فصل: مطلب أرجى آية في القرآن للمغفرة، وبحث الروح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ} السورتين المارتين، وقال تعالى: {شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} الآية 112 من سورة الأنعام في ج 2، أو أنها كناية عن العوارض الغريبة، فالخلق لو لم يحصل لهم مس من الشيطان ما عصوا اللّه تعالى، ولبقوا على فطرتهم، لكن مسهم الشيطان فأفسد عليهم فطرتهم الأصلية، فاقتفوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهيّ الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم وما جبلوا عليه:
ولولا المزعجات من الليالي ** لما ترك القطا طيب المنام

وإذا احتاجوا إلى رسل يبلغونهم آيات اللّه ويسنون لهم ما يذكرهم عهد ذواتهم من نحو الصلاة والصيام والزكاة وصلة الأرحام ليعودوا إلى فطرتهم الأصلية، ومقتضى ذواتهم البهية، ويعتدل مزاجهم ويتقوم اعوجاجهم، ولهذا قيل الأنبياء أطباء، وهم أعرف بالداء والدواء.
ثم إن ذلك المرض الذي عرض لذواتهم والحالة المنافية التي قامت بهم لولا أن وجدوا من ذواتهم قبولا بعروضها لهم ورخصة في لحوقها بهم لم يكونا يعرضان لهم ولا يلحقانهم، فإذا كان مما تقتضيه ذواتهم أن تلحقهم أمور منافية مضادة بجواهرهم فإذا لحقتهم تلك الأمور اجتمعت فيها جهتان الملاءمة والمنافاة، أما كونها ملائمة فلكون ذواتهم اقتضتها، وأما كونها منافية فلأنها اقتضتها على أن تكون منافيه لهم، فلو لم تكن منافية لم يكن ما فرض مقتضى لها بل أمر آخر.
وانظر إلى طبيعة الأرض التي تقتضى يبوسة حافظة لأي شكل كان حتى صارت ممسكة للشكل القسري المنافي لكرويتها الطبيعية ومنعت عن العود إليها، فعروض ذلك الشكل للأرضية لكونها مقسورة من وجه ومطبوعة من آخر، والإنسان عند عروض فعل هذا المنافي ملتذّ متألم، سعيد شقي متلذذ، ولكن لذته ألمه، سعيد ولكن سعادته شقاؤه، وهذا لعمرك أمر عجيب لكنه أوضح بنمط غريب، ومن تأمل وأنصف ظهر له أن لا مخلص لكثير من الشبهات في هذا الفعل إلا بالذهاب إلى القول بالاستعداد الأزلي، وأن لكل شيء أصالة في نفسه مع قطع النظر عن سائر الاعتيادات لا يقاضى عليه إلا هي، لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو من أعظم المستحيلات والإنابة والتعذيب تابعان لذلك، فسبحان الحكيم المالك، فتثبّت أيها الرجل وكن رجلا حازما فقد زلت أقدام أعلام كثيرين كالاعلام في هذا المقام الذي لا ينجو منه إلا التائبون الجازمون بما هو كائن عند اللّه من أعمال وأفعال وأقوال وأحوال، وإن ما هو مدون عنده أزلا للعبد لابد وأن يدركه لا محالة، راغبا كان أو راهبا، راضيا أو ساخطا.
فنسأله تعالى أن ينور قلوبنا ويسدد أفهامنا ويثبت أقدامنا ويقنعنا بما كتب لنا ويرضينا بما قسمه لنا، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم روى البخاري ومسلم عن أبي عبد الرحمن عبد اللّه بن مسعود من حديث صحيح: إن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
فتأمل هذا حق التأمل وانظر كيف يقسم حضرة الرسول في حديثه هذا الذي صدره بقوله فو اللّه الذي لا إله إلا هو، ثم ساقه.
فتمسك به وتلقّه بالقبول وسل اللّه الثبات والرسوخ في الإيمان.

.مطلب أرجى آية في القرآن للمغفرة، وبحث الروح:

واعلم أن رؤساء الاصحاب رضي اللّه عنهم تذاكروا فيما بينهم عن أي آية في القرآن أرجى للغفران، فروي أن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه قال: لم أر في القرآن أرجي من هذه الآية، أي التي نحن بصددها إذ لا يشاكل بالعبد إلا العصيان، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران.
وقال عمر رضي اللّه عنه: لم أر أرجى من الآية التي فيها قوله جل قوله: {غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ} الآية الثانية من سورة المؤمن في ج 2، إذ قدم الغفران قبل قبول التوبة.
وقال عثمان رضي اللّه عنه: لم أر أرجى من قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الآية 50 من سورة الحجر في ج 2، لما فيها من إعلان المغفرة للجميع وطلب إعلانها.
وقال علي كرم اللّه وجهه: لم أر أرجى من آية {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}
الآية 54 من سورة الزمر ج 2.
وقدمنا في سورة والضحى المارة عن جعفر الصادق أن أرجى آية في القرآن {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} إلا أنه خصّها بأهل البيت فراجعها، والمراد هنا ما يعم الكل غير المشرك لورود النص فيه في الآيتين 47/ 116 من سورة النساء في ج 3، وهناك اقوال سنأتي بها عند تفسير الآيات المشار بها أعلاه فراجعها، قال تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الذي هو مبدأ البدن الإنساني ومبدأ حياته وقوام دوامها وملاك بقائها، وإنما سألوه عن الروح لأن معرفتها من أدق الأمور التي لا يسع أحد إنكارها ولا يقدر أحد على معرفتها، لذلك فإن كل أحد يشرئب إلى التعرف عليها، توفر دواعي العقلاء إليها، وكلل الأذهان عنها، ووقوف الفكر ببابها، فمن وفقه اللّه علم أنها لا تعلم إلا بوحي من اللّه، والوحي خاص بالأنبياء، وقد ختم اللّه إرسالهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم، فيفوض أمر معرفتها إلى اللّه ويوقن ويسكت، ومن خذله اللّه تطرق إلى كل ما يتخيلة ليقف على صورتها ومادتها، فيرجع خاشئا، إذ لا طريق إلى ذلك.
وقد زعم ابن القيم أن المسئول عنه في هذه الآية قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ} الآية 38 من سورة عم في ج 2، وسيأتي في تفسيرها أن الروح هناك يطلق على القرآن وعلى اسم ملك خاص أو صنف من الملائكة أو جبريل عليه السلام، إذ لا يعلم الروح المسئول عنه في الآية المفسرة إلا اللّه لأنه من الغيب الذي علمه من خصائصه جل شأنه.
واعلم أن الروح كما يطلق على ما ذكر آنفا كما سيأتي في الآية الأخيرة من سورة الشورى في ج 2، وكما مر في الآية 192 من الشعراء، يطلق على الروح المركبة في الجسم المرادة في هذه الآية ليس إلّا واللّه أعلم.
أخرج أحمد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه وابن حبان وجماعة عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئا لنسأل هذا الرجل، فقالوا اسألوه عن الروح، فسألوه فنزلت هذه الآية.
وفي السير عن ابن عباس أيضا أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقال لهم سلوهم ما نسأل محمدا فإنهم أهل كتاب، عندهم من العلم ما ليس عندنا، فخرجا حتى قدما المدينة فسألوهم، فقالوا اسألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي، فجاءوا وسألوه، فبين لهم صلّى اللّه عليه وسلم القصتين الآتيتين في سورة الكهف في ج 2 من الآية 3 إلى 26 ومن الآية 82 إلى 99، ولهذا نزلت هذه الآيات بمكة قبل سورتها، كما سيأتي فيها، وأبهم أمر الروح إذ لم ينزل عليه فيها شيء يبينها، وهي مبهمة في التوراة أيضا.
واعلم أن ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكىء على عسيب، فمرّ بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح، وقال بعضهم لا تسألوه، فقالوا يا محمد ما الروح؟ فما زال يتوكأ على العسيب، فظننت أنه يوحى إليه، فلما نزل الوحي قال {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية، لا يصح سببا للنزول لأن الآية مكية ولم يستثنها أحد من العلماء، على أنه يصح أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أجابهم بهذه الآية لأنها كانت نازلة عليه وهو في مكة، على أنه يتمثل ببعض الآيات المكية في المدنية عند مناسبة تتعلق بها، أما سبب نزولها فهو ما سمعته عن ابن عباس الحديث الأول، ومما يدل على صحة عدم النزول في حديث ابن مسعود الآنف الذكر قوله فيه: فظننت أنه يوحى إليه، أي عند ما سكت حضرة الرسول، على أن حالة الوحي لا تخفى على أحد، ويوشك أن سكوته كان لتدبر الآية وهيبة لكلام اللّه، ويؤكد هذا عدم قوله في هذا الحديث فنزلت، بل قال فلما نزل الوحي قال {ويسألونك} إلخ، مما يدل على أن كلمة فلما نزل الوحي من عند ابن مسعود رضي اللّه عنه، وعليه يكون المراد من قوله فلما نزل الوحي فلما تذكره وتدبره والكلام يحتمل هذا.
وما قاله بعض المفسرين من أن هذه الآية نزلت مرتين ليجمع بين الحديثين فغير سديد، إذ لم يثبت أن شيئا من القرآن نزل مرتين، وقدمنا في مطلع تفسير سورة الفاتحة المارّة وفي أول سورة المدثر المارة أيضا عدم صحة نزول شيء من القرآن مرتين، وفيه بحث نفيس فراجعه.
{قُلِ} يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين وغيرهم {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} لم يعط علمها أحدا من خلقه، لأنها مما استأثر اللّه بعلمه كالخمسة المذكورة آخر سورة لقمان في ج 2، وإن معلومات اللّه التي اختص بها نفسه لا يحيط بها علم البشر، إذ ليس لها نهاية، راجع الآية 27 من سورة لقمان أيضا، وإذا كان اللّه تعالى لم يطلع رسوله على معنى الروح وهو حبيبه وصفيّه من خلقه، فما بال الناس يبحثون عنها والتعرف إليها؟ وغاية عقول العوالم فيها عضال، ونهاية سعي الفلاسفة فيها ضلال، روي عن أبي هريرة أنه قال: لقد مضى النبي صلّى اللّه عليه وسلم وما يعلم الروح، وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيتها بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه، والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدراك مخلوق مجاور له، فعليه أن يستدل به على أنه عن معرفة خالقه أعجز.
ولما أيسوا من معرفة الرّوح اختلفوا في معناها، فقيل إنه جسم دقيق هوائي متشرب في كل جزء من الحيوان، وقيل هو عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم، وقيل هو الدم لأن الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم، وقيل هي النفس لأن الإنسان يموت بانحباس نفسه، وقيل هي اعرض، وقيل هي جسم لطيف بمثابة الإنسان، وقيل هي معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء، ألا ترى أنه إذا كان موجودا يكون الإنسان موصوفا بهذه الصفات جميعها، وإذا خرج منه ذهب عنه الكل فلا يوصف بشيء منها، وسبب هذا الاختلاف ناشيء عن عدم المعرفة بحقيقتها، لأن المحدود إذا كان لا يعرف كيف يحد وغير المحدود بما يميّزه، لا يمكن أن يعرف، وإذا كان كذلك فالأولى أن يوكل علم حد الروح إلى اللّه تعانى كما وكل هو جل شأنه علمها إليه، وهذا هو ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة {وَما أُوتِيتُمْ} أيها الناس {مِنَ الْعِلْمِ} بشيء من مكونات الله تعالى: {إِلَّا} علما {قَلِيلًا} 85 جدا لا يذكر في جنب معلوماته.
واعلموا أن ما أوتيتم من العلم لا يمكن تعلقه باحتمال هذا الذي هو من خصائصه، وفي هذه الجملة معنى النهي عن السؤال عن الروح لعدم تعليمه إلى الرسول.
ومما يدلّ على أن هذه الآية مكّية لا مدنية، ما أخرجه ابن اسحق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال نزلت هذه الآية بمكة، فلما هاجر الرسول إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا يا محمد إنا نعجب من قولك، ألم يبلغنا عنك أنك تقول: {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ} الآية أفتعنينا أم قومك؟ قال كلا عنيت قالوا إنك تتلو أنا أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء، وتتلو {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} والحكمة هي التوراة وقد أوتيناها، فقال صلّى اللّه عليه وسلم: «هي من علم اللّه قليل، وقد آتاكم اللّه ما إن عملتم به انتفعتم» فأنزل اللّه {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآيتين من سورة لقمان أيضا.
ولهذه الحكمة أخّرت هذه الآيات عن سورتها بالنزول لأن السورة نزلت بمكة وهذه الآيات بالمدينة.
واعلم أن معنى كون الروح من أمر اللّه أنها من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصيل مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني، والمراد بالأمر واحد الأوامر وهو كن، والسؤال كما ذكرنا هو عن الحقيقة، والجواب إجمالي مآله أن الروح من عالم الأمر، مبدعة من غير مادة، لا من عالم الخلق المبتدع في المادة، وهو أي هذا الجواب من الأسلوب الحكيم كجواب سيدنا موسى عليه السلام إلى فرعون حينما قال له: {وَما رَبُّ الْعالَمِينَ} فأجابه {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا} الآية 25 من سورة الشعراء المارة مشيرا بجوابه هذا إلى أن كنه حقيقة المسئول عنه ما لا يحيط به دائرة إدراك البشر، وإنما الذي يعلمه البشر عن الإله هو هذا القدر الإجمالي المتدرج تحت ما استثنى مما استأثر به نفسه المقدسة.
وقال ردّا على ما خطر في قلب السائل من اطلاع على معلوماته الضئيلة بقوله: {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} وتفسيره ما تقدم تستفيدونه من طرق، فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات، ولذلك قيل من فقد حسا فقد علما.
هذا، ولا شك أن الروح مجردة عن علائق الأجسام، وأنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد، يدل عليه قوله تعالى: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وقوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} الآية 29 من سورة الحجر في ج 2، وقوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ} الآية 170 من سورة النساء في ج 3، وان هذه الإضافات تنبه على شرف الجوهر الأسنى وكونه عريّا عن الملابس الحسية.
ومن هذا القبيل قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «أنا النذير العريان» ففيه إشارة إلى تجرّد الروح عن علائق الأجرام، وكذلك قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «خلق اللّه آدم على صورة الرحمن»- وفي رواية على صورته- وقوله عليه السلام: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» ففيها إيذان بشرف الروح وقربه من ربه بالذات والصفات، قربا لا يعرف كيفيته، مجردا عن علائق الأجرام وعوائق الأجسام.
واعلم أنه ليس بوسع الإنسان وطاقته أن يعلم حقيقة الخردلة وكيفية حصولها ونوع تكوينها، فكيف يعلم حقيقة الروح المحببة للجسد بأمر اللّه المحركة له بالإرادة والاختيار التي إذا انفصل عنها مات وانقطعت شعوره وإدراكاته كلها؟
وكذلك لا يقدر أن يعرف كيفية تعلقها بالبدن ومفارقتها له حالة النوم، ثم لابد لنا أن نبحث في حقيقة الإنسان والروح مما لخصه العلماء جزاهم اللّه عنا خيرا، ونأخذ أصح الأقوال في ذلك ونترك ما وقع من الأخذ والرّد فيها، وهذا البحث الأول في حقيقة الإنسان.
اعلم وفقك اللّه أن الروح في الجسم الإنساني وغيره عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك، مختلف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، سار فيه سريان الماء في الورد، والدهن بالزيتون والسمسم، والزبد في اللبن، والدهن في الجواز واللوز والبطم وما أشبهها، والهواء في البدن والنار في الفحم، وسريان نور الشمس على مطلق الأضواء، لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق، مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا يقبل الفيض الإلهي لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة.