فصل: مطلب آيات القرآن عامة مطلقة ونزولها بأشخاص لا يقيدها ولا يمنع شمولها غيرهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب آيات القرآن عامة مطلقة ونزولها بأشخاص لا يقيدها ولا يمنع شمولها غيرهم:

وقد خص بعض المفسرين هذه الآية بالمقترحين المار ذكرهم وهذا أيضا يقيدها فيهم دون نص بالتقييد أو التخصيص، وليس بشيء وما هؤلاء الذين يريدون حصر معاني القرآن بأناس مخصوصين، واللّه تعالى أنزله عاما لكل البشر ونزوله في أناس لا يقيد عمومه ولا يخصص إطلاقه بل يبقى على عمومه أبدا شاملا للكل، لذلك فسرناها كغيرها على أنها عامة مطلقة، يدخل فيها المقترحون وغيرهم وهو أولى كما ترى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} من قبل نزول القرآن وهم قراء الكتب القديمة كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف الذين عرفوا حقيقة الوحي وامارات النبوة وماهية الحق والباطل والتمييز بينها {إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ} هذا القرآن وسمعوه {يَخِرُّونَ} يسقطون حالا {لِلْأَذْقانِ} على وجوههم لأن الأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين، ويطلق على ما ينبت عليها من الشعر، وكذلك يطلق على الوجه من إطلاق الجزء وإرادة الكل فيرمون بأنفسهم على الأرض {سُجَّدًا} 107 تعظيما لأمر اللّه تعالى وشكرا لأنعامه عليهم بإنزاله وبعثة الرسل لإرشادهم وذلك لأن خوف اللّه تعالى مستول على قلوبهم، لهذا عند ما يسمعون ذكره يطرحون أنفسهم على الأرض خضوعا لعظمته وخشوعا لهيبته.
وإنما لم يقل يسجدون لشدة مسارعتهم حتى كأنهم يسقطون سقوطا على الأرض {وَيَقُولُونَ} في سجودهم هذا {سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا} الذي وعد به خلقه على لسان رسله في الكتب القديمة المؤيدة بهذا القرآن {لَمَفْعُولًا} 108 كائنا واقعا لا محالة، وأنهم يقولون هذا في حالة السجود وغيرها لتعلق قلوبهم بربهم، ومن جملة وعده في الكتب القديمة إرسال محمد صلّى اللّه عليه وسلم وإنزال هذا القرآن عليه، وقد اختلف المفسرون بالمراد في هذه الآية فمنهم من قال إن المراد بها ورقة بن نوفل على أن ورقة لم يحضر إنزال هذه السورة لأنه توفي قبلها بكثير، ومنهم من قال عبد اللّه بن سلام، وهذا لم يسلم بعد حتى الآن، ومنهم من قال إنهم جماعة من أهل الكتاب، لان الوعد ببعثة محمد صلّى اللّه عليه وسلم مدون في كتبهم وقد كانوا بانتظاره وإنجاز هذا الوعد، فلما رأوا محمدا وسمعوا كتابه عرفوه أنه هو، فخروا سجودا للّه تعالى أن أراهم إياه، وهذان القولان لا يصحان أيضا، لان إسلام عبد اللّه وقع بالمدينة كما سيأتي في الآية 27 من سورة النساء في ج 3، ولان أهل الكتاب لم يخالطوا محمدا في مكة أبدا، هذا والمقصود من هذه الآية تقرير تحقير أولئك المقترحين والازدراء بشأنهم وعدم الاكتراث بهم وبإيمانهم وامتناعهم منه، وإنهم إذا لم يؤمنوا فقد آمن به من هو خير منهم، قال تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ} للرءوس ولم تتكرر هذه الكلمة في القرآن إلا في هذه السورة وفي الآية 8 من سورة يس