فصل: مطلب آداب اللّه الذي أدب خلقه ووصايا الصوفية واعتبار الظن والسماع في بعض الأوقات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب آداب اللّه الذي أدب خلقه ووصايا الصوفية واعتبار الظن والسماع في بعض الأوقات:

هذا نهي اللّه تعالى لكم أيها الناس من أن تحكموا بما لم تحققوا، فكيف بمن يقول رأيت وسمعت وهو لم ير ولم يسمع، فذلك البهت، وذلك الافتراء، وذلك الاختلاق، راجع الآية 110 من النساء والآيتين 6 و12 من سورة الحجرات، والآية 58 من الأحزاب في ج 3، والآية 36 من سورة يونس ج 2، إذ يتدرج تحت هذا أمور كثيرة اقتصر المفسرون على بعضها، فمنهم من قال المراد فيها نهى المشركين عن القول بالإلهيات والنبوات تقليدا لأسلافهم واتباعا لليهود، وقال محمد ابن الحنفية رضي اللّه عنه: النهي عن شهادة الزور، وقيل المراد النهي عن القذف ورمي المحصنات الآتي ذكره في الآية 3 فما بعدها من سورة النور في ج 3، قال الكميت:
ولا أرمي البريّ بغير ذنب ** ولا أقفو الحواصن إن رمينا

وقيل المراد النهي عن الكذب، وقال قتادة لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر، والقول ما قاله الإمام بأن المراد العموم، لأن اللفظ عام فيتناول الكل ولا معنى للقيد والتقيد، روى البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ ابن أنس: من قفا مؤمنا بما ليس فيه يريد شينه به حبسه اللّه تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال.
وروى الترمذي والنسائي عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وريحانته رضي اللّه عنهما قال: حفظت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه» وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «إياكم والظنّ لأن الظن أكذب الحديث».
وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة، قلت اللّه ورسوله أعلم، قال ذكرك أخاك بما يكره» وفي رواية: «ولو بحضوره».
قلت ولو كان في أخي ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته.
هذا وما جاء بأن الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام، قال أبو عمر الهيثمي لا أصل له، وقال نعم روى الطبراني والبيهقي وغيرهما الغيبة أشد من الزنى إلا أن له ما يبين معناه، وهو ما رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر وأبي سعيد رضي اللّه عنهما إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنى، إن الرجل ليزني فيتوب فيتوب اللّه عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر اللّه له حتى يغفر له صاحبه.
فعلم من هذا أن أشدّية المغيبة من الزنى ليست على الإطلاق بل من جهة أن التوبة الباطنية المستوفية لجميع شروطها من الندم والإقلاع، والعزم على عدم العودة إذا وقعت قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها، وظهور دابة الأرض، مقبولة مكفرة لإثم الزاني بخلاف الغيبة فإن التوبة منها وإن وجدت فيها تلك الشروط جميعها لا تقبل ولا يكفر وزرها بدون أن يستحل من المغتاب ويستعفيه عما وقع منه، وهذا قد لا يتيسر، فلهذا كانت الغيبة أشد من الزنى من هذه الحيثية لا مطلقا، وعلم من هذا أن الزاني لا يحتاج إلى الاستحلال من أولياء المزني بها إذا كان برضاها، ومنها أيضا إن كان كرها لما يترتب عليه من المفاسد التي قد تؤدي إلى قتل الزاني والمزني بها أو لهما معا، دفعا لما يلحقهم من العار ويولد فتنا وغيظا وحقدا لا تكاد تتلافى، لأن الزوج والقريب يقدم على القتل فيه بمجرد التوهم فكيف مع التحقيق، أجارنا اللّه من ذلك كله، وليعلم أن ثمرات الزنى قبيحة في الدنيا، يورث الفقر ويذهب بهاء المؤمن ويقصر العمر ويؤخذ بمثله من ذربة الزاني، راجع ما قدمناه في الآية 32 المارة وحديث من زنى زني به، أي من غير حاجة إلى ترصد محارمه والزنى بهن خارجا عن داره، بل قد يكون في وسط داره وعلى فراشه والعياذ باللّه، حفظنا اللّه وعصمنا بحرمة نبيه وآله.
