فصل: مطلب في برّ الوالدين والحكم الشرعي بذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم ان القرن أقله ثلاث وثلاثون سنة وأربعة أشهر وأكثره مائة وعشرون سنة، فكل ثلاثة قرون عصر أي قرن باعتبار القرن عصرا والعصر مائة سنة فقط.
روي عن محمد بن القاسم عن عبد اللّه بن بشر المازني أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال سيعيش هذا الغلام قرنا قال محمود بن القاسم مازلنا نعدّله حتى تمت له مائة سنة أيضا {وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ} وإن بالغوا في إخفائها وكتمها وأرخوا الستور حال فعلها {خَبِيرًا} بها {بَصِيرًا} 17 لأنه عالم بجميع ما يقع في ملكه من المعلومات راء المرئيات كافة، فكل ما يفعله العباد حال في علمه قبل أن يفعلوه وبعده، فعلمه بالقبلية والبعدية سواء، لا يتغير علمه في حال من الأحوال جل علمه، وهو القائل: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ} منكم أيها الناس وسميت الدنيا العاجلة لقلة زمنها فهي كالعربون الذي يأخذه البائع من المشترى {عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ} تعجيله له من نعيمها لا ما يشاء هو وذلك {لِمَنْ نُرِيدُ} نحن من طلابها لا لكل من أرادها كل فليس متمني يعطى ما يتمناه بل قد يعطي بعضهم كله وبعضهم بعضه، وقد يحرم البعض البتة فيخسرون الدنيا والآخرة ويجتمع عليهم فقدها، أجارنا اللّه من ذلك {ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ} لطالب الدنيا الحاضرة رغبة فيها والآخرة التي لم يردها مكان ما عجلنا له في الدنيا {جَهَنَّمَ يَصْلاها} يحرق فيها ويقامي حرها حال كونه {مَذْمُومًا} مهانا محقرا على اختياره لها ملوما عليه ممقوتا بسببه {مَدْحُورًا} 18 مطرودا مبعدا من الرحمة خائبا مما كان يأمل من فضل اللّه ورحمته ورأفته.
هذا، وما قيل أن هذه الآية نزلت في المنافق الذي يغزو مع المسلمين لأجل الغنيمة لا الثواب غير وجيه، لأن السورة مكية إلا بعض آيات ليست هذه منها، ولا يوجد في مكة منافقون ولا غزو ولا غزاة إذ ذاك، وقد جاءت بلفظ عام، والمخاطبون بها هم مشركو مكة، وظاهرها يحصر معناها في الكفرة، لأنها تدل على الخلود في النار، وان صرفها إلى الفسقة أو المهاجرين لطلب الدنيا والمجاهدين للغنيمة، وهم مؤمنون لا يستقيم على أحوالنا معشر أهل السنة والجماعة لأنا لا نقول إن صاحب الكبيرة يخلد بالنار وإن عقيدتنا تأباه قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} الآيتين 47 و115 من النساء في ج 3، ولهذا فإن ما دون الشرك من المعاصي منوط بالمشيئة ولا تحديد على اللّه أما على أقوال المعتزلة ومن نحا نحوهم فنعم، لذلك أدرج الزمخشري الشيخ محمود جار اللّه في كشافه قبل رجوعه عن الاعتزال الفاسق في هذه الآية {وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ} وعمل لأجلها في دنياه توصلا لنعيمها {وَسَعى لَها سَعْيَها} اللائق بها المستحق لها بأن قام بما أمر اللّه وانتهى عما نهاه عنه وَالحال أنه {هُوَ مُؤْمِنٌ} إيمانا صحيحا بنية خالصة، أما إذا كان كافرا أو عمله للرياء والسمعة والنفاق فلا ينتفع بإرادته إياها ولا بسعيه لها، لأن اللّه تعالى ذم المرائين بقوله جل قوله الذين يراؤن الآية 6 من الماعون المارة وكذلك من يتعبد في الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها، فهؤلاء يكافئهم اللّه على أعمالهم الحسنة بالدنيا بإطالة أعمارهم وتوسيع رزقهم ومعافاتهم من الأمراض والأكدار حتى يلقوا اللّه تعالى وليس لهم حسنة يكافئون عليها بالآخرة، كما أن المؤمن قد يجازيه اللّه على أعماله السيئة بالمرض وضيق العيش ونقد الأولاد حق يلقى اللّه تعالى وليس عليه سيئة يعاقب عليها، قال بعض السلف الصالح من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله، إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب {فَأُولئِكَ} مريدوا الآخرة الساعون لها بالأعمال الصالحة حالة كونهم مؤمنين باللّه ورسله وكتبه آتين بما أمروا به منتهين عما نهو عنه {كانَ سَعْيُهُمْ} في دار الدنيا {مَشْكُورًا} 19 في الآخرة مقبولا عند اللّه يثيبهم عليها بمنه وكرمه وفضله وأصل السعي المشي السريع دون العدو وفوق الهرولة، ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا وأكثره يستعمل في الأفعال المحمودة قال الشاعر:
أن أجز علقمه بن سعد سبعة ** لا أجزه ببلاء يوم واحد

وهذه الآية جاءت بمقابلة الآية قبلها، فإن تلك في الكافر وهذه في المؤمن بدلالة قوله: {كُلًّا} أي كل واحد من الفريقين فالتنوين للعوض {نُمِدُّ} نزيد مرة بعد أخرى وهذا معنى المد والمدد {هؤُلاءِ} الذين يريدون الدنيا من زخارفها {وَهَؤُلاءِ} الذين يريدون الآخرة من نعيمها {مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ} الواسع الذي لا يتناهى وهذا العطاء ليس على طريق الوجوب بل بمحض الفضل {وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ} دنيويا كان أو أخرويا {مَحْظُورًا} 20 ممنوعا عمن يريده، بل هو فائض على من قدر له بمقتضى المشيئة المبنية على الحكمة، فيرزق المؤمن والكافر في هذه الدنيا ثم يعذب الكافر في الآخرة ويثيب المؤمن فيها بحسب أعمالهما، قال تعالى: مخاطبا حبيبه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} في هذه الدنيا بالرزق والجاه والعمل والشرف بحسب مراتب العطاء وتفاوت أهله {وَلَلْآخِرَةُ} الآتية {أَكْبَرُ دَرَجاتٍ} 21 في الفضل من درجات الدنيا وأعظم تفاوتا فيها {وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} 21 من الدنيا، والفرق بين تفضيل الدنيا وتفضيل الآخرة كالفرق بين دركات جهنم ودرجات الجنة، وكالفرق بين الدنيا والآخرة، فعلى الراغب في التعالي بالدنيا أن تشتد رغبته في تعالي الآخرة أيضا، لأنها ذات مقام أبدي والدنيا مزرعة الآخرة فلها يعمل العاملون، وفيها فليتنافس المتنافسون، وقيل في المعنى:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ** ندمت على التفريط في زمن الزرع

هذا وقد جاء في بعض الآثار أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى اللّه الجميع فما يغبط أحد أحدا.
وقال الضحاك: الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه، والأسفل لا يرى أن فوقه أحدا، لهذا لا يحسد أحد الآخر على ما هو فيه من ذلك العطاء الواسع.
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب عن الحسن قال: حضر جماعة من الناس باب عمر رضي اللّه عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي وأبو سفيان بن حرب وأولئك المشايخ من قريش، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم، فقال أبو سفيان ما رأيت كاليوم قط أي اهانة وحقارة، إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل وكان أعقلهم أيها القوم إني واللّه قد أرى الذي في وجوهكم فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم ودعيتم يعني للإسلام ورفض الكفر فأسرعوا الإجابة وأبطأتم، أما واللّه لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم فوتا من باب عمر الذي تنافسون عليه.
قال في الكشاف هذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة؟ ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعدّه اللّه لهم في الجنة اكبر وأعظم لقد أنفق واللّه سهيل وأخفق أبو سفيان وأنا أقول لقد صدق جار اللّه فيما قال واسأل اللّه ان يحقق قوله فيه المبين في الآية الأولى من هذه السورة قال تعالى: مخاطبا لرسوله ايضا بما يريده من قومه {ولا تجعل} أيها الإنسان بكل حال من الأحوال {مع اللّه} الذي لا إله غيره {إلها آخر} مما تسول لك نفسك الخبيثة إلهيته ومما يوسوس لك الشيطان عدوك ربوبيته وهو ليس بشيء يستحق ان تسميه ربا وإلها لأن الإله هو القادر على كل شيء والرب هو الخالق لكل شيء ومربيه ومن دونه من الأوثان عاجزة عن كل شيء، والعاجز لا يصلح ان يكون إلها ولا يجدر أن يتخذ ربا، فإذا فعلت هذا وأطعت هواك فيه {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا} محقرا موبخا مخزيا {مَخْذُولًا} غديم النضير والمعين من كل أحد ومن كل شيء فتجمع على نفسك الخذلان من اللّه تعالى والذم من ذوي العقول، إذ اتخذت محتاجا مثلك لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ومن لا يقدر على جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها كيف يرجى منه أن ينفع غيره ويدفع عنه، فجزاؤك أيها الجاعل إلها مع إله السموات والأرض لا يصلح قط للألوهية وإشراكه مع من له الكمال الذاتي الخالق الرازق المنعم.
الذمّ في الدنيا والآخرة على عملك هذا الذموم والخذلان التام، إذ لا تجد من يتصرك من العذاب الذي يحل بك، ولا من يعينك على دفعه، ولا من يؤازرك على رفعه الا من هو كافر مثلك، قد زيّن له سوء عمله وهو عاجز عن اجتناب ماحل به مثلك، فتلاوم أنت وإياه على ما فاتكم من العمل الصالح المؤدي لخلاصكم من اللّه، قال تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ} أمر وحكم وأراد {أَلَّا تَعْبُدُوا} أيها الناس أحدا ولا شيئا {إِلَّا إِيَّاهُ} وحده وهذا الحصر يفيد وجوب العبادة له تعالى منفردا، وتحريم عبادة غيره مطلقا لأن العبادة غاية التعظيم المنعم بالنعم العظام على عابديه جلت ذاته المقدسة فلا تليق إلا لمن هو في غاية التعظيم ولما كانت عبادته هي المقصودة وما خلق الخلق إلا لأجلها قال تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الآية 56 من سورة الذاريات في ج 2 قدمها على كل شيء.

.مطلب في برّ الوالدين والحكم الشرعي بذلك:

ولما كان حق الإحسان على العبد بعد طاعة اللّه تعالى لأبويه اللذين هما السبب الظاهري بوجوده اتبع الأمر بعبادته بالإحسان إليهما فقال {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا} ما فوقه احسان إلا عبادة الملك الديان وحده، وذلك بأن تبرّوهما برّا لا مزيد عليه، وتتلطفوا بهما تلطفا لا نهاية له إلا الموت، فتخدمونهما وتقضوا حوائجهما وتعطفوا عليهما برغبة املا برضاء اللّه المترتب على رضائهما.
واعلموا أيها الناس {إِمَّا} أصلها إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا للمعنى {يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} هو منتهى الشيخوخة الذي قد تحوجهما إليك أيها الولد لما يلمّ بهما {أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما} من حالة الضعف والعجز والهرم فيلتجئان عندك آخر عمرهما كما كنت ضعيفا مبدأ عمرك ملتجئا في حضانتهما، يحنيان عليك بشفقتهما، ويحملان الأذى من تحتك، فلا ينامان حتى تنام، ولا يأكلان حتى تأكل، ولا يستريحان حتى تستريح، ويتمنيان أن يصيبهما كل ما قدر عليك من أذى، وأن تكون معافى لا تصيبك شوكة عن طيب نفس ورغبه منهما، فإذا صارا إليك واحتاجا لعنايتك فيجب أن تقوم لهما بهذه الأمور الخمسة إذا أردت رضاء اللّه ونظره إليك، أولها {فَلا تَقُلْ لَهُما} إذا كلفاك بشيء مهما كان {أُفٍّ} وهذه الكلمة كناية عن عدم التضجر مما يقولانه لك لأنها كلمة تضجر وكراهية، وأصلها إذا سقط عليك تراب ونفخته عنك تقول أف، ثم توسعوا بها إلى كل مكروه، أي ولا تتضجّر منهما أو من فعلهما أو قولهما أو مما يطلبانه منك ولو بمثل هذه الكلمة، بل عليك أن تتلقى أمرهما برحابة صدر وطلاقة وجه ولين جانب وخفض كلام وتحسين قول لأن النهي عن هذه الكلمة يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قولا وفعلا وإشارة ورمزا قياسا جليسا، إذ يفهم ذلك بطريق الأولى، ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب، وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقا في عرف اللغة كقولك فلان لا يملك النقير أو الفتيل أو القطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئا قليلا ولا كثيرا.
