فصل: مطلب ما بدأ اللّه تعالى به حضرة الرسول وما قال له والعلوم التي منحه إياها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب ما بدأ اللّه تعالى به حضرة الرسول وما قال له والعلوم التي منحه إياها:

الثامنة والخمسون: قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم سألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده المقدسة بين كتفي بلا تكييف ولا تحديد، فوجدت بردها، فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى، فعلم أخذ عليّ كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري، وعلم خيّرني فيه، وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي.
يستدل من هذا أن العلوم الشتى هي العلوم الثلاثة المذكورة، كما تدل عليه الفاء الفرعية وهي زائدة على علوم الأولين والآخرين، فالأول وهو الذي أمره بكته من باب الحقيقة الصّرفة، والثاني الذي خيره فيه من باب المعرفة، والثالث الذي أمره تبليغه للعامة والخاصة من باب الشريعة، قال أبو يزيد البسطامي رأيت ربّي في المنام فقلت كيف الطريق إليك، فقال أترك نفسك وتعال.
وقال حمزة الفارسي قرأت القرآن على ربي في المنام، فلما قرأت: {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ} قال قل وأنت القاهر يا حمزة.
التاسعة والخمسون: قال صلّى اللّه عليه وسلم سمعت كلام الحق كما سمعه موسى، أي من جميع جهاتي وبكل أجزائي بلا كيفية، ورأيته بعين رأسي بلا كيفية، هذا وإن جميع الأنبياء رأوا ربهم حال الانسلاخ الكلي بأعين بصيرتهم، وإن الرسول محمدا رآه بعين رأسه على الصحيح، وقدمنا في الآية 40 من سورة بالنجم والآية 23 من سورة القيامة والآية 143 من سورة الأعراف المارات ما يتعلق في بحث رؤية اللّه تعالى فراجعها، وهذه الرؤية الحقيقية جعلت له صلّى اللّه عليه وسلم في هذا المقام العظيم مرة واحدة ففضل فيها على المرسلين كافة، أما رؤيته حال الانسلاخ بعين بصيرته كغيره من الأنبياء فكثيرة جدا، أما غير الأنبياء من مؤمني البشر فيجوز أن يروه في المنام كأبي يزيد البسطامي وحمزة الفارسي وغيرهما من صالحي هذه الأمة المباركة، ولا ينافي ذلك الحكم الشرعي، بل يوافقه وعليه الإجماع.
قال صلّى اللّه عليه وسلم: «ثم فرض عليّ وعلى أمّتي خمسين صلاة في اليوم والليلة، فنزلت إلى إبراهيم فلم يقل شيئا، ثم أتيت موسى فقال لي ما فرض اللّه على أمتك؟ قلت خمسين صلاة، قال إرجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك، واني قد خبرت قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، قال عليه السلام فرجعت إلى ربي أي من الفلك السادس الذي فيه موسى إلى المحل المشرف الذي خاطبه به ربه فخررت ساجدا فقلت أبا رب خقف عن أمتي، فحط عني خمسا، فرجعت إلى موسى وأخبرته، فقال إن أمتك لا تطيق ذلك إرجع إلى ربك واسأله التخفيف، قال فلم أزل أرجع بين ربي وموسى وهو يحط عني خمسا خمسا حتى قال موسى بم أمرت؟ قلت بخمس صلوات كل يوم وليلة، قال إرجع فاسأله التخفيف، فقلت: قد راجعت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم، فلما جاوزت نادى مناد أن قد أمضيت فريضتي وخففت على عبادي، وقال من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال فجاوزته وهبطت راضيا بما فرض علي وتفضّل» وتقدم هذا الحديث القدسي بلفظه الكامل في الآية 84 من سورة القصص المارة، وهذه الصلوات الخمس لها أجر الخمسين كما جاء في رواية أخرى، وبأخري الحسنة بعشر أمثالها.