وقد اتفق أن بعض الملوك لما سمع هذا الحديث أراد تجربته وكانت له بنت في غاية الحسن والجمال، فأنزلها مع امرأة وأمرها أن لا تمنع أحدا أراد التعرض لها بأي شيء شاء وأمرها بكشف وجهها، فطافت بها الأسواق، فما مرت على أحد إلا وأطرق حياء وخجلا منها، فلما طافت بها المدينة كلها ولم يمدّ أحد نظره إليها، رجعت بها إلى دار الملك فلما أرادت الدخول أمسكها إنسان وقبلها وذهب، فأدخلتها وأخبرت الملك بذلك، فخر ساجدا للّه تعالى وقال الحمد للّه ما وقع مني في عمري قط إلا قبلة، وقد قوصصت بها، فنسأل اللّه أن يعصمنا وذرارينا من الفواحش والموبقات كلها ما ظهر منها وما بطن.
هكذا كانت الملوك وسننهم في رعاياهم، وملوك الآن على ما نحن فيه لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تكونوا يولى عليكم، هذه عاقبة الزنى في الدنيا، أما عاقبته في الآخرة فالدخول في جهنم والعذاب الأليم فيها، أجارنا اللّه من ذلك.
واحتج في هذه الآية ثقات القياس، لأنّ قفو للظن ولا حكم به، لأن قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ} عام دخله التخصيص وهو النهي عن العمل بالظن، وأجيب بأن الأمة أجمعت على الحكم بالظن والعمل به في صور كثيرة، منها الصلاة على الميت الذي لم يعرف ودفنه في مقابر المسلمين، وتوريت المسلم منه بناء على أنه مسلم وهو مظنون فيه، ومنها التوجه إلى القبلة في الصلاة مبني على الظن وعلى اجتهادات وامارات لا تفيد إلا الظن، ومنها أكل الذبيحة بناء على أنها ذبيحة مسلم والذابح لها مظنون، ومنها الشهادة فإنها ظنية أي الشهادة الفعلية وهي القتل في الجهاد لإعلاء كلمة اللّه تعالى لأنها مبنية على النيّة وهي مظنونة، لا الشهادة القولية على الديون وغيرها فإنها لا تكون على الظن إلا في مواضع فإنها تجوز على السماع كالوقف والموت وغيرهما كما هو مدون في كتب الفقه، ومنها قيم المتلفات وأرش الجنايات فمبناهما على الظن.
ومن نظر ولو بمؤخر عينه رأى أن جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء والآمال في حاصلات الزروع وغيرها، كلها مظنونة ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم: نحن نحكم بالظاهر واللّه يتولى السرائر.
فالنهي عن اتباع ما ليس يعلم قطعي مخصوص بالعقائد، وبأن الظن قد يسمى علما، قال تعالى: {إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} الآية 11 من سورة الممتحنة في ج 3، وهذا العلم بإيمانهن إنما هو على إقرارهن وهو لا يفيد إلا الظن إذ لا تعلم سرائرهن في ذلك وبأن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس كان ذلك الدليل دليلا، على أنه متى حصل ظن على أن حكم اللّه تعالى في هذه الصورة يساوي حكمه في محل النص، فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن واقع في طريق الحكم، وأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن.
واعلم رحمك اللّه أنه لا شك أن القياس من الحجج المعمول بها شرعا بعد كتاب اللّه وسنة رسوله وإجماع الأمة، وهو لغة التقدير واصطلاحا تقدير الفرع المراد إلحاقه بالأصل في الحكم والعلة نقلا وعقلا لقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} الآية 11 من سورة الحشر، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} الآية 13 من آل عمران في ج 3 والاعتبار رد الشيء إلى نظيره.
ولحديث معاذ رضي اللّه عنه حينما قال له صلّى اللّه عليه وسلم بم تقضي؟ قال بكتاب اللّه، قال فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول اللّه، قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد برأيي، فقال صلّى اللّه عليه وسلم: الحمد للّه الذي وفق رسول رسوله لما يرضي به رسوله.
