فصل: مطلب نص بعض معاهدات حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن الإخلال بالعهد من الكبائر، فقد روي عن علي كرم اللّه وجهه أنه عدّ من الكبائر نكث الصفقة أي الغدر بالمعاهدة، وصرح شيخ الإسلام العلائي بأنه جاء في الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه سماه كبيرة، وقال بعض المحققين إن العهد هنا هو التكليفات الشرعية، والوفاء به حفظ ما يقتضيه القيام بموجبه.
ويقال وفي بالتخفيف والتشديد وأو في بالمزيد وكلها بمعنى واحد، إلا أن التشديد في الثاني يدل على التكثير والمبالغة والمزيد أي الأخير فيه زيادة حرف وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى.
واعلم أن العهود باعتبار المعهود والمعاهد بكسر الهاء وفتحها ثلاثة أنواع: الأول بين اللّه وعباده، والثاني بين العبد ونفسه، والثالث بين الناس بعضهم لبعض.
وكل واحد باعتبار الموجب له جهتان جهة أوجبها العقل وهو ما ذكر اللّه تعالى معرفته في الإنسان فيتوصل إليه إما يبدهية العقل أو بأدنى نظر واستدلال عليه، يؤيده قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية 172 من الأعراف المارة، وجهة أوجبها الشرع وهو ما دلّنا عليه كتاب اللّه تعالى أو سنة نبيه، فذلك ستة أضرب، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه، والثاني أربعة أقسام:
فالأول واجب الوفاء به كالنذور المتعلقة بالقرب، مثل أن يقول علي أن أصوم كذا وكذا إن عافاني اللّه من مرضي هذا أو أتصدق بكذا، الثاني يستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك مباح فإن له أن يكفّر عن يمينه ويفعل المحلوف عليه متى أراد، الثالث يستحب ترك الوفاء به وهو ما جاء في قوله صلّى اللّه عليه وسلم إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه، فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه ولا يفعل المحلوف عليه، الرابع واجب ترك الوفاء به مثل أن يقول على أن أقتل فلانا أو أغتصب ماله ونحوه، فعليه أن يعرض عن حلفه ويكفّر عن يمينه فيحصل من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا.
وأعلم أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن اللّه تعالى على الوفاء بما عاهد وعاقد عليه لا أنه لا قدرة له أصلا، ينقض ما عاهد وما عاقد ويقول هكذا مراد اللّه أو ما أراد اللّه أن أوفي بذلك كما تقول الجبرية، ولا أن يقول أن لي قدرة مقارنة غير مؤثرة كما هو المشهور عند الأشعرية، ولا يقول إن لي قدرة مؤثرة وإن لم يأذن اللّه تعالى كما يقوله المعتزلة، وإن لي اختيارا أعطيته بعد طلب استعداده الثابت في علم اللّه تعالى له، فللعبد في هذا المذهب اختيار والعبد مجبور فيه، بمعنى أنه لابد من أن يكون له فعل فيه، لأن استعداده الأزلي غير المجعول قد طلبه من الجواد الكريم المطلق الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، والإثابة والتعذيب إنما يترتبان على الخير والشر الثابت في نفس الأمر والخير والشر يدلان على ذلك مثل دلالة الأثر على المؤثر والغاية على ذي الغاية، قال تعالى: {ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الآية 34 من سورة النحل في ج 2 ومن وجد خيرا فليحمد اللّه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
هذا، وقد قال ابن المنير إن أهل السنة والجماعة عن الإجبار بمعزل لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختيارا وأفعالا وهم مع ذلك يوحدون اللّه تعالى حق توحيده فيجعلون قدرته سبحانه هي الموجدة والمؤثرة، وقدرة العبد مقارنة فحسب، وبذلك يميز بين الاختياري والقسري، وتقوم حجة اللّه على عباده، ولهذا يعاقب العبد على فعله ويؤجر لأنه إذا فعل الشرّ كالشرب والزنى مثلا فإنه فعلهما عن اختيار ورغبة لا عن إكراه.
وكراهية، ولأنه حينما فعلهما كان عالما بأنه يعذب عليهما لأن ذلك لا يعرف إلا بعد وقوع الشيء وإلا لما استحق العذاب ولا السؤال، فلا حجة للعبد بقوله مقدر علي وإنه لو شاء اللّه لمنعني من فعله، اقتداء بمن سبقه من الكفرة الذين يتقولون بذلك راجع الآية 140 من سورة الأنعام والآية 35 من سورة النحل في ج 2 اهـ.
من روح المعاني للآلوسي، وليعلم أن الأمة الإسلامية خير من يراعي العهود ويحافظ عليها ويفي بالوعود ويقوم بها، وكان حضرة الرسول الأعظم هو القدوة الحسنة والمثل الأعلى لأمته في ذلك، ولهذا رأيت أن أذكر نوعا من معاهدات الصلح التي عقدها عليه الصلاة والسلام على أثر انتهاء حروبه مع أهل الكتاب وغيرهم حبا في بقاء النوع الإنساني وصيانة لحياته دون احتياج إلى استخدام السلاح وإرهاق الأرواح وجنوحا للسلم وحقنا للدم، راجع الآيتين 10- 11 من سورة الحجرات والآية 138 من سورة النساء والآية 62 من سورة الأنفال في ج 3.
وهذا نص كتاب الصلح في معاهدة تبوك:

