فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن معية الله خاصة بالمتقين المحسنين، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على عمومها، وهي قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}، وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم}، وقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}، {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْن} الآية.
والجواب: أن لله معية خاصة ومعية عامة، فالمعية الخاصة بالنصر والتوفيق والإعانة، وهذه لخصوص المتقين المحسنين كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا}.
وقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} الآية، وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
ومعية عامة بالإحاطة والعلم؛ لأنه تعالى أعظم وأكبر من كل شيء، محيط بكل شيء، فجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا وله المثل الأعلى، وسيأتي له زيادة إيضاح في سورة الحديد- إن شاء الله- وهي عامة لكل الخلائق كما دلّت عليه الآيات المتقدمة. اهـ.

.التفسير الإشاري:

.قال نظام الدين النيسابوري:

التأويل: {وإذا بدلنا آية} إنه تعالى يعالج بدواء القرآن أمراض القلوب في كل وقت بنوع آخر على حسب ما يعلمه من المصالح فلذلك قال: {والله أعلم بما ينزل} {وبشرى للمسلمين} الذين استسلموا للطبيب ومعالجته حتى صارت قلوبهم سليمة. {إنما يعلمه بشر} ففيه إنكار أن طب القلوب وعلاجها من شأن البشر بنظر العقل لأنه مبني على معرفة الأمراض وكميتها وكيفيتها، ومعرفة الأدوية وخواصها وكيفية استعمالها، ومعرفة الأمزجة واختلاف أحوالها، وأن القلوب بيد الله يقلبها هو كيف يشاء فيضيق عن معالجتها نطاق عقول البشر ولهذا قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 80]. اللَّهم إلا إذا علم بتعليم الله كقوله: {وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113]، ومع هذا كان يقول نحن نحكم بالظاهر {يلحدون إليه أعجمي} هو الذي لا يفهم من كلام الله أسراره وحقائقه والعربي ضده كما قال: {فإنما يسرناه بلسانك} [مريم: 97]. {إنما يفتري الكذب} لأن الافتراء من شأن النفس الأمارة الكافرة التي لا تؤمن بآيات الله. {وأولئك هم الكاذبون} أي هم الذين استمروا على الكذب لأن المؤمن قد يكذب في بعض الأحوال إلا أنه لا يصر على ذلك، وهكذا في جميع المعاصي ولهذا لا يخرج من الإيمان بالكلية ولكن ينقص الكذب إيمانه ويرجع بالتوبة إلى أصله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» {من كفر بالله من بعد إيمانه} إشارة إلى المريد المرتد بنسيم روائح نفحات الحق بمشام قلبه عند هبوبه، واصطكاك أهوية عوالم الباطن، وانخراق سحب حجب البشرية فلمع له برق أضاءت به آفاق سماء القلب وأشرقت أرض النفس، فآمن بحقية الطلب واحتمال التعب فاستوقد نار الشوق والمحبة، فما أضاءت ما حوله وبذل في الاجتهاد جده وحوله هبت نكباء النكبات فصدئت مرآة قلبه، وذهب الله بنوره وانخمدت نار الطلب وآل المشؤوم إلى طبعه {إلا من أكره} على مباشرة فعل أو قول يخالف الطريقة من معاملات أهل الطبيعة فيوافقهم فيها في الظاهر ويخالفهم بالباطن حتى يخلص من شؤم صحبتهم {استحبوا} اختاروا محبة الدنيا وشهواتها على محبة الله {وإن الله لا يهدي} إلى حضرته {القوم الكافرين} بنعمته {وأولئك هم الغافلون} عما أعدّ الله لعباده الصالحين. {هم الخاسرون} لأن الإغضاء عن العبودية يورث خسران القلوب عن مواهب الربوبية {ثم إن ربك للذين هاجروا} نفوسهم وهواهم {من بعد ما فتنوا} بمخالفة أوامر الحق ونواهيه {ثم جاهدوا} النفوس بسيوف الرياضات {وصبروا}.