هذا نقلا، وأما عقلا فلأن الاعتبار وهو التأمل واجب عند عدم النص فيما أصاب من قبلنا من المثلات بأسباب نقلت عنهم، فنكل عنها احترازا عن مثله من الجزاء، ولا غرو أن الاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في المعلول كما بيناه في المطلب الرابع من المقدمة فراجعه، ومن أراد التفصيل فعليه بكتب الأصول، هذا وإن الأحكام المثبتة بالأقيسة كلية معتبرة في وقائع كلية مضبوطة، وإن التمسك بالآية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد إلا الظن، تأمل قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا} 36 أي أن هذه القوى الثلاث المشار إليها في هذه الآية الكريمة كسائر الجوارح الأخر من كل إنسان مستجمع لها يسأل يوم القيامة عما اقترفتها، فالبصر يسأل عما أبصره، والسمع عما سمع، والقلب ماذا وعى ووقر فيه، وهكذا اليد والرجل والفم، أو أن اللّه تعالى يسأل هذه الجوارح نفسها عن صاحبها هل استعملها فيما خلقت له بأن استعمل النظر في كتاب اللّه وآلائه ومكنوناته، والسمع في سماع القرآن والذكر والكلم الطيب، والفؤاد هل وقر فيه النصح للمسلمين وحبهم والحميّة لهم، أم لا بأن استعملها على العكس فصرف نظره للمحارم، وسمعه للغيبة وقول السوء، وقلبه للحقد والغل والحسد للناس، واليد للبطش بغير حق، والرجل للمشي إلى ما لا يرضي اللّه وما أشبه ذلك.
هذا وقد أشار اللّه تعالى إلى هذه الجوارح بإشارة العقلاء على القول بأنها مختصة بهم تنزيلا لها منزلتهم، لأنها مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها.
وقال بعضهم إنها غالبة في العقلاء، وجاءت لغيرهم من حيث أنهم اسم جمع لذا أي لفظ أولئك اسم جمع لذا وهو أي ذا يعم القبيلين من يعقل ومن لا يعقل ومن ذلك قول جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيش بعد أولئك الأيام

.مطلب ما يجب أن تبادر به الناس والوصايا العشر وغيرها:

قال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} فخرا وكبرا وخيلاء وتبطرا تتعاظم عليهم، وتتكابر في مشيتك على الناس وأنت منهم {إِنَّكَ} أيها الإنسان المتصف في هذه المشية المكروهة {لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ} بمشيتك هذه الممقوتة، فتتصور أنك تثقبها بشدة وطأتك كلا {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا} 37 بتشامخك ومدّ عنقك وقامتك مهما تطاولت، فأنت أنت بل تتصاغر في أعين قومك، وهذا تهكم في كل مختال شديد الفرح بنفسه كثير المرح على غيره، إذ يمشي مرة على أعقابه وأخرى على رءوس أصابعه، وتارة يتمايل، وطورا يتبختر بقصد تعالي نفسه الواطية، فمالك وهذا أيها الإنسان، تواضع لأنك دون ذلك وكن كما قال أبو الحسن علي بنخروف:
تنزه عن الدنيا وكن متواضعا ** عفيفا ولا تسحب ذيولا من الكبر

إذا كنت في الدنيا حليف تكبر ** فإنك في الأخرى أقل من الذر

واعلم أن قوتك مهما كانت فلن تقابل قوة الأرض ولا جثتك عظم الجبال، ومن هو أضعف من هذين الجمادين لا يليق به أن يتكبر، كان صلّى اللّه عليه وسلم إذا مشى يتكفأ تكفؤا أي تمايل إلى قدام كأنما ينحط من صيب، أي ينحدر من مكان عال فيحصر نظره قدامه، ومن هنا جعل السادة الصوفية العارفون النظر عند المشي إلى القدم شرطا من شروطهم حتى لا يرى شيئا من أحوال الناس، ومن أحوالهم بارك اللّه فيهم قولهم إذا دخلت فادخل أعمى وإذا خرجت فاخرج أخرس، وهذا هو الحكم الشرعي في المشي.
ومن السنّة أن يمشي بجانب الطريق ويتجنب التضييق على المارة، ويغض بصره عن عورات الناس، ويعرض عنهم، ويوسع لهم ما استطاع، ويزيل الأذى عن الطريق من كل ما يوجب العثار والزلق، ويسلم على الناس ويقابلهم ببشاشة الوجه، والأحسن أن لا يجاوز نظره محل قدمه، وينذر الغافل والأعمى والصغير عن الوقوع في حفرة وشبهها، ويحذرهم من المرور تحت جدار مائل، ومن حية وعقرب وكلب كلب أو عقور أو جمل هائم أو رجل صائل أو سقف هائر، وبالجملة من كل ما يترقب الأذى منه أو يتوقع الضرر منه مادة ومعنى.
وهذا كلثه من حق المسلم على المسلم والمعاهد والذمّي في حكم المسلم من هذه الجهات لقوله صلّى اللّه عليه وسلم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
قال تعالى: {كُلُّ ذلِكَ} من: {ولا تجعل} إلى آخر هذه الآية {كانَ سَيِّئُهُ} المنهي عنه من ذلك، وهو أربع عشرة خصلة، والمأمور به وهو إحدى عشرة خصلة، ثلاث مستترة وثمانية ظاهرة، فيكون المجموع المشار إليها بقوله ذلك خمس وعشرين خصلة، فتدبرها لأنا أوضحناها لك فتح اللّه علينا وعليك، فإذا علمتها فافعل المأمورات ما استطعت،
واجتنب المنهيات كلها، لأن اجتناب المنهيات أحسن عند اللّه من فعل المأمورات، ولهذا جاءته القاعدة الشرعية درء المفاسد مقدّم على جلب المنافع، راجع الحديث المار في الآية 39، واعلم أنه كما أن المأمور به منها محبوب فالسيىء {عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} 38 مبغوضا، فعليك أن تتّقي كل ما يكرهه اللّه، وتفعل ما يحبه.
واعلم أن لا مجال لما تمسك به بعضهم في هذه الآية من أن القبائح لا تتعلق بها إرادة اللّه تعالى، لان المراد بالمكروه هنا ما يقابل المرضيّ كما ذكرنا، لا ما يقابل المراد، لقيام القاطع على أن الحوادث كلها واقعة بإرادته تعالى، وإلّا لاجتمع الضدان الإرادة والكراهة كما يزعمه بعض المعتزلة، ووصف ذلك بمطلق الكراهة، مع أن أكثره من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الكف عنها، ولهذا كان المكروه عند المتقين الكاملين مثل الحرام في لزوم الاحتراز عنه، ومن لم يعرفه تعدّى إلى دائرة الإباحة، فتدبر وتحفظ وتأدب تنج وتسلم وتربح {ذلِكَ} المقدّم تفصيله لك أيها المتدبر المتفكّر العارف {مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ} من بعض ما أنزله {رَبُّكَ} يا سيد الرسل {مِنَ الْحِكْمَةِ} التي هي أسّ علم الشرائع ومعرفة ذات الخالق والاحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد إلى آخر الدوران {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ} افتراء عليه إياك إياك، احذر من هذا أيها العاقل كل الحذر، فهو أكبر أنواع الكفر، ولهذا صدّرت الآيات الثماني عشرة بمثل ما ختمت للعلم بأن التوحيد مبدأ الأمر وآخره، ورأس كل حكمة ومنتهاها، وملاك كل أمر وعمدته، وقد رتّب عليه أولا ما هو غاية الشرك في الدنيا، إذ ختم تلك الآية بقوله: {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} ورتّب آخرا على هذه الآية ما هو نتيجته في العقبى، وختمها بقوله: {فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا} من نفسك وغيرك {مَدْحُورًا} 39 مبعدا من رحمة اللّه لأنه كفر ما وراءه كفر، والفرق بين المذموم والملوم هو أن الذي يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر مذموم، والملوم هو الذي يقال له لم فعلت مثل هذا وما الذي حملك عليه، وما استفدت منه إلا ضرر نفسك، ويعلم من هذا أن الندم يكون أولا واللوم آخرا، والفرق بين المخذول والمدحور هو أن المخذول من لم يعنه أحد وقد فوض أمره لنفسه إذ لا ناصر له، والمدحور المطرود المهان المستخف به، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما هذه الثماني عشرة آية في التوراة عشر آيات كانت في ألواح موسى عليه السلام، وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عباس أن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل يعني سورة الإسراء هذه ثم تلا ولا تجعل مع اللّه إلى آخر هذه الآية، أي أن غالب أحكام التوراة داخلة في هذه الآيات، أما الوصايا العشر التي هي في التوراة فهي من جملة هذه الآيات وداخلة فيها وهي مبينة تماما في الآيات 152 و153 و154 في سورة الأنعام في ج 2 كما سنبينها في محلها إن شاء اللّه.