واعلم أنه يوجد أناس لا خلاق لهم من العلم والفهم ينكرون تردّد حضرة الرسول بين موسى وربه ويتذرعون بما لا قيمة له ولا مستند، مما يقولونه للعوام، إن محمدا أفضل من موسى ولا يمكن بل لا يجوز أن يكون المفضول واسطة للأفضل كي يقنعوهم بعدم صحة هذه الرواية، وهذا من التعصب بمكان، لأن هذا الحديث رواه البخاري عن الثقات العدول، ولا أصح من رواته ولا منه إلا كتاب اللّه، أما قاعدة الفاضل والمفضول والشبه به فليست على بابها وإطلاقها كما بيناه في الآية 114 من سورة طه المارة، على أن جبريل هو الواسطة بين اللّه ورسوله، فهل نقول إنه أفضل من محمد، كلا، راجع الآية الأولى المارة وهؤلاء إنما يقولون ما يقولون ليتوصلوا به إلى الطعن في الإمام البخاري من أنه أدخل في صحيحه ما ليس بصحيح، ويقصدون الطعن في صحة المعراج بالروح والجسد كما أشرنا إليه آنفا في المعجزة الخامسة.
الستون: قال صلّى اللّه عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي سبعين مدينة تحت العرش كل مدينة مثل دنياكم هذه مملوءة من الملائكة يسبحون اللّه تعالى ويقدسونه ويقولون اللهم اغفر لمن شهد الجمعة اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة، ورأيت مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر، فقلت لجبريل عليه السلام إذ رافقه في النزول من المحل الذي تخلف عنه في الطلوع ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده شيء والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة.
الحادية والستون: قال صلّى اللّه عليه وسلم ورأيت رضوان خازن الجنة، وقد فرح بي حين رآني ورحب بي وأدخلني الجنة وأراني عجائب ما فيها، ورأيت فيها درجات أصحابي والقصور والأنهار والعيون والأشجار مما أبدعه الواحد القهار، وسمعت فيها صوتا يقول آمنا بربّ العالمين، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان؟
قال صوت سحرة موسى وأرواحهم حيث أكرمهم اللّه تعالى كرامة مضاعفة بسبب إيمانهم بموسى وإخزاء فرعون ونبذهم ما خوفهم به لقاء ما أعده اللّه لهم من النعيم المقيم.
الثانية والستون: قال صلّى اللّه عليه وسلم وسمعت صوتا آخر يقول لبيك لبيك، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان؟ قال صوت أرواح الحجاج، وسمعت أناسا يقولون اللّه أكبر اللّه أكبر، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان؟ قال صوت أرواح الغزاة، وسمعت أناسا يسبحون اللّه تعالى، فقلت من هم؟ قال أرواح الأنبياء، ورأيت قصور الصالحين في أمور دينهم ودنياهم، أما الصالحون لعمارة الأرض فقط فصلاحهم لا يغنيهم عند اللّه شيئا ولا يدفع عنهم عذابه.
الثالثة والستون: قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم عرضت علي النار، قال عرضت لأنها في تخوم الأرض السفلى، إذ لا حاجب يمنع نفوذ بصره صلّى اللّه عليه وسلم إلى ذلك لما أودع في كل جوارحه من قوة خارقة للعادة لا طلاعه على عظائم الأمور في إسرائه ومعراجه، وهذا من قبيل الاطلاع، كما ضرب اللّه الأمثال السابقة في إسرائه ما بين مكة والقدس، قال صلّى اللّه عليه وسلم وإذا مكتوب على بابها {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} الآية 43 من سورة الحجر في ج 2، وأبصرت ملكا لم يضحك في وجهي، فقلت يا جبريل من هذا؟ قال هذا مالك خازن جهنم، وكأنه عرف المغزى من سؤاله، فقال هذا لم يضحك منذ خلقه اللّه، ولو ضحك لأحد لضحك إليك، فقال جبريل يا مالك هذا محمد فسلم عليه، قال فسلّم علي وهنأني بما صرت إليه من الكرامة.