على تزكيتها وتحليتها متمسكين بذيل إرادة الشيخ {يوم تأتي} أرباب النفوس {تجادل على نفسها} على قدر بقاء وجودها دفعًا لمضارّها وجذبًا لمنافعها حتى إن كل نبي يقول نفسي نفسي إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم فإنه فانٍ بالكلية عن نفسه باقٍ ببقاء ربه فيقول: أمتي أمتي لأنه مغفور ذنب وجوده المتقدم في الدنيا والمتأخر في الآخرة بما فتح الله له ليلة المعراج إذ واجهه بخطاب: سلام عليك أيها النبي، ففني عن وجوده بالسلام وبقي بوجوده بالرحمة، فكان رحمة مهداة ببركاته إلى الناس كافة، ولكن رفع الذلة من تلك الضيافة وجب لمتابعيه فلهذا قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
يعني الذين صلحوا لبذل الوجود في طلب المقصود {قرية} هي قرية شخص الإنسان {كانت آمنة} أي آهلة وهو الروح الإنساني {مطمئنة} بذكر الله {يأتيها رزقها} من المواهب {من كل مكان} روحاني وجسماني {فكفرت} النفس الأمارة {فأذاقها الله لباس الجوع} وهو انقطاع مواد التوفيق فأكلوا من جيفة الدنيا وميتة المستلذات {والخوف} وهو خوف الانقطاع عن الله {ولقد جاءهم رسول} الوارد بالرباني فما تخلقوا بأخلاقه {وكلوا مما رزقكم الله} من أنوار الشريعة وأسرار الطريقة {هذا حلال وهذا حرام} على عادة أهل الإباحة {وعلى الذين هادوا} أي تابوا {حرمنا} من موانع الوصول {ما قصصنا عليك} في بدوّ نبوتك حتى كنت محترزًا عن صحبة خديجة وتنحيت إلى حراء أسبوعًا أو أسبوعين. {وما ظلمناهم} بتحريم ذلك عليهم بل أنعمنا به عليهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بالإعراض عنا بعد الإقبال علينا {ولم يك من المشركين} ممن له شركة مع الله في الوجود {اتبع ملة إبراهيم} في الظاهر حتى يتبعك هو في الباطن ولهذا ذهب إلى ربه ماشيًا {إني ذاهب إلى ربي} [الصافات: 99]، وأسري بمحمد راكبًا {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1]. فهو خليل وأنت حبيب، اتبعت الخليل في الدنيا فيتبعك الخليل في الآخرة «الناس محتاجون إلى شفاعتي يوم القيامة حتى إبراهيم عليه السلام». {وإن عاقبتهم} النفس الأمارة {فعاقبوا} أي بالغوا في عقابها بالفطام عن مألوفاتها {بمثل ما عوقبتم به} من الانقطاع عن مواد التوفيق والمواهب. {ولئن صبرتم} على معاقبتهم {لهو خير} لأن عقاب الحبيب على قدر عقاب العدو وأعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك. {واصبر} على معاقبة النفس ومخالفة الهوى. {وما صبرك إلا بالله} لأن الصبر من صفات الله ولا يقدر أحد أن يتصف بصفاته إلا به بأن يتجلى بتلك الصفة له. {ولا تحزن} على النفس وجنودها عند المعاقبة فإن فيها صلاح حالهم ومآلهم.
{ولا تك في ضيق مما يمكرون} فإن مكرهم يندفع بمعونة الله عند الفرار إليه والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة في الآيات: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء} [النحل: 89]. أي مما كان وما يكون فيفرق به بين المحق والمبطل والصادق والكاذب والمتبع والمبتدع، وقيل: كل شيء هو النبي صلى الله عليه وسلم كما قيل إنه عليه الصلاة والسلام الإمام في قوله سبحانه: {وَكُلَّ شيء أحصيناه في إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12]. {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَاء ذِى القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. قال السيادي: العدل رؤية المنة منه تعالى قديمًا وحديثًا، والإحسان الاستقامة بشرط الوفاء إلى الأبد، وقيل: العدل أن لا يرى العبد فاترا عن طاعة مولاه مع عدم الالتفات إلى العوض، وإيتاء ذي القربى الإحسان إلى ذوي القرابة في المعرفة والمحبة والدين فيخدمهم بالصدق والشفقة ويؤدي إليهم حقهم، والفحشاء الاستهانة بالشريعة، والمنكر الإصرار على الذنب كيفما كان، والبغي ظلم العباد، وقيل: الفحشاء إضافة الأشياء إلى غيره تعالى ملكًا وإيجادًا.
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله} [النحل: 91]. المأخوذ عليكم في عالم الأرواح بالبقاء على حكمه وهو الاعراض عن الغير والتجرد عن العلائق والعوائق في التوجه إليه تعالى إذا عاهدتم أي تذكرتموه بإشراق نور النبي صلى الله عليه وسلم عليكم وتذكيره إياكم؛ قال النصر آبادي: العهود مختلفة فعهد العوام لزوم الظواهر وعهد الخواص حفظ السرائر وعهد خواص الخواص التخلي من الكل لمن له الكل {مَا عِندَكُمْ} من الصفات ينفد لمكان الحدوث {وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96]. لمكان القدم فالعبد الحقيقي من كان فانيًا من أوصافه باقيًا بما عند الله تعالى كذا في أسرار القرآن {مَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} أي عملا يوصله إلى كماله الذي يقتضيه استعداده {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} معتقد للحق اعتقادًا جازًا {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً} أي حياة حقيقية لا موت بعدها بالتجرد عن المواد البدنية والانخراط في سلك الأنوار القدسية والتلذذ بكمالات الصفات ومشاهدات التجليات الافعالية والصفاتية {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم} من جنات الصفات والأفعال {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعمْلَونَ} [النحل: 97]. إذ عملهم يناسب صفاتهم التي هي مبادى أفعالهم وأجرهم يناسب صفات الله تعالى التي هي مصادر أفعاله فانظركم بينهما من التفاوت في الحسن، ويقال: الحياة الطيبة ما تكون مع المحبوب ومن هنا قيل:
كل عيش ينقضي ما لم يكن ** مع مليح ما لذاك العيش ملح

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جاهدوا وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110]. قال سهل هو اشارة إلى الذين رجعوا القهقري في طريق سلوكهم ثم عادوا أي إن ربك للذين هجروا قرناء السوء من بعد أن ظهر لهم منهم الفتنة في صحبتهم ثم جاهدوا أنفسهم على ملازمة أهل الخير ثم صبروا معهم على ذلك ولم يرجعوا إلى ما كانوا عليه في الفتنة لساتر عليهم ما صدر منهم منعهم منعهم عليهم بصنوف الأنعام، وقيل: إن ربك للذين هاجروا أي تباعدوا عن موطن النفس بترك المألوفات والمشتهيات من بعد ما فتنوا بها بحكم النشأة البشرية ثم جاهدوا في الله تعالى بالرياضات وسلوك طريقه سبحانه بالترقي في المقامات والتجريد عن التعلقات وصبروا عما تحب النفس وعلى ما تكرهه بالثبات في السير إن ربك لغفور يستر غواشي الصفات النفسانية رحيم بإفاضة الكمال والصفات القدسية {ضَرَبَ الله مَثَلًا} للنفس المستعدة القابلة لفيض القلب الثابتة في طريق اكتساب الفضائل الآمنة من خوف فواتها المطمئنة باعتقادها {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا} من العلوم والفضائل والأنوار {مّن كُلّ مَكَانٍ} من جميع جهات الطرق البدنية كالحواس والجوارح والآلات ومن جهة القلب {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} ظهرت بصفاتها بطرا وإعجابًا بزينتها ونظرًا إلى ذاتها ببهجتها وبهائها فاحتجبت بصفاتها الظلمانية عن تلك الأنوار ومالت إلى الأمور السلفية وانقطع إمداد القلب عنها وانقلبت المعاني الواردة عليها من طرق الحس هيآت غاسقة من صور المحسوسات التي أنجذبت إليها {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع} بانقطاع مدد المعاني والفضائل والأنوار من القلب والخوف من زوال مقتنياتها من الشهوات والمألوفات.
{بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]. من كفران أنعم الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ} أي من جنسهم وهي القوة الفكرية {فَكَذَّبُوهُ} بما ألقى إليهم من المعاني المعقولة والآراء الصادقة {فَأَخَذَهُمُ العذاب} أي عذاب الحرمان والاحتجاب {وَهُمْ ظالمون} [النحل: 113]. في حالة ظلمهم وترفعهم عن طريق الفضيلة ونقصهم لحقوق صاحبهم {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} لاجتماع ما تفرق في غيره من الصفات الكاملة فيه وكذا كل نبي ولذا جاء في الخبر على ما قيل لو وزنت بأمتي لرجحت بهم {قانتا لِلَّهِ} مطيعا له سبحانه على أكمل وجه {حَنِيفًا} مائلا عن كل ما سواه تعالى: {ولم يكن مِنَ المشركين} [النحل: 120]. بنسبة شيء إلى غيره سبحانه {شاكرا} لا نعمه مستعملا لها على ما ينبغي {اجتباه} اختياره بلا واسطة عمل لكونه من الذين سبقت لهم الحسنى فتقدم كشوفهم على سلوكهم {وَهَدَاهُ} بعد الكشف {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 121]، وهو مقام الإرشاد والدعوة ينعون به مقام الفرق بعد الجمع {وءاتيناه في الدنيا حَسَنَةً} وهي الذكر الجميل والملك العظيم والنبوة {وَإِنَّهُ في الآخرة} قيل أي في عالم الأرواح {لَمِنَ الصالحين} [النحل: 122]. المتمكنين في مقام الاستقامة وقيل أي يوم القيامة لمن الصالحين للجلوس على بساط القرب والمشاهدة بلا حجاب وهذا لدفع توهم أن ما أوتيه في الدنيا ينقص مقامه في العقبى كما قيل إن مقام الولي المشهور دون الولي الذي في زوايا الخمول، وإليه الإشارة بقولهم: الشهرة آفة، وقد نص على ذلك الشعراني في كتبه {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} [النحل: 124]، وهم اليهود واختاروه لأنه اليوم الذي انتهت به أيام الخلق فكان بزعمهم أنسب لترك الأعمال الدنيوية وهو على ما قال الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات يوم الأبد الذي لا لا انقضاء له فليله في جهنم ونهاره في الجنة واختيار النصارى ليوم الأحد لأنه أول يوم اعتني الله تعالى فيه بخلق الخلق فكان بزعمهم أولى بالتفرع لعبادة الله تعالى وشكره سبحانه، وقد هدى الله تعالى لما هو أعظم من ذلك وهو يوم الجمعة الذي أكمل الله تعالى به الخلق وظهرت فيه حكمة الاقتدار بخلق الإنسان الذي خلق على صورة الرحمن فكان أولى بأن يتفرغ فيه الإنسان للعبادة والشكر من ذنينك اليومين وسبحان من خلق فهدى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين} [النحل: 126]. لما في ذلك من قهر النفس الموجب لترقيها إلى أعلى المقامات {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} قيل: الصبر أقسام:
صبر لله تعالى.
وصبر في الله تعالى.
وصبر مع الله تعالى.
وصبر عن الله تعالى.
وصبر بالله تعالى، فالصبر لله تعالى هو من لوازم الإيمان وأول درجات الإسلام وهو حبس النفس عن الجزع عند فوات مرغوب أو وقوع مكروه وهو من فضائل الأخلاق الموهوبة من فضل الله تعالى لأهل دينه وطاعته المقتضية للثواب الجزيل، والصبر في الله تعالى هو الثبات في سلوك طريق الحق وتوطين النفس على المجاهدة بالاختيار وترك المألوفات واللذات وتحمل البليات وقوة العزيمة في التوجه إلى منبع الكمالات وهو من مقامات السالكين يهبه الله تعالى لمن يشاء من أهل الطريقة، والصبر مع الله تعالى هو لأهل الحضور والكشف عند التجرد عن ملابس الأفعال والصفات والتعرض لتجليات الجمال والجلال وتوارد واردات الأنس والهيبة فهو بحضور القلب لمن كان له قلب والاحتراس عن الغفلة والغيبة عند التلوينات بظهور النفس، وهو أشق على النفس من الضرب على الهام وإن كان لذيذًا جدًا، والصبر عن الله تعالى هو لأهل العيان والمشاهدة من العشاق المشتاقين المتقلبين في أطوار التجلي والاستتار المنخلعين عن الناسوت المتنورين بنور اللاهوت ما بقي لهم قلب ولا وصف كلما لاح لهم نور من سبحات أنوار الجمال احترقوا وتفانوا وكلما ضرب لهم حجاب ورد وجودهم تشويقًا وتعظيمًا ذاقوا من ألم الشوق وحرقة الفرقة ما عيل به صبرهم وتحقق موتهم، والصبر بالله تعالى هو لأهل التمكين في مقام الاستقامة الذين أفناهم الله تعالى بالكلية وما ترك عليهم شيئًا من بقية الأنية والاثنينية ثم وهب لهم وجودًا من ذاته حتى قاموا به وفعلوا بصفاته وهو من أخلاق الله تعالى ليس لأحد فيه نصيب، ولهذا بعد أن أمر سبحانه به نبيه صلى الله عليه وسلم بين له عليه الصلاة والسلام إنك لا تباشره إلا بي ولا تطيقه إلا بقوتي ثم قال سبحانه له صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} فالكل مني {وَلاَ تَكُ في ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]. لانشراح صدرك بي {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} بقاياهم وفنوا فيه سبحانه {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128]. بشهود الوحدة في الكثرة وهؤلاء الذين لا يحجبهم الفرق عن الجمع ولا الجمع عن الفرق ويسعهم مراعاة الحق والخلق، وذكر الطيبي أن التقوى في الآية بمنزلة التوبة للعارف والإحسان بمنزلة السير والسلوك في الأحوال والمقامات إلى أن ينتهي إلى محو الرسم والوصول إلى مخدع الأنس، هذا والله سبحانه الهادي إلى سواء السبيل فنسأله جل شأنه أن يهدينا إليه ويوفقنا للعلم النافع لديه ويفتح لنا خزائن الأسرار ويحفظنا من شر الأشرار بحرمة القرآن العظيم والرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم. اهـ.