.مطلب نص بعض معاهدات حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا منّة من اللّه ومحمد النبي رسول اللّه ليوحنا بن رؤبة وأهل ايلية سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة اللّه تعالى ومحمد النبي ومن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وانه لطيّبة لمن أخذه من الناس وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر.
وهذا نص الكتاب الثاني:
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا كتاب محمد لأهل أزرح وجرباء أنهم آمنون بأمان اللّه وأمان محمد رسول اللّه وأن عليهم مائة دينار في كل رجب واقية طيبة واللّه كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين.
وهناك معاهدات أخرى سنأتي بها عند ذكر ما يناسبها من الآيات المارة الذكر في القسم المدني إن شاء اللّه وخاصة عند قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الآية الأولى من سورة المائدة، وعند قوله تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ} الآية 19 وما بعدها من سورة الرعد والآية 2 من سورة الصف في ج 3 والآية 91 من سورة النحل في ج 2 وغيرها مما جاء فيها وجوب المحافظة على العهود والتهديد والوعيد على نقضها، وقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان».
فالوفاء بالعهد من شيم النفوس الشريفة والأخلاق الكريمة والخلال الحميدة والخصال المجيدة، ومن الأمثال:
الوعد وجه والإنجاز محاسنه والوعد سحابة والوفاء مطرها.
وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل، وقد ذم اللّه القض في الآيات 90 فما بعدها من سورة النحل المنوه بها آنفا، وليعلم أن النقض من الغدر والبغي وقال صلّى اللّه عليه وسلم: «أعجل الأشياء عقوبة البغي وقال المكر والخديعة والخيانة في النار».
وقال أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه ثلاث من كن فيه كن عليه وورد: ثلاث رواجع أي ترجع على المبتدئ بهن البغي والنكث والمكر قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} الآية 24 من سورة يونس في ج 2، وقال تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} الآية 10 من سورة الفتح ج 3، وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} الآية 41 من سورة فاطر المارة، هذا وكم أوقع الغدر في المهالك من غادر وضاقت عليه من موارد الهلكات فسيحات المصادر وطوقه غدره طوق خزي فهو على فكه غير قادر، وأوقعه في مظنة خسف وورطة حتف، فماله من قوة ولا ناصر.
ويشهد لهذا قصة ثعلبة بن حاطب الأنصاري التي سيأتي ذكرها في الآية 105 فما بعدها من سورة التوبة في ج 3، فلا خزي أفظع من ترك الوفاء بالميثاق، ولا سوء أقبح من غدر يسوق إلى النفاق، ولا عار أفضح من نقض العهد والميثاق وجاء في المثل لم يغدر غادر إلا لصغر همته عن الوفاء واتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم.
وأكثر الشعراء في ذمّه فقال بعضهم:
غدرت بأمر كنت أنت جذبتنا ** إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد

وهو أصناف بحسب النتائج، فمنه الخلف بما يعد من الصغائر كالوعد بإعطاء شيء ثم النكول عنه، وبالمجيء إلى مكان ثم الخلف به، ومنه ما يكون من الكبائر كالإخلال بمعاهدات الصلح والهدنة الموقتة والمبايعة للإمام، ومن الكبائر الخروج على الإمام بعد المبايعة له أيضا بغير وجه شرعي يخالف نص المبايعة، قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} أتموه وأعطوه وافيا لا تنقصوه {إِذا كِلْتُمْ} للمشتري أيها الباعة {وَزِنُوا} إذا وزنتم لغيركم ولأنفسكم من غيركم {بِالْقِسْطاسِ} القبان ومثله الميزان {الْمُسْتَقِيمِ} العدل السوي كان الموزون ذهبا أو حطبا، وقد اكتفى جل شأنه باستقامة الوزن عن الأمر بإيفائه، لأن الوزن عند استقامة ما يوزن به لا يتصور الجور فيه غالبا، بخلاف الكيل فإنه كثيرا ما يقع التطفيف فيه مع استقامة الكيل، لهذا ذكر الاكتفاء بإيفائه عن الأمر بتعديله.