الرابعة والستون: قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم إن اللّه تعالى أطلعني على ما فيها، فإذا فيها غضب اللّه وسخطه، لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها وأريت فيها قوما يأكلون الجيف، فقلت من هؤلاء؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس أي يغتابونهم، وأريت فيها قوما تنزع ألسنتهم من أقفيتهم، فقلت من هؤلاء قال هؤلاء الذين يحلقون باللّه كذبا، وأريت جماعة من النساء علقن من شعورهن، فقلت من هن؟ قال اللاتي لا يستترن من غير محارمهن، ورأيت منهن جماعة لباسهن من القطران، فقلت من هن قال هؤلاء الذين ينحن على الأموات ويعددن صفاتهم.
واعلم أن المنوح عليهم والمعدد صفاتهم ليس عليهم شيء إلا إذا أوصوا بذلك فيكون عذابهم كعذابهم: الخامسة والستون: قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم نزلنا من السماء الدنيا بالصورة التي صعدنا عليها، فرأيت أسفل منها هرجا ودخانا وأصواتا، فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم حتى لا ينظروا إلى العلامات ولا يتفكروا في ملكوت السموات، ولولا ذلك لرأوا العجائب مما سواه العظيم وأبدعه في هذا الكون، قال ونزلت على المعراج إلى صخرة بيت المقدس التي ركبته منها يدل هذا الذي أراه اللّه إلى نبيه في الأرض والسماء وما بينهما من الجنة والنار على طريق ضرب المثل أن الجنة والنار مخلوقتان، خلافا لمن زعم عدم خلقهما ممن خالف الإجماع. السادس والستون: قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم جيء لي بالبراق فركبته وتوجهت إلى مكة في الصورة التي جئت فيها، حتى وصلت بيت أم هانئ الذي أسري بي منه، فنزلت وذهب جبريل ومن معه.
وتمت هذه الرحلة المباركة على الوجه المار ذكره فقعدت حزينا، لأني اعرف أن الناس لا يصدقونني، ثم سألتني أم هانئ عن غيبتي، فقصصت عليها ذلك كلمه، فقالت يا ابن عم أنشدك اللّه لا تحدث بهذا قريشا فتكذبك، ومسكتني من ردائي لئلا أخرج من البيت، فانتزعته منها وخرجت حتى انتهيت إلى قريش بالحطيم، فقال أبو جهل هل من خبر؟ استهزاء، قلت نعم، قال ما هو؟
قلت أسري بي الليلة إلى البيت المقدس فلم ينكر عليه مخافة أن لا يحدث بذلك وقال لي أتحدث قومك بهذا إذا آتيتك بهم؟ وذلك لأنه استعظم ما سمعه منه وعرف أن أحدا لا يصدقه بذلك، قلت نعم، قال فسكت مخافة أن أجحده، قاتله اللّه كيف وهو الصادق المصدوق، فذهب عليه اللعنة إلى مجمع الناس وصاح بأعلى صوته يا معشر كعب بن لؤي، فانقضت إليه المجالس من كل جهة، حتى اجتمعوا فجاء بهم إليّ، وقال حدثتهم بما حدثتني به، فقص عليهم إسراءه، فقال أبو جهل صف لنا الأنبياء الذين صليت بهم في بيت المقدس، فوصف صلّى اللّه عليه وسلم لهم الأنبياء واحدا واحدا، وهذه المعجزة السابعة والستون إذ جعل اللّه تعالى صورهم أمامه نصب عينه كما رآهم هناك حتى صار ينظر إليهم ويصفهم واحدا واحدا، لم يخطىء بواحد منهم، قال فضجوا إعجابا بما ذكر وإنكارا وحلفوا بلاتهم أن لا يصدقوه، وقالوا إنا نضرب آباط الإبل شهرين ذهابا وإيابا من مكة إلى البيت المقدس، فكيف تقطع هذه ت (28) المسافة بجزء من الليل، وذلك لجهلهم بقدرة اللّه وكرامة هذا النبي عنده، وارتد أناس ممن كان آمن به لقلة إيمانه، لأن ما سمعوه منه لم تقبله عقولهم القاصرة، وهذا سبب خوف أم هانئ رضي اللّه عنها وإصرارها على حضرة الرسول أن لا يحدث قريشا يقصته، ولكنه صلّى اللّه عليه وسلم لا تأخذه بالحق لومة لائم.
ثم أن قريشا أخبرت أبا بكر بذلك ليستعظمه ويعذر المرتدين فقال لهم إن كان قال هذا فلقد صدق انظروا أيها الناس هذا الإيمان العظيم إذ صدقه على أخبار أعدائه قبل ان يسمع منه قالوا أتصدقه يا أبا بكر على طريق الاستفهام الإنكاري استعظاما لما قاله لهم؟ قال أصدقه على أبعد من ذلك أصدقه على خبر السماء في غدوة كل يوم وروحة، لأنه أمين اللّه، فسمي الصديق مبالغة من كثرة صدقه وتصديقه لحضرة الرسول، وشرف بهذا اللقب الجليل من ذلك اليوم، وهي منقبة وكرامة له ومعجزة لحبيبه صلّى اللّه عليه وسلم لأن هذه التسمية من قبل اللّه تعالى وهي المعجزة الثامنة والستون.
ثم إن قريشا؟؟؟ على محمد صلّى اللّه عليه وسلم وطلبت منه دليلا آخر على إسرائه غير وصف الأنبياء، فقالوا صف لنا بيت المقدس، أرادوا بذلك أن يأثروا عليه كذبا إذا أخطأ في وصفه لأنهم يعلمون أنه لم يره قط، وفيهم من يعرفه لزيارته له، فشرع صلّى اللّه عليه وسلم يقصه لهم أولا بأول وهم يقولون صدقت صدقت حتى توقف في بقية أوصافه، فلحقته كربة لم ير مثلها في حياته، فأغاثه ربه وجلّى له بيت المقدس وذلك بأن كشف له الحجاب فيما بينه وبينه حتى رآه وهو في مكانه، أو أن اللّه تعالى أعدمه هناك وأوجده أمامه في تلك اللحظة يؤيد هذا ما روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي واحمد عن جابر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلى اللّه لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا انظر إليه وقال صلّى اللّه عليه وسلم ثم أعاده لمكانه كما أوضحناه في أمر عرش بلقيس في الآية 39 من سورة النمل المارة فراجعها وراجع الآية 85 من سورة ق المارة، بحيث لا يحس به أحد غيره ولا شيء على اللّه بمحال فسرّ صلّى اللّه عليه وسلم سرورا لم يره في حياته بسبب نظر اللّه إليه عند ضيقه هذا وصار ينظر إليه ويصفه لهم حتى جاء على جميعه، فقالوا أصبت ولكن يحتمل أنك حفظت أوصافه من الناس.
التاسعة والستون ثم قالوا له ائتنا بآية ثالثة على ذلك محسوسة غير قابلة للتأويل، فقال لهم اني مررت حين ذهابي بعير لبني فلان بوادي كذا في الروحاء محل قريب من المدينة ورأيتهم قد ضلوا بعيرا لهم فانتهيت إلى رحالهم وإذا قدح فيه ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك هذا وان شرب الماء بغير اذن مباح عندهم ولم يزل كذلك ولذلك شرب دون استيذان.

.مطلب إنكار قريش وامتحانهم للرسول وحبس الشمس:

فقالوا إن لنا عيرا آتية من بيت المقدس فاخبرنا عنها نصدقك فقال إني مررت بعيركم في التنعيم محل قريب من مكة فقالوا صفه لنا فوصفه لهم وبين عدد جمالهم وقال إنها تطلع عليكم مع طلوع الشمس أي في اليوم التالي يتقدمها جمل أورق هو الأبيض المائل للسواد عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء أي فيها بياض وسواد.