المارة، أي يرمون رءوسهم حالة كونهم {يَبْكُونَ} من خشية اللّه تعالى خضوعا لجلاله {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} 109 لربهم وانقيادا لحضرته الكريمة ولا تكرار في هذه الآية، لان الأولى لتعظيم أمر اللّه وشكره لانجاز وعده والثانية لما أثر فيهم من مواعظ القرآن العظيم مما يلين القلب ويرعب الجوارح ويرطب العين ويرعد الأعضاء ويرجف الفؤاد ويرققه، بدليل بكائهم عند سماعه فالسبب مختلف فيها ويدخل في معنى الخرور قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يترك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه».
ولا يمكن من وضعها قبل ركبتيه إلا بهذه الصورة تأمل، وهؤلاء العلماء الممدوحون هم ما ذكرنا آنفا جماعة من مؤمني أهل الكتاب كانوا يتطلبون ويترقبون بعثة الرسول قيل منهم زيد بن عمرو بن نفيل وأبو ذر، وعد بعضهم سلمان الفارسي والنجاشي واتباعه من اليهود والنصارى، والقول الأحسن إنهم طائفة من أهل الكتابين كانوا قبل البعثة عند ما يسمعون وصف الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم يقع منهم ما يقع رضي اللّه عنهم، وجاءت هذه الآية على طريق ضرب المثل على جهة التقريع أي أن أهل التوراة والإنجيل عند سماع ما يتلى عليهم من كتبهم من وصف حضرة الرسول كانوا يبكون ويودون أنهم يدركونه ليؤمنوا به، وأنتم حينما تسمعون كلام اللّه الذي أنزله عليه لا يندى لكم جبين ولا تستفز جوارحكم، بل تهزأون به وتسخرون، وهو إنّما أرسل رحمة لكم، وأحسن الأقوال أولها وهو ما بين في الآية المفسرة، روي عن أبي هريرة أنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية اللّه حتى يعود اللبن في الضرع، ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل اللّه ودخان جهنم» أخرجه الترمذي والنسائي وزاد: «في منخري مسلم أبدا» وأخرج الترمذي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية اللّه وعين باتت تحرس في سبيل اللّه».
وأخرج أيضا عن النضر ابن سعد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «لو أن عبدا بكى في أمته لأنجى اللّه تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد، وما من عمل إلا وله وزن وثواب إلا الدمعة فإنها تطفئ بحورا من النار، وما اغرورقت عين بمائها من خشية اللّه تعالى إلا حرم اللّه تعالى جسدها على النار، فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة».
وينبغي أن تكون هذه الحالة في العلماء أكثر من غيرهم، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عبد الأعلى التيمي أنه قال من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه.
لأن اللّه تعالى نعت أهل العلم فقال: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ} الآيتين المارتين، وقال تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} الآية 38 من سورة فاطر المارة وقدمنا فيها ما يتعلق في هذا البحث ما به كفاية، ومن الفقه الأخذ بما قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما:
إذا كثر الطعام فحذروني ** فإن القلب يفسده الطعام

إذا كثر المنام فنبّهوني ** فإن العمر ينقصه المنام

إذا كثر الكلام فسكتوني ** فإن الدين يهدمه الكلام

إذا كثر المشيب فحركوني ** فإن الشيب يتبعه الحمام

ولما سمع أبو جهل عليه اللعنة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول في دعائه يا اللّه يا رحمن، قال لقومه إن هذا ينهانا عن تعدد لآلهة وهو يدعو إلهين أنزل الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} أيها الناس فإنكم {أَيًّا ما تَدْعُوا} من أسماء اللّه تعالى فادعوه بها {فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} المشتملة على معاني التقديس كالخالقية والرحمانية والمالكية والعالمية وقد مرّ بيانها في الآية 8 من سورة طه المارة فراجعها.
وما قيل إن اليهود قالوا لحضرة الرسول إنك تقل من ذكر الرحمن وقد ملئت التوراة من ذكره، فنزلت لا يصح، لأن الآية مكيّة بالاتفاق ولا يهود لهم صلة مع حضرة الرسول في مكة {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها} بحيث لا تسمع نفسك أو تسمع من هو خارج المسجد {وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ} الجهر الزائد والمخافتة الكلية {سَبِيلًا} 110 حالا وسطا بحيث تسمع نفسك إذا كنت منفردا ومن بجوارك إذا كنت إماما.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مختفيا بمكة أي مخف عبادته فيها أو أنه كان وأصحابه إذ ذاك يخفون صلاتهم خوفا من تعدي الكفار عليهم، وكان إذا خلا بأصحابه رفع صوته، فإذا سمعه المشركون يسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال تبارك وتعالى لنبيه: {ولا تجهر}.
هذا: ولهذا البحث صلة في الآية 108 من سورة الأنعام في ج 2 فراجعه، ورويا عن عائشة أنها نزلت في الدعاء، وأخرج الترمذي وابن قتادة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لأبي بكر: «مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت تخفض من صوتك، فقال إني أسمعت من ناجيته فقال إرفع قليلا» وقال لعمر: «مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت ترفع صوتك فقال إني أوقظ الوسنان فقال اخفض قليلا».
فهذا على فرض صحته لا يصح أن يكون سببا للنزول لأن الآية صريحة في الصلاة، وعلى كل الجهر بالدعاء والصلاة زيادة على الحاجة وهي اسماع من وراءه إذا كان إماما مذموم والمخافتة بحيث لا يسمع نفسه مذمومة أيضا، والمستحب الوسط في ذلك.
قال ابن مسعود من أسمع أذنيه لم يخافت والجهر بأن يسمع من هم وراءه في الصلاة، أو إمامه في الدعاء فقط، والعدل رعاية الوسط قال صلّى اللّه عليه وسلم خير الأمور أوساطها.
وقال تعالى: {جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} راجع الآية 143 من سورة البقرة في ج 3، والآية المارة 29 من هذه السورة، والآية 67 من الفرقان المارة.
وما قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} الآية 154 من الأعراف المارة بعيد عن الصحة لأن الأعراف نزلت قبل الإسراء، والمقدم لا ينسح المؤخر قولا واحدا، لا خلاف ولا معارضة فيه، ورحم اللّه علماء الناسخ والمنسوخ ما اغلاهم وأحرصهم على القول به لمجرد بادرة.
فلا حول ولا قوة إلا باللّه القائل: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} كما زعم بعض كفرة قريش وهم بنو مليح إذ يقولون إن الملائكة بنات اللّه، وكما زعم اليهود بأن عزيرا ابن اللّه، وكما افترى النصارى بأن المسيح ابن اللّه، وكلهم كاذبون أفاكون لأنه جل شأنه لم يتخذ ولدا {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} من الناس والملائكة والجن والأوثان، وهذا إبطال لقول كل من يزعم أن للّه شريكا تعالى اللّه عن ذلك {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} فيحتاج إلى من ينصره ويتعزز به لأنه لم يذل قط تعالى عن ذلك ولم يوال أحدا من أجل المذلة من الغير أو المنفعة لنفسه المقدسة، فنزهه عن ذلك كله وعظمه {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} 111 يليق بذاته العلية وبرأه عن جميع سمات خلقه وأعمالهم وعما يقول الكافرون وأهل الكتابين من اتخاذ الولد والصاحبة والشريك والمعين والولي، ونزه تنزيها كثيرا.
وهذه الآية تسمى آية العز كما جاء في الحديث الصحيح، وإن من داوم عليها كان عزيزا محترما، ولهذا كان صلّى اللّه عليه وسلم يعلمها لكل غلام أفصح من بني عبد المطلب، فعلى الموفق أن يداوم عليها ليل نهار ليوقع اللّه في قلوب خلقه مهابته واحترامه ويضاعف له الأجر بتلاوتها.
أخرج مسلم عن سمرة بن جندب قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أحب الكلام إلى اللّه أربع: لا إله إلا اللّه واللّه أكبر وسبحان اللّه والحمد للّه لا يضرك بأيهن بدأت.
وعن ابن عباس قال: قال صلّى اللّه عليه وسلم أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون اللّه في السراء والضراء.
عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الحمد للّه رأس الشكر ما شكر اللّه عبد لا يحمده.
وأخرج أبو يعلى وابن السّني عن أبي هريرة قال: خرجت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ويدي في يده فأتى على رجل رثّ الهيئة فقال: «أي فلان ما بلغ بك ما أرى؟ قال السقم والضر قال صلّى اللّه عليه وسلم ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر؟ قال بلى، قال قل توكلت على الحي الذي لا يموت، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} إلخ الآية، فأتى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعد مدة وقد حسنت حالته فقال مهيم أي مم أصابك هذا، فقال لم زل أقول الكلمات التي علمتني».
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج والبيهقي في الأسماء والصفات عن إسماعيل بن أبي فديك قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «ما كربني أمر إلا مثل لي جبريل عليه السلام، فقال يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت و{الْحَمْدُ لِلَّهِ} الآية».
وأخرج ابن أنس والديلمي عن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لها: «إذا أخذت مضجعك فقولي الحمد للّه الكافي، سبحان اللّه الأعلى، حسبي اللّه وكفى، ما شاء اللّه قضى، سمع اللّه لمن دعا، ليس من اللّه ملجأ ولا وراءه ملتجى، توكلت على اللّه ربي وربكم، {ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الآية ثم قال ما من مسلم يقرأوها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فنضره».
هذا، ولا يوجد سورة محتومة بمثل ما ختمت به هذه السورة، واللّه أعلم، وأستغفر اللّه، ولا ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا، والحمد للّه رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده بمعونة اللّه تعالى وتوفيقه. اهـ