فصل: مطلب الآيات على ثلاثة أنواع وبيان الخمرة الملعونة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب الآيات على ثلاثة أنواع وبيان الخمرة الملعونة:

وليعلم أن آيات اللّه تعالى على ثلاثة أقسام، قسم عام في كل شيء:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

وهنا فكرة العلماء وقسم معتاد كالبرق والرعد والخسوف والزلازل وفيها فكرة الجهلاء، وقسم خارق للعادة وهو نوعان نوع مقرون بالتحدّي وقد انقضى بانقضاء النبوة، وقسم غير مقرون به وهو الكرامة التي يظهرها اللّه تعالى على يد من شاء من عباده العارفين العاملين، وهناك فكرة الأولياء، والمعنى أنا تركنا إرسال الآيات لسبق مشيئتنا بتأخير العذاب عنهم لحكم نعلمها، قال تعالى: {إِذْ قُلْنا لَكَ} يا أكرم الرسل {إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ} فلا يستطيع أحد الخروج عن مشيئته ولا يفعل شيئا دون إرادته وإن كل ما يقع في هذا الكون بقضائه وقدره، وإذ هنا منصوبة بفعل مقدّر أي اذكر يا محمد لقومك ما أوحيناه إليك من ذلك وأعلمناك أن الخلق كلهم في قبضتنا وإرادتهم من إرادتنا، فلا تبال بما تراه من كفرهم، وامض لأمرك وبلّغ ما أرسلت به ولا تخشهم، فاللّه حافظك ومانعك منهم ومقويك وناصرك عليهم {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ} ليلة الإسراء والمعراج من عجائب الآيات وبدائع المعجزات {إِلَّا فِتْنَةً} اختبارا وامتحانا {لِلنَّاسِ} إذ ارتد بعض المؤمنين عند سماعها، وأجمع كفرة قريش على جحودها فكذبها أناس وتعجب آخرون، وصدق بها المؤمن الموقن وازداد المخلص إيمانا والكافر كفرا، فكانت فتنة للفريقين، واختلف المسلمون في المعراج أيضا على أقوال بسطناها آنفا في الآية الأولى من هذه السورة، وفي المعجزة الثالثة والثلاثين المارة وما بعدها، فراجعها إن شئت.
أخرج الترمذي والنسائي وغيرهما عن ابن عباس أن الرؤيا هي ما عاينه حضرة الرسول ليلة أسري به من العجائب الأرضية والسماوية رؤية عين، وهي على اللغة الفصحى، إذ تقول العرب رأيت بعيني رؤية ورؤيا، وهذا هو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريح وغيرهم، وإنما عبر بالرؤيا دون الرؤية لمشاكلة تسميتهم لها رؤيا، أو جار على زعمهم كتسمية الأصنام آلهة، فقد روي أن بعضهم قال له صلّى اللّه عليه وسلم لما قص عليهم الإسراء لعله شيء رأيته في منامك يا رسول اللّه، أو على التشبيه بالرؤيا لما فيها من العجائب، ولوقوعها ليلا، أو لسرعتها، أي وما جعلنا الرؤيا التي أرينا كها عيانا مع كونها آية عظيمة وأيّة آية، وقد ذكرتها لقومك وأقمت البرهان على صحتها بما اختبرك به قومك عن عيرهم، كما ذكر في المعجزة الثامنة والستين فما بعدها المارة إلا فتنة افتتن بها الناس من تكذيب وتصديق وتهويل وإعجاب {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنها شجرة الزقوم.
وروي عنه أيضا أن المراد بها لعن طاعميها من الكفرة، ووصفها باللعن من المجاز في الإسناد، وفيه من المبالغة ما فيه.
وقد يراد لعنها نفسها بالمعنى اللغوي وهو البعد، لأنها في أبعد مكان من جهنم، قال تعالى: {تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} بعد أن قال: {إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} الآيتين 63 و64 من سورة الصافات في ج 2، أي في أبعد مكان من رحمة اللّه تعالى، وقد لعنت إذ لعن آكلوها، وإلا فلا ذنب لها حتى تلعن، ولكن المصاحبة لها دخل:
ما ضرّ بالشمع ** إلا صحبة الفتل

ولهذا قيل الصاحب ساحب:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ** فكل قرين بالمقارن يقتدي

وأخرج بن المنذر عن الحبر أنها وصفت بالملعونة لتشبيه طلعها برءوس الشياطين كما جاء في الآيتين 64 و65 من الصافات أيضا، والشياطين ملعونون، والعرب تقول لكل طعام مكروه ملعون، والآية معطوفة على قوله تعالى: {الرؤيا} أي وما جعلنا هذه الشجرة إلا فتنة للناس أيضا، وإنما كانت فتنة لأن أبا جهل وغيره من متعنتي قريش قالوا إن محمدا يتوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يقول ينبت فيها الشجر على طريق السّخرية والاستهزاء، ويقول ابن أبي كبشة هي الزقوم، وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد ثم أمر جاريته فقال هيّا، فأحضرت له تمرا وزبدا، وقال لأصحابه تزقموا، وكذلك قال ابن الزبعرى الآتي ذكره في الآية 97 من الأنبياء في ج 2، وافتتن بهذه المقالة بعض الضعفاء وضلوا في ذلك ضلالا بعيدا، إذ كابروا في قضية أبتها عقولهم القاصرة، وما قدروا اللّه حق قدره، ألا يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة فلا تضرها، والسندل يفرخ في النار ويعمل من وبره مناديل إذا توسخت ألقيت في النار فيذهب وسخها ولا تحترق، والدود يعيش في الثلج، والنار من الشجر الأخضر كما قدمنا توضيحه في الآية 80 من سورة يس المارة، فالقادر على تلك الأشياء ألا يقدر على خلق شجرة في النار لا تحترق، وما هي إلا كالسمك في الماء والطير في الهواء راجع الآية 19 من سورة الملك في ج 2، بلى وهو على كل شيء قدير.
وجاء عن ابن عباس أنها الكثوث المذكورة في قوله تعالى: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ} الآية 24 من سورة ابراهيم في ج 2 المشبّه بها كلمة الكفر، وقد لعنها في القرآن وخصّها بالخبث، وإن الامتنان بها على هذا هو أنهم قالوا عند سماع الآية ما بال الحشائش تذكر في القرآن، كما اعترضوا على ذكر البعوضة فيه، راجع الآية 25 من سورة البقرة في ج 3، والمعول في هذا على القول الأول بالنسبة للمروي عنه {وَنُخَوِّفُهُمْ} بتلك الآيات ونظائرها وجاء هذا الفعل بلفظ الاستقبال دلالة على الاستمرار التجددي وقرئ بالياء {فَما يَزِيدُهُمْ} تخويفنا هذا بالإهلاك في الدنيا والتعذيب بالنار في الآخرة {إِلَّا طُغْيانًا كَبِيرًا} 60 عظيما بسائق تمردهم وعنادهم، فإنهم كلما جاءتهم آية تجاوزوا الحد بالإنكار والتكذيب، ولذلك فإنا لو أرسلنا إليهم ما اقترحوه على يد رسولهم لفعلوا به ما فعله من قبلهم أمثاله بأمثاله ولفعلنا بهم أيضا ما فعلناه بأمثالهم من عذاب الاستئصال، ولكن سبقت كلمتنا بتأخير العقوبة العظمى إلى الطامّة الكبرى واعلم أن هذا الكلام مسوق لتسلية حضرة الرسول عما عسى أن يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخافتها للحكمة من نوع حزن وكآبة من طعن الكفرة، إذ كانوا يجابهونه بقولهم لو كنت نبيا أو رسولا حقا لأتيت بما نطلبه منك من المعجزات كالأنبياء قبلك، إذ جاءوا أقوامهم بما طلبوه منهم، ولكنك لست برسول، ولهذا لم تقدر أن تأتينا بشيء من ذلك، وهذا أصح ما جاء في تفسير هذه الآية وسبب نزولها، وما قيل أن المراد بالإحاطة هنا الإهلاك على حد قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} الآية 42 من سورة الكهف في ج 2، وأنه هو الواقع يوم بدر، وأن التعبير بالماضي جاء على حد قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} الآية 43 من سورة القمر المارة، وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ} الآية 13 من آل عمران ج 3 وغيرهما من الآيات لتحقق الوقوع، وأن المراد بالرؤيا هو ما رواه صلّى اللّه عليه وسلم في المنام من مواقع مصارع القتلى من قريش، لما صح أنه صلّى اللّه عليه وسلم لمّا ورد ماء بدر كان يقول واللّه لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يضع يده الشريفة على الأرض هاهنا هاهنا ويقول: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وإن قريشا سمعت بما أوحى اللّه إلى نبيهم بشأن بدر وما أري في منامه، فكانوا يضحكون ويسخرون، وهذا هو معنى الفتنة المرادة في هذه الآية، راجع الآية 78 من الأنفال في ج 3، وسمعت أيضا بما رواه مناما أنه سيدخل مكة وأنه أخبر أصحابه فتوجه إليها، وصده المشركون عام الحديبية حتى قال عمر:
يا أبا بكر أما أخبرنا رسول اللّه أنا ندخل البيت ونطوف فيه؟ فقال إنه لم يقل في هذه السنة، وقد صدق اللّه ودخلوها في القابلة، فكل هذا لا يكاد يصح شيء مه، لأن هذه كلها وقعت ورسول اللّه في المدينة، وهذه الآية مكيّة إجماعا وهو مخالف لظاهر الآية المفسرة لذلك فلا يعول عليه، وأن الاعتذار عن كون هذا مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بالإهلاك وبالرؤيا واقعا في مكة، وذكر الرؤيا وتعين مصارع القوم واقعين في المدينة، لا وجه له أيضا إذ يلزم منه أن يكون الافتتان واقعا بالمدينة أيضا، وأن ازديادهم طغيانا متوقع عند نزول الآية لا واقع وهو خلاف الواقع وبعيد عن المعنى، ومباين لسياق الآية، ومناف لسياق التنزيل، وكذلك ما أخرجه ابن جرير عن سهيل بن سعد قال رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكا حتى مات عليه الصلاة والسلام وأنزل اللّه هذه الآية المفسرة، وما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عباس عن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بني أمية على المنابر فساءه ذلك، فأوحي اللّه تعالى إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرّت عينه، وذلك قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا} إلخ وما أخرجه ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء» واهتم عليه الصلاة والسلام لذلك، فأنزل اللّه هذه الآية المفسرة وما أخرج عن ابن عمران أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: «أريت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة» وأنزل اللّه تعالى ذلك أي الآية المفسرة والشجرة الملعونة الحكم وولده وقال بعض المفسرين هي بنو أمية، وما أخرج بن مردويه عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن» وعليه يكون الكلام على حذف مضاف أي وما جعلنا تعبير الرؤيا أو الرؤيا مجازا عن تعبيرها، ويكون معنى الإحاطة في هذه الآية إحاطة أقداره تعالى بهم، ومعنى الفتنة جعل ذلك بلاء لهم، ولعنهم بما صدر منهم ومن خلفائهم من استباحة الدماء المعصومة والفروع المحصنة ومنع الحقوق وأخذ الأموال بغير حق وتبديل الأحكام والحكم بغير ما أنزل اللّه إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تنسى ما دامت الليالي والأيام لأنهم فعلوا ما فعلوا وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا وإن لعنهم هذا إما على الخصوص كما زعمته الشيعة أو على العموم كما تقول أهل السنة والجماعة، فقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} الآية 13 من سورة الأحزاب في ج 3، وقال عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ} الآيات 22 فما بعدها من سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلم في ج 3، ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أولياء إلا أنه لا يجوز عند أهل السنة والجماعة أن يلعن واحد بخصوصه إذ صرحوا أنه لا يجوز لعن كافر بعينه ما لم يتحقق موته على الكفر كفرعون ونمرود فكيف من ليس بكافر، وأما ما جاء بحديث الصحيحين إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح.
الذي احتج به السراج البلقيني على جواز لعن العاصي بعينه فقد قال ابنه الجلال بحثت مع والدي في ذلك باحتمال أن يكون لعن الملائكة لها بالعموم بأن يقولوا لعن اللّه تعالى من باتت مهاجرة فراش زوجها، على أنه استدل على ما يقوله بخبر مسلم أنه صلّى اللّه عليه وسلم مرّ بحمار وسم بوجهه، فقال لعن اللّه تعالى من فعل هذا، لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معيّن على أنه لا مانع من تأويله أيضا بأن يراد فاعل الجنس ذلك الوسم، والمغضبة لزوجها على العموم، راجع ما بيناه في الآية 42 من سورة القصص المارة، وعليه فلا دلالة صريحة لا تقبل التأويل في هذين الحديثين لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أو التأويل أفقده قوة الاحتجاج في الاستدلال، وهذه قاعدة أصولية لا طعن فيها.
نعم صح أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال اللهم العن رعلا وذكوان وعصيه عصوا اللّه ورسوله، وهذا فيه لعن أقوام بأعينهم، إلا أنه يجوز أنه صلّى اللّه عليه وسلم علم بإلهام اللّه إياه، موتهم على الكفر فلعنهم، وهذا جائز كما تقدم، وإذا كان كذلك فلا حجة فيه للسبب المذكور أيضا، ولأنه بأقوام لا لشخص بعينه، ولا يخفى أن تفسير الآية لا ينطبق على ما ذكر ولا يلاثم المعنى المسوقة له الآية، ولم يكن شيء من ذلك كله زمن نزولها، وان بين نزولها وبين هذه الحوادث سنين كثيرة أما الأحاديث الواردة المذكورة آنفا في بني أمية وبني الحكم فيحتمل أنها صحيحة لكن لا علاقة لها في الآية المفسرة المتعلقة بالإسراء خاصة، وتلك بحوادث أخرى ولا مانع من أنه صلّى اللّه عليه وسلم رأى ما قاله فيهم رؤيا منامية أو بطريق الكشف، لكن غير هذه الرؤيا المقصودة هنا في هذه السورة، وكذلك لا يتجه قول من قال إن الشجرة الملعونة أبو جهل والفتنة وجوده بلاء على المسلمين، لأنه أيضا خلاف الظاهر ولا يوجد ما يدلّ عليه، وكذلك قول من قال إن الشجرة مجاز عن اليهود الذين تظاهروا على حضرة الرسول، فلما بعث كذبوه وجاء لعنهم في القرآن صريحا ظاهرا، وإن فتنتهم هي أنهم كانوا ينتظرون بعثته عليه السلام فلما بعث كفروا به قائلين إنه غير النبي المنتظر، فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم هذه عن الإيمان به السبب نفسه، ووجود لعنهم في القرآن وكونهم فتنة على الإسلام أمر واقع لا شك فيه ولا ريب، ولكن هذه الآيات لا تمسهم، ولا يخفى أن اليهود بالمدينة والآية نزلت بمكة قبل أن يكون لحضرة الرسول مساس بهم، هذا وقد نقلنا لك أيها القارئ كل ما نقله المفسرون بهذا الشأن ورددنا عليه لنكفيك مؤنة المطالعة وتقنع بما أثبتناه لك، واللّه من وراء القصد وله المنة والحمد.
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ} هذا تحقيق لقوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} الآية المارة وهو ظاهر في الملائكة الذين ادعى بعض العرب عبادتهم وتضمن لغيرهم وإشارة إلى عاقبة الذين عاندوا الحق جل وعلا واقترحوا الآيات وكذبوا الرسل، لأنهم داخلون في الذرية التي احتنكهم إبليس لعنه اللّه واتبعوه اتباع الظل لذويه دخولا أوليا ومشاركون له في العناد أتم مشاركة، ألم تر إلى قولهم فيما حكى اللّه عنهم {قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} الآية 33 من الأنفال في ج 3 ولم يقولوا أللهم اهدنا إليه لسابق شقائهم، ووجه المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها أن قريشا كذبوا حضرة الرسول حسدا وتعاظما على ما خصّه اللّه به دونهم، وما منع إبليس من السجود لآدم عليه السلام شيء من الأشياء إلا الحسد والتكابر عليه، والمعنى أذكر يا محمد لقومك إنما أمرنا الملائكة وقلنا لهم {اسْجُدُوا لِآدَمَ} تكريما وتحية له واحتراما، فسجدوا كلهم امتثالا لأمري دون تلعثم أو سؤال عن السبب بحق الانقياد والطاعة {إِلَّا إِبْلِيسَ} لم يسجد {قالَ} بعد أن وبخ على امتناعه {أَأَسْجُدُ} استفهام إنكاري وتعجب {لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} 61 وقد خلقتني من النار وهي أفضل من الطين، فاستحق اللعن والطرد راجع قصته مفصلة في الآية 12 من الأعراف المارة، ثم قال {أَرَأَيْتَكَ} أيها الإله أخبرني من {هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} وأمرتني بالسجود له أي شيء هو حتى أسجد له فهو دوني وما هو بالشيء المستحق للسجود بالنسبة إلي لأنه شيء لا يتمالك وعزتك وجلالك وعلوك في مكانك الذي لا يتكيف {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} ولم تمتني وجواب القسم قوله: {لَأَحْتَنِكَنَّ} أستولين وأستأصلن {ذُرِّيَّتَهُ} مهما كانوا استئصال واستيلاء قويبن محكمين، لا أفلت وأترك {إِلَّا قَلِيلًا} 62 منهم المخلصين والصادقين، ومعنى حنك واحتنك جعل الحبل في حنك الدابة الأسفل وقادها به كيفما شاء إلى ما أراد، وهو كناية عن إهلاكهم بإغوائه وطرقه الخبيثة، يقال احتنك الجراد الأرض إذا أهلك نباتها، واحتنك فلان مال فلان إذا أخذه وأكله، وعليه قوله:
فشكوا إليك سنة قد أجحفت

جهدا إلى جهد بنا فأضعفت

واحتنكت أموالنا وأجلفت

وقد علم ذلك الملعون من قوة الوهم وتركيب الشهوة في بني آدم وهما سبب الميل عن الحق والركون إلى الباطل وقد برّ في قسمه الخبيث في بعض بني آدم قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} الآية 20 من سورة سبأ في ج 2.
هذا ومن قال إن وسوسته خلصت إلى آدم نفسه فقاس الفرع على الأصل لا يصح لأن هذا القول وقع منه قبل الوسوسة لآدم التي كان بسببها ما كان، ومن زعم أن هناك وسوستين فعليه البيان ولن يأتي به البتة {قالَ} استهجانا له وتبكيتا به وإهانة له {اذْهَبْ} لشأنك وامض لما تريد إذ ليس المراد من الذهاب هنا ضد المجيء بل تخليته وما سولت له نفسه الخبيثة احتقارا له كما تقول لمن خالفك في النصح افعل ما تشاء يدل على هذا قوله جل قوله: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} وانقاد لخداعك من ذرية آدم وضل عن الحق ومات على ذلك {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ} أنت ومن أضللت بتغليب المخاطب على الغائب رعاية لحق المتبوعية {جَزاءً مَوْفُورًا} 63 وافيا كاملا بغاية الشدة إذ تعقبه بالوعيد ولو كان المراد منه ضد المجيء لما عقب به ووفر كوعد بمعنى كمل والموفور الكامل وعليه قول أشعر الشعراء:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ** يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

قال تعالى: مهددا له {وَاسْتَفْزِزْ} استخفف واستزلل وحرك واستنفر {مَنِ اسْتَطَعْتَ} أن تستفزّه {مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} دعائك إلى معصية ربك بما شئت من طرق الوسوسة كغناء ومزمار أو عود وربابة أو دفّ وبوق وغيرها من آلات اللهو واللعب بالباطل لتستميلهم إلى الكفر والمعاصي {وَأَجْلِبْ} صح {عَلَيْهِمْ} مأخوذ من الجلبة وهي الصياح والجمع يقال أجلب على العدو جمع عليه وأعان غيره عليه وتوعده بالشرّ أي استعمل بإضلالهم كل ما شئت {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} وسائر جنودك ركبانا ومشاة {وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ} مما يصيبونه من حرام وينفقونه فيه {وَالْأَوْلادِ} ممن يأت منهم من الزنى الناشيء عن إغوائك وإضلالك وما تحبذه لهم من الأسماء المنهي عنها كعبد الحارث وعبد العزّى وعبد شمس، وتزيّن لهم قتل البنات خشية العار والفاقة وقتل غير القاتل وأخذ مال قريب الغاصب وما أشبه ذلك من أعمال الجاهلية التي وقعت بعد، إذ لا توجد إذاك جاهلية ولا غيرها.