.مطلب الكيل والميزان والذراع وما يتعلق بهما:

وقد جاء في الآية 84 من سورة الأعراف المارة {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ} وفي الآية 84 من سورة هود {أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ} الآية في ج 2، لأن الإيفاء لا يتصور بدون تعديل المكيال، وقدمنا في سورة الشعراء المارة في الآية 182 بأن كلمة القسطاس من التي قيل فيها إنها غير عربية في الأصل، وذكرنا هناك بأنها وغيرها في الأصل عربية واستعملها الأجانب لأن اللّه تعالى قال {إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وذكرنا أيضا بأنه لو فرض جدلا ومحالا بأنها في الأصل ليست بعربية فقد عربت ونطق بها العرب قبل نزول القرآن، فوجدوها فيه على هذا لا يقدح بعربيتها في القرآن أيضا لأنها بعد التعريب والسماع في فصيح كلام العرب استعمالها صارت عربية، فلا حاجة لإنكار عربيتها أو ادّعاء التغليب، أو أن المراد عربي الأسلوب، أو أنها من نوارد اللغات كما يقال في بعض الشعر إنه من نوارد الخاطر إذا وافق قول من قبله.
هذا، وقد تبدل سينه صادا كما تبدل صاد الصراط سينا وكذلك المستقيم وشبهه من الألفاظ، لأن السين تخلف الصاد وبالعكس في بعض المواضع راجع تفسير الآية 5 من سورة الفاتحة المارة، {ذلِكَ} الإيفاء والاستقامة في الكيل والوزن {خَيْرٌ} لكم أيها الناس في الدنيا لأنه يسبب الرغبة في معاملتكم يجلب لكم النفاء الجميل {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 35 في الآخرة، وأجمل عاقبة لما يترتب عليه من الثواب، وأصل التأويل رجوع الشيء إلى الغاية المرادة منه علما، كما في قوله تعالى: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} الآية 8 من آل عمران في ج 3، أو فعلا كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} الآية 53 من سورة الأعراف المارة وقول الشاعر:
وللنوى قبل يوم البين تأويل

وليعلم أن نقص الكيل والوزن من الكبائر على ما يقتضيه الوعيد الشديد الوارد في الآيات والأحاديث، ولا فرق بين القليل والكثير، فالتفاوت لا شك قليل والعذاب عظيم كبير، ألا فلينتبه الغافلون وليتأملوا قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} الآتية آخر الجزء الثاني، ومن يرد السلامة ويحذر يوم الندامة فليوف الكيل وليرجح الميزان ليكون آمنا من مظنة السوء في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهنا لا تسامح في التّافه، ولا عبرة لمن قال إن غصب ما دون ربع الدينار لا يكون كبيرة، ويقيس عليه التطفيف، لأن هذا من مقاييس إبليس التي مرت لك في الآية 12 من الأعراف، ولا محل لها هنا، لأن الآية أوجبت الوفاء بالكيل والميزان، واللّه تعالى يقول {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ} الآية 83 من هود في ج 2، فكل نقص مهما كان تافها يعد مخالفة لكلام اللّه، ومخالفة كبيرة عظيمة لا يختلف فيها اثنان، على أن الغصب ليس مما يدعو قليله إلى كثيره، لأنه يكون على سبيل القهر والغلبة بخلاف التطفيف فتعيين التنفير منه بأن كلا من قليله وكثيره كبيرة أخذا بما قالوه في شرب القطرة من الخمر إنه كبيرة وإن لم يوجد فيها مفسدة وهو السكر وزوال العقل واللغو والتأثيم لأن قليله يدعو إلى كثيره، ومثل التطفيف في الكيل والوزن النقص في الذرع وجر السلعة حالة الذرع، ويوشك أن لا يكاد في هذا الزمن كيال أو وزان أو ذراع يسلم من نقص إلا من عصمه اللّه تعالى، أجارنا اللّه من النقص المادي والمعنوي بمنه وكرمه، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ} لا تتبع أيها الإنسان {ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} من أحوال الناس وقرئ {ولا تقفوا} بإشباع الضمة حتى ولد منها واوا، ومعنى قفا اتبع قفاه، ثم استعمل في مطلق الاتباع وصار حقيقة فيه، يقال قاف أثره يقوفه إذا قصّه واتبعه، أي لا تتبع ما لا علم لك له من أقوال الناس وأفعالهم، فتقول رأيت كذا من فلان وسمعت كذا من الآخر، وإياك أن ترمي أحدا بالظن وتغتابه في قفاه.