فصل: فصل في ذكر آيات الأحكام في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



732- الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ:
رُوِيَ أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ يخْفض صَوته بِالْقُرْآنِ فِي صلَاته وَيَقُول أُنَاجِي رَبِّي وَقد علم حَاجَتي وَكَانَ عمر يرفع صَوته وَيَقُول أزْجر الشَّيْطَان وَأُوقِظ الْوَسْنَان فَأمر أَبَا بكر أَن يرفع قَلِيلا وَأمر عمر أَن يخْفض قَلِيلا قلت رُوِيَ من حَدِيث أبي قَتَادَة وَمن حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَمن حَدِيث عَلّي، وَأما حَدِيث أبي قَتَادَة فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ فِي التَّهَجُّد من حَدِيث ابْن إِسْحَاق السيلَحِينِي أَخْبرنِي حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت الْبنانِيّ عَن عبد الله بن رَبَاح عَن أبي قَتَادَة أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج لَيْلَة فَإِذا هُوَ بِأبي بكر يُصَلِّي يخْفض من صَوته وَمر بعمر بن الْخطاب وَهُوَ يُصَلِّي رَافعا صَوته قَالَ فَلَمَّا اجْتمعَا عِنْد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أَبَا بكر مَرَرْت بك وَأَنت تصلي خَافِضًا صَوْتك» قَالَ قَالَ: قد أسمعت من نَاجَيْت يَا رَسُول الله وَقَالَ لعمر بن الْخطاب: «مَرَرْت بك وَأَنت تصلي رَافعا صَوْتك» قَالَ يَا رَسُول الله: أُوقِظ الْوَسْنَان وَأطْرد الشَّيْطَان.
انْتَهَى بِلَفْظ أبي دَاوُد وَزَاد فِي رِوَايَة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا بكر ارْفَعْ من صَوْتك شَيْئا وَقَالَ لعمر: «اخْفِضْ من صَوْتك شَيْئا» انْتَهَى.
وَلَفظ التِّرْمِذِيّ عَن أبي قَتَادَة أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأبي بكر «مَرَرْت بك وَأَنت تقْرَأ تخْفض من صَوْتك» فَقَالَ: إِنِّي أسمعت من نَاجَيْت فَقَالَ: «ارْفَعْ قَلِيلا» وَقَالَ لعمر: «مَرَرْت بك وَأَنت تقْرَأ ترفع صَوْتك» قَالَ: إِنِّي أُوقِظ الْوَسْنَان وَأطْرد الشَّيْطَان قَالَ: «اخْفِضْ قَلِيلا». انْتَهَى.
وَقَالَ: حَدِيث غَرِيب صَحِيح وَإِنَّمَا أسْندهُ يَحْيَى بن إِسْحَاق السيلَحِينِي عَن حَمَّاد بن سَلمَة وَأكْثر النَّاس رَوَوْهُ هَكَذَا عَن عبد الله بن رَبَاح مُرْسلا انْتَهَى.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي علله: سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ يَحْيَى بن إِسْحَاق السيلَحِينِي عَن حَمَّاد عَن ثَابت عَن عبد الله بن رَبَاح عَن أبي قَتَادَة أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعشَاء فَقَامَ أَبُو بكر فَقَرَأَ.. إِلَى آخِره فَقَالَ أبي أَخطَأ فِيهِ السيلَحِينِي وَالصَّحِيح عَن عبد الله بن رَبَاح أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسلا انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه فِي النَّوْع الأول من الْقسم الْخَامِس حَدثنَا ابْن خُزَيْمَة أَنا أَبُو يَحْيَى مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم حَدثنَا يَحْيَى بن إِسْحَاق السيلَحِينِي وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه كَذَلِك وَقَالَ صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْقِصَّة لم يقل فِيهِ لأبي بكر ارْفَعْ شَيْئا وَلَا لعمر اخْفِضْ شَيْئا زَاد «وَقد سَمِعتك يَا بِلَال وَأَنت تقْرَأ من هَذِه السُّورَة وَمن هَذِه السُّور وَقَالَ كلكُمْ أصَاب». انْتَهَى.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان عَن الْحَاكِم بِسَنَدِهِ إِلَى مُحَمَّد بن عَمْرو بِهِ وَلم يذكر فِيهِ قصَّة بِلَال.
وَأما حَدِيث عَلّي فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب أَيْضا فَقَالَ أخبرنَا عَلّي بن أَحْمد ابْن عَبْدَانِ أَنا أَحْمد بن عبيد الصفار حَدثنَا عَبَّاس بن الْفضل حَدثنَا منْجَاب حَدثنَا ابْن أبي زَائِدَة يَحْيَى بن زَكَرِيَّا عَن أَبِيه عَن أبي إِسْحَاق عَن هَانِئ بن هَانِئ عَن عَلّي قَالَ كَانَ أَبُو بكر يُخَافت من صَوته إِذا قَرَأَ وَكَانَ عمر يجْهر بقرَاءَته فَذكر ذَلِك للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لأبي بكر: «لم تخَافت قَالَ إِنِّي اسْمَع من أُنَاجِي وَقَالَ لعمر لم تجْهر؟ قَالَ أطْرد الشَّيْطَان وَأُوقِظ الْوَسْنَان قَالَ فَكل طيب» انْتَهَى.
وَرَوَى الطَّبَرِيّ هَذَا الحَدِيث فِي تَفْسِيره عَن مُحَمَّد بن سِيرِين قَالَ نبئت أَن أَبَا بكر.. فَذكره مُرْسلا وَفِيه فَقَالَ أُنَاجِي رَبِّي وَقد علم حَاجَتي.. الحَدِيث لم أجد هَذِه اللَّفْظَة إِلَّا عِنْده.
733- الحَدِيث الْأَرْبَعُونَ:
كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا أفْصح الْغُلَام من بني عبد الْمطلب علمه هَذِه الْآيَة: {وَقل الْحَمد لله الَّذِي لم يتَّخذ ولدا..} إِلَى آخرهَا.
قلت رَوَاهُ ابْن السّني فِي كِتَابه عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله ابْن زَيْدَانَ البَجلِيّ حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الْكَرِيم بن أبي أُميَّة عَن عَمْرو ابْن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا أفْصح الْغُلَام.. إِلَى آخِره وَمن طَرِيق ابْن السّني رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَعبد الرَّزَّاق فِي مصنفيهما حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الْكَرِيم بن أبي أُميَّة عَن عَمْرو بن شُعَيْب قَالَ كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فذكره معضلا لَيْسَ فِيهِ عَن أَبِيه عَن جده.
734- الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ:
عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «من قَرَأَ سُورَة بني إسرائيل فرق قلبه عِنْد ذكر الْوَالِدين كَانَ لَهُ قِنْطَار فِي الْجنَّة وَالْقِنْطَار ألف أُوقِيَّة وَمِائَتَا أُوقِيَّة».
قلت رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ من حَدِيث ابْن عَمْرