حرم الله عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم.
وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن هرم بن حيان أنه لما نزل به الموت قالوا له: أوص. قال: أوصيكم بآخر سورة النحل {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} إلى آخر السورة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} قال: لا تعتدوا.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن محمد بن سيرين في قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} قال: إن أخذ منك رجل شيئًا فخذ منه مثله. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
قوله تعالى: {ادع} يجوز أن يكونَ مفعولُه مرادًا، أي: ادعُ الناسَ، وأن لا يكونَ، أي: افعلِ الدعاء، و{بالحكمة} حالٌ، أي: ملتبسًا بها.
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)}.
قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ} العامَّةُ على المُفاعلة، وهي بمعنى فَعَلَ كسافَر، وابنُ سيرين {عَقَّبْتم} بالتشديد بمعنى: قَفَّيْتُمْ فَقَفُّوا بمثلِ ما فُعِلَ بكم، وقيل: تتبَّعْتُم، والباء مُعَدِّيَةٌ، وفي قراءةِ ابنِ سيرين: إمَّا للسببيةِ، وإمَّا مزيدةٌ.
قوله: {لِّلصَّابِرينَ} يجوز أن يكونَ عامًَّا، أي: الصبرُ خيرٌ لجنسِ الصابرين، وأن يكونَ مِنْ وقوعِ الظاهر موقعَ المضمر، أي: صَبْرُكم خيرٌ لكم.
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
قوله تعالى: {إِلاَّ بالله} أي بمعونتِهِ فهي للاستعانة.
قوله: {فِي ضَيْقٍ} ابن كثير هنا، وفي النمل؛ بكسر الصاد، والباقون بالفتح. فقيل: لغتان بمعنىً في هذا المصدر، كالقَوْل والقِيْل، وقيل: المفتوحُ مخفَّفٌ من {ضَيِّق} كَمَيْت في مَيِّت، أي: في أمرٍ ضَيِّق، ورَدَّه الفارسيُّ: بأنَّ الصفةَ غيرُ خاصةٍ بالموصوف فلا يجوز ادِّعاء الحذفِ، ولذلك جاز: مررت بكاتبٍ وامتنع بآكلٍ.
قوله: {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} متعلقٌ بـ {ضَيْق}، و{ما} مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
الدعاء إلى سبيل الله بحثِّ الناسِ على طاعةِ الله، وزجرهم عن مخالفة أمر الله، والدعاء بالحكمة ألا يخالفَ بالفعل ما يأمر به الناس بالنطق.
والموعظة الحسنة ما يكون صادرًا عن علمٍ وصوابٍ، ولا يكون فيها تعنيف.
{وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هي أَحْسَنُ} بالحجة الأقوى، والطريقة الأوضح. قال تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]: فَشَرْطُ الأمرِ بالمعروف استعمالُ ما تأمر به، والانتهاء عما تنهي عنه.
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)}.
إذا جرى عليكم ظُلُمٌ من غيرَكم وأردتم الانتقامَ.. فلا تتجاوزُوا حَدَّ الإذنِ بما هو في حكم الشرع.
{وَلَئِن صَبَرْتُمْ} فتركتم الانتصافَ لأِجْلِ مولاكم فهو خيرُ لكم إِنْ فَعَلْتُمْ ذلك، والأسبابُ التي قد يترك لأجلها المرءُ الانتصافَ مختلفة؛ فمنهم من يترك ذلك طمعًا في الثواب غدًا فإنه أوفر وأكثر، ومنهم من يترك ذلك طمعًا في أن يتكفَّل اللَّهُ بخصومه، ومنهم من يترك ذلك لأنه مُكْتَفٍ بعلم الله تعالى بما يجري عليه، ومنهم من يترك ذلك لِكَرَم نَفسِه، وتَحرُّرِه عن الأخطار ولاستحبابه العفوَ عند الظَّفَرِ، ومنهم مَنْ لا يرى لنفسه حقًا، ولا يعتقد أَنَّ لأحدٍ هذا الحق فهو على عقد إرادته بِتَرْكِ نَفْسِه؛ فمِلْكُه مُبَاحٌ ودَمَهُ هَدَر، ومنهم من ينظرإلى خصمه- أي المتسلط عليه- على أنَّ فِعْلَه جزاء على ما عمله هو من مخالفة أمر الله، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فِبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. فاشتغاله باستغفاره عن جُرْمِه يمنعه عن انتصافه من خصمه.
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)}.
{واصبر} تكليف، {وما صبرك إلا بالله} تعريف. {واصبر} تحققٌ بالعبودية، {وما صبرك إلا بالله} إخبارٌ عن الربوبية.
{ولا تحزن عليهم} أي طالِعْ التقدير، فما لا نجعلُ له خطرًا عندنا لا ينبغي أن يوجِبَ أثرًا فيك، فمَنْ أَسْقَطْنا قَدْرَه فاستَصْغِر أَمْرَه، وإذا عرفتَ انفرادَنا بالإيجادِ فلا يضيق قلبُك بشدّة عداوتهم، فإِنَّا ضَمَنَّا كِفايتَك، وألا نُشْمِتَهم بك، وألا نجعلَ لهم سبيلًا إليك.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}.
إن الله معهم بالنصرة، ويحيطهم بالإحسان والبسطة.
{الذين اتقوا} رؤيَةَ النصْرةِ مِنْ غيره، والذين هم أصحاب التبري من الحَوْلِ والقوة.
والمحسن الذي يعبد الله كأنه يراه، وهذه حال المشاهدة. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.
جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق فالمتسجيب القابل الذكي الذي لا يعاندالحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الامر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي احسن هذا هو الصحيح في معنى هذه الاية لا ما يزعم اسير منطق اليونان ان الحكمة قياس البرهان وهي دعوة الخواص والموعظة الحسنة قياس الخطابة وهي دعوة العوام والمجادلة بالتي هي احسن القياس الجدلي وهو رد شغب المشاغب بقياس جدلي مسلم المقدمات وهذا باطل وهو مبني على أصول الفلسفة وهو مناف لأصول المسلمين وقواعدالدين من وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. اهـ.