فصل: مطلب في التصدق والتبذير والإسراف والرد بالأحسن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



على أن السنّة في الزواج لأهل السنة أولا طلب الولد لتكثير النسل، ثانيا كسر جماح الشهوة، ثالثا تحصين النفس عن التعدي لحدود اللّه من الزنى ودواعيه، لا للذة فقط، لأن من يقتصر في أمر الزواج على اللذة فقط فليس بكامل، وهذه الأسباب الثلاثة عبارة عن طلب الشيء للمنفعة، ولا ينكرها عاقل متبصر.
هذا وإن إنكار حق الوالدين إنكارا لأجلّ الأمور {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} الآية 40 من سورة النور في ج 3، قال تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ} من بر الوالدين والاهتمام بما يجب لهما من التوقير والاحترام وغيره، ومن العقوق والتقصير وسوء الأدب وغيره في حقهما {إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ} حقيقة مريدين البر بهما وإصلاح شأنهما أو تكونوا طالحين قاصدين العقوق بهما ومخالفتهما وإهمالهما، أما إذا فرط منكم حال حالة الغضب أو الغفلة مما لا يخلو البشر منه وقد أدى إلى أذاهما معنى ومادة، ثم رجعتم إلى اللّه فتبتم واستغفرتم اللّه مما وقع منكم واسترضيتم والديكم بشتى الوسائل {فَإِنَّهُ} الإله الحليم التواب {كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} 25 فيدخلكم في واسع رحمته ويعفو عنكم، لأنه يحب عبده المنيب الأواب.
واعلم رعاك اللّه أن في هذه الآية العظيمة وعدا بالخير من اللّه لمن أضمر البر والإحسان لوالديه، ووعيدا لمن أضمر لهما الكراهية والاستثقال، وما قاله ابن جبير إن معنى هذه الآية هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ بها قول مقيد لهذه الآية المطلقة وإن بقاءها على إطلاقها أولى لتشمل كل تائب مما وقع منه في حق والديه قليلا كان أو كثيرا، بادرة أو مقصودة، على أن الجاني على أحد أبويه التائب من جنايته توبة خالصة يدخل فيها، لأن معنى الأواب على ما قاله سعيد بن المسيب الذي يذنب ثم يتوب، وعنه أنه الرجاع إلى الخير.
وقال ابن عباس الأواب الرّجاع إلى اللّه فيما يحزنه وينوبه، فلم يقيده في البادرة.
وقيل إنه من صلّى بعد المغرب والعشاء يعدّ من الأوابين، وهذه الصلاة تسمى صلاة الأوابين، فقد روى ابن ماجه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال من صلّى بين المغرب والعشاء عشرين ركعة بنى اللّه له بيتا في الجنة.
وروى ابن نضر أن من صلّى ست ركعات بعد المغرب قيل أن يتكلم غفر له ذنوب خمسين سنة أي من الصغائر.
كما جاء في شرح هذا الحديث في كتاب مصباح الظلام للشيخ محمد بن عبد اللّه الجرداني، وورد فيه أيضا من صلّى ركعتين بعد المغرب وقرأ فيهما بالمعوّذتين لم يرمد وقد جربته فوجدته، وجاء في الصلاة بعد المغرب أحاديث كثيرة رتب عليها أجر كبير لفاعلها أعرضنا عنها اكتفاء بما ذكرنا خشية التطويل، وقد ألمعنا إلى ما يتعلق به في الآية 30 من سورة ص المارة فراجعها تجد ما يقرّ العين من ذوي العقيدة والإيمان.

.مطلب في التصدق والتبذير والإسراف والرد بالأحسن:

قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ} من نفقة وزيادة عطف، قدّم اللّه تعالى حق الوالدين لأنهما الأصل، ثم عقبهما بالفروع المحارم، لأن الإنفاق عليهم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب صلة وصدقة وتسمية هذا الإتيان من قبل اللّه حقا يشعر بإلزام القريب الموسر الإنفاق على قربيه المعسر العاجز على طريق الوجوب، وهذا الحكم الشرعي في ذلك، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 29 من سورة الروم في ج 2 نظير هذه الآية، وهذه الآية بالنسبة لما قبلها فيها من أنواع البديع ومحسنات الكلام التعميم بعد التخصيص، لأن الوالدين يدخلان في القربى لغة ولم يتناولهما عرفا، ولذا قالوا في باب الوصية المبنية على العرف لو أوصى لذوي قرابته لا يدخل أبواه، وجاء في المعراج من قال لأبيه قربي فقد عقّه.
واعلم أن هذا الحق لا ينحصر في النفقة بل يشمل حسن المعاشرة والرحمة والتوقير، لأن اللفظ عام والآية معطوفة على ما قبلها الشاملة لسائر الحقوق المانعة بجميع أنواع العقوق، وما قيل إن هذه الآية خاصة بحضرة الرسول وأن اللّه أمره بها ليؤتى أقاربه، أو أنها لما نزلت دعا فاطمة رضي اللّه عنها فأعطاها فدكا مناف لعموم الآية، لأن فدكا في المدينة وهذه الآية مكية، فضلا عن أنه لا قرينة فيها على التخصيص البتة، ومما يؤيد عدم الإختصاص هو أن فدكا لم تكن إذ ذاك تحت تصرف المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم وكانت طلبتها إرثا بعد وفاته.
أما ما قاله الحسن بأن هذه الآية مدنية فيصحّ على قوله ما قيل في سبب نزولها، وحينئذ يراد بالحق هنا الزكاة المفروضة، إلا أن سياق الآية يدل على أنها مكيّة كورتها على قول الجمهور واللّه أعلم، {وَالْمِسْكِينَ} الذي لا مال له ولا كسب وهو عاجز، أما الفقير فالذي لا يكفيه كسبه، وقيل بالعكس راجع الآية 78 من سورة الكهف في ج 2، {وَابْنَ السَّبِيلِ} المسافر الذي انقطع عن أهله ولو كان غنيا في بلده، أي أعط أيها الغني مما أعطاك اللّه هذين الصنفين أيضا بعد أبويك وقرابتك مما زاد على حاجتك من مالك بقدر ما يسد حاجتهما {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} 26 بمالك وتسرف فيه، بأن تعطيه من لا يستحقه أو تصرفه في غير مصارفه الشرعية أو تتجاوز الحد اللازم في الإعطاء والصرف ولو على خاصّتك ونفسك، فإن ذلك من التبذير المنهي عنه {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ} أموالهم المفرقين لها في غير حلها ومحلها {كانُوا} في تبذيرهم هذا {إِخْوانَ الشَّياطِينِ} أعوانهم ورفقاءهم في كفران النعمة مماثلين لهم في صفات السوء من إعطاء المال لمن لا يستحقه، أو صرفه في غير حله، أو إعطائه بقصد الصيت والسمعة والرياء {وَكانَ الشَّيْطانُ} ولم يزل، لأن كان تأتي للدّوام والاستمرار إلى أجل معلوم كما هنا وإلى ما لا نهاية له كقوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} الآية 156 من سورة النساء في ج 3 وأمثالها كثير، وتأتي للزمن الحاضر فقط مثل كان زيد غنيا، {لِرَبِّهِ كَفُورًا} 27 هو وإخوانه من الإنس يبالغون في كفران النعمة لأنهم يصرفون ما أنعم اللّه به عليهم من القوى والأموال إلى غير ما خلقت لها وللمعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس عن طريق الهدى، وحملهم على الكفر باللّه تعالى وجحود نعمه الفائضة عليهم وتبذيرها في غير محلها، وهذا التخصيص بمقابل الشكر الذي هو صرف النعم إلى ما خلقت إليه، وما قيل إن هذا الكفر المذكور بهذه الآية جاء على ما يقابل الإيمان ليس بشيء لمخالفته المقام وسياق الآيات.
وإنما اللّه سمى الإنفاق لهذين الصنفين حقا لأن أهل مكة قبل الإسلام كانوا افترضوا على أنفسهم إنفاق شيء من أموالهم لنشر الصيت، وكان التصدق مفروضا على الأمم السابقة وكان أهل مكة ينفقون هذا القسم للسمعة والملاهي والطرق التي لا خير فيها، فأمر اللّه رسوله في هذه الآية بإنفاق هذا الحق لأهله الذين ذكرهم، وهذا قبل نزول آية الزكاة المفروضة، أما بعد نزولها فيكون منها وعلى القدر الذي سنه حضرة الرسول كما سيأتي في الآية 221 من سورة البقرة والآية 59 من سورة التوبة في ج 3 وغيرها من السور المدنية.
واعلم أن التبذير هو كل إنفاق بغير محله كما علمت مما مرّ عليك، وأصله في اللغة التفريق مأخوذ من إلقاء البذر في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه، وشرعا إنفاق المال في غير حقّه مما هو تجاوز في موقع الحق وجهل بكيفيته، أما الإسراف فهو التجاوز في الكمية وجهل بمقدار الحق، وكلاهما مذموم، قال مجاهد لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا.
وقد أنفق بعض المحققيين نفقة في خير فاكثر، فقال له صاحبه لا خير في السّرف، فأجابه كثر اللّه أحبابه: لا سرف في الخير، وهذا صحيح إذا كان في أهله وعن غنّى ويحسن نية.
قال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ} أيها الغني القريب {عَنْهُمُ} عن أقاربك الفقراء المحتاجين العاجزين والمساكين المعدمين والفقراء وأبناء السبيل المقطوعين لضيق ذات يدك أو لأمر أخطرك فأوجب إغضاءك عنهم حياء وكان ذلك منك {ابْتِغاءَ} طلب ورجاء {رَحْمَةٍ} رزق {مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها} تتوقعها وتترقب حصولها ومجيئها لتعطيهم منها {فَقُلْ لَهُمْ} عند ما تريد انصرافهم أو ردهم {قَوْلًا} جميلا لا تأنيب فيه عليهم ولا كسر لخواطرهم {مَيْسُورًا} 28 لينا وعدهم وعدا تطيب به خواطرهم كأن تقول لهم إن لنا مالا سيحضر أو دينا سنقبضه قريبا ونخصكم به، وادع لهم بما فيه اليسر لك ولهم، وتقدم معنى أمّا بالآية 23 المارة، وأنث الضمير في ترجوها باعتبار اللفظ لأنه سمّى الرزق رحمة وهو يعود إليها ووضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سببا للابتغاء مسبّب عنه فوقع السبب الذي هو الابتغاء موضع المسبب الذي هو الفقد.
هذا وما قيل إن هذه الآية نزلت بمهجع وبلال وصهيب وسالم وخبّاب الذين كانوا يسألون حضرة الرسول أحيانا ما يحتاجونه وأنه لا يجد ما يعطيهم فيعرض عنهم حياء ويمسك عن القول، أو أنها نزلت في أناس من مزينة جاءوا يستحملون حضرة الرسول فقال لهم {لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} الآية 94 من التوبة في ج 3، إذ ظنوا أن ذلك من غضب رسول اللّه، لا وجه لهما ولا حقيقة، لأن هذه السورة مكية وتلك الحادثتين وقعتا في المدينة، وإنما هذه الآية عامّة في كل أحد ولا يخصصها ما قيل إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت، لأن هذه الحالة شأن كل عاقل منصف، فكيف لا تكون بأكمل الناس عقلا وإنصافا، فهي شاملة لحضرة الرسول وأمته الخيرية على الإطلاق كالآيات التي قبلها.
جاء عن الإمام مالك رحمه اللّه أنه كان لا يري أن يقال للسائل إذا لم يعطه شيئا رزقك اللّه تعالى أو نحوه، لأن ذلك مما يثقل على السائل ويكره سماعه، ولا ينبغي أن يذكر اسم اللّه تعالى لمن لا يهش له، وهذا القول ردّ لقول من فسر القول الميسور بأن يقال للسائل رزقك اللّه وأعطاك اللّه، وهو قول مفترى بعيد لصون اسم اللّه تعالى ممن لا يبتهج بسماعه، ولذلك فسّرنا القول الميسور بالدعاء للفقير باليسر فقط والكلام اللين، وعليه فالأولى أن يقال للسائل ممن لا يريد أن يعطيه ائت بوقت آخر تحاشيا لذكر اسم اللّه عند من لا يحب سماعه في هذا الباب، فإذا جاء ولم يكن عنده شيء فليقل لم يتيسر لي ما أعطيكم.
هذا وقد استدل بعض المفسرين أن في قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ} دليل على النهي عن الإعراض فيكون المعنى إن أردت الإعراض عنهم ولم ترغب أن تعطيهم {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} بأن تعدهم بالعطاء والانتظار لوقت آخر يتيسر لك الإعطاء فيه ولا تقطع أمله فيك وتلطف به بكلام ليّن ووجه منطلق وخفض جانب، وقدمنا في سورة الضحى ما يتعلق بهذا البحث فراجعه، قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ} أيها الغني الموسع عليك {مَغْلُولَةً} هذا تمثيل لمنع البخل والشح كما قاله بعض المفسرين، لأن البخل يكون في مال الرجل البخيل، والشحّ يكون في مال غيره فهو أقبح من البخل، وهو مبالغة في ذم عدم الإعطاء، وقوله تعالى: {إِلى عُنُقِكَ} أي لا تمسك يدك عن الإعطاء فتجعلها كالمربوطه في عنقك {وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ} تمثيل للإسراف في العطية أي لا تعطه جميع ما عندك {فَتَقْعُدَ} إن فعلت ذلك {مَلُومًا} على الإسراف من نفسك لندمك على فقد ذات يدك بسبب طيشك، وعند الناس تلام أيضا على تضييع كل ما في يدك من المال، لأنهم لا يحمدونك على فعلك هذا، ولا يحبذونه لك، وهو عند اللّه مذموم أيضا، لأنه لا يحبّ المسرفين، راجع الآية 20 من الأعراف المارة ولا يرضى لعباده ما لا يحبه {مَحْسُورًا} 29 متحسرا على ما فرط منك مغموما على لوم نفسك ولوم الناس لك وبقائك صفر اليدين مخالفا لأمر اللّه تعالى الموجب الأمر بالاقتصاد في النفقة، راجع الآية 66 من سورة الفرقان المارة، لأن هذين النّهيين يوجبان على الرجل أن يسلك سبيلا وسطا بين الإفراط والتفريط، وهذا هو الجود الممدوح والاقتصاد المطلوب وخير الأمور أوساطها، قال ابن الوردي:
بين تبذير وقتر رتبة ** وكلا هذين إن زاد قتل

وأخرج أحمد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «ما عال من اقتصد» وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة» وتقول العامة: من دبّر ما جاع، ومن رقع ما عري، وصبرك على نفسك خير من صبر الناس عليك.
وروى أنس مرفوعا التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل، والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين.
وقيل حسن التدبير مع العفاف خير من الغنى مع الإسراف، وقيل أن قوله تعالى: {ملوما} راجع إلى قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ} الآية المارة، وقيل البخيل ملوم حيثما كان، وقوله تعالى: {محسورا} راجع إلى قوله تعالى: {وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ} الآية، وهذا وجيه كي يكون قوله تعالى: {فتقعد} بيانا لقبح الأمرين، لأنه منصوب بجواب النهيين، تدبر.
وهذه الآية عامة مطلقه يدخل في عمومها حضرة الرسول وغيره من الأمة كافة، وما ورد عن جابر قال بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم جالس إذ أتاه صبي فقال إن أمي تستكسيك درعا، فقال من ساعة إلى ساعة يظهر كذا فعد إلينا، فذهب إلى أمّه فقالت قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل صلّى اللّه عليه وسلم داره ونزع الدرع قميصه وأعطاه وقعد عريانا، وأذن بلال، وانتظروا فلم يخرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة، فنزلت هذه الآية لا يصح جعله سببا لنزول هذه الآية، لأنها مكية بالاتفاق والحادثة مدنية بدليل تأذين بلال رضي اللّه عنه، لأن مكة لا أذان فيها ولا جماعة إذ ذاك، وقد تتبع هذا الخبر وليّ الدين العراقي فلم يجده في شيء من كتب الحديث بلفظه هذا، وعلى فرض صحته لا يصح أن يكون سببا للنزول لما علمت، وقد أخرج بن مردويه عن ابن مسعود قال جاء غلام إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال إن أمي تسألك كذا وكذا، فقال ما عندنا اليوم شيء، قال فتقول لك اكسني قميصك، فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت حاسرا فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم عن النهال بن عمرو نحوه، وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بزّ من العراق وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس، فبلغ ذلك قوما من العرب فقالوا نأتي النبي فنسأله، فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل اللّه هذه الآية.
وهذا أيضا لا يصح لأنه حينما كان بمكة لا يأتيه شيء من العراق ولا من غيره، ولم يؤمر بالقتال والغزو وأخذ الغنائم وغيرها إلا بالمدينة، وكذلك لا يصح سببا للنزول ما قيل إنه عليه السلام أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيبنة بن حصن الفزاري مثله، فجاء عباس ابن مرداس وقال:
أتجعل نهبي ونهب البعيد ** بين عيينة والأقرع

وما كان حصن ولا حابس ** يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما ** ومن يخفض اليوم لا يرفع

فقال صلّى اللّه عليه وسلم: «يا أبا بكر اقطع لسانه، أعطه مائة من الإبل».
وكانوا جميعهم من المؤلفة قلوبهم لأن النهب والفيء لم يكن في مكة، لهذا فإن ما اعتمد عليه بعض المفسرين من هذه الأخبار في كونها سببا للنزول غير صحيح، وان الآية مطلقة كما ذكرنا عامة شاملة.