واعلم أنه لو يوجد فيما يخاطب به البشر كلمة يعرف أهل الدنيا على اختلاف لغاتهم أنها تدل على أقل من هذا المعنى لذكرها اللّه تعالى حفظا لحق الوالدين من أن يصل إليهما ما يكدرهما الثاني {وَلا تَنْهَرْهُما} تزجرهما بغلظة وشدة وهذا معنى النهر أي لا تزجرهما مما يتعاطيانه مما لا يعجبك أو تكره ما يريدانه منك وان كان ولابد من ان تقول لهما لا تفعلا كذا مما يكون عدم فعله ضروريا فقل لهما ألا تتركان هذا ألا تعرضان عنه، لأنه كما إنك ممنوع من التضجر بالقتيل والكثير ممنوع أيضا من إظهار المخالفة لهما في القول والفعل والرد عليهما والتكذيب لهما والكذب عليهما، ولهذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثا، وحاشا كلام اللّه منه الثالث {وَقُلْ لَهُما} عند المخاطبة أو التكليف بشيء ما أو التعدي عليك لغرض ما {قَوْلًا كَرِيمًا} 23 جميلا لاشراسة فيه ولا اكفهرار، بأن تقول يا أبتاه يا أماه مراعيا معهما حسن الأدب، لان مناداتهما باسمهما من الجفاء، وأن يصدر جوابك لهما عن لطف ومنة وعطف، وان تقف أمامهما وقفة المأمور بين يدي الآمر، ولا تقل هاء بل لبيكما وسعديكما، قال أبو الهداج لسعيد بن المسيب كل ما ذكره اللّه تعالى في القرآن من برّ الوالدين فقد عرفته إلا قوله تعالى: {قَوْلًا كَرِيمًا} فما هذا القول الكريم؟ فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ أي يكون بغاية من الرقة والأدب ونهاية من الخضوع والتذلل، قال الراغب كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، الرابع {وَاخْفِضْ} أمر اللّه تعالى الولد بخفض الجانب لوالديه ليتسارع بالانقياد لما يريد أنه منه دون تردد، أي تواضع واخشع وألن {لَهُما جَناحَ الذُّلِّ} بأن تجعل نفسك ذليلة أمامهما زيادة في التأدب.
واعلم ان خفض الجناح مأمور به لكل أحد قال تعالى: لحضرة الرسول: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} الآية 89 من سورة الحجر في ج 2، فكيف بالوالدين؟ وهذا اللين المطلوب منك لهما كائن {مِنَ الرَّحْمَةِ} عليهما أي لا يكون خفض جناحك لهما خوفا او رياء او مداهنة او غير ذلك، بل لكمال الرأفة بهما وخالص الشفقة عليهما كما كانا كذلك لك في صغرك حين كنت مفتقرا إليهما إذ آل افتقارهما إليك، ولا تمنعهما شيئا أحبّاه.
واعلم أن احتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه غاية الضراعة والمسكنة، فيحتاج إلى أشد رحمة وأفرط رأفة وللّه در الخفاجي إذ يقول:
يا من أتى يسأل عن فاقتي ** ما حال من يسأل من سائله

ما ذلة السلطان إلا إذا ** أصبح محتاجا إلى عامله

الخامس {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما} برحمتك الباقية والطف بهما بلطفك الأبدي، أي لا تكتف برحمتك لهما، لأنها فانية، هذا إذا كانا مسلمين، وإذا كانا كافرين فقل ربّ اهدهما ووفّقهما إلى دينك القويم، وسهل لهما أسباب الإيمان ويسر لهما طرق الإسلام لأجتمع بهما في دار كرامتك، لأن الاستغفار والرحمة للكافر منهيّ عنه، قال تعالى: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى} الآية 113 من سورة التوبة في ج 3، وقد رد اللّه عن خليله إبراهيم عليه السلام حين قيل إنه استغفر لوالديه بقوله جل قوله: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ} الآية 14 بعدها، ولذلك قال له {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} في الآية 26 من سورة مريم المارة، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} تتمة الآية المارة من التوبة وقد بين تعالى السبب فيما أمر به الولد لوالديه وهو {كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا} 24 أي أدع لهما بالرحمة والرأفة والمغفرة جزاء تربيتهما لك وبمقابل رحمتهما بك حال صغرك، ولست بمقابل لهما مهما قمت به لهما، وشتان بين رحمتك لهما ورحمتهما لك إذا قايست بينهما وأنعمت النظر في ذلك، لأن رحمتك لهما عن رعبة ورحمتهما لك عن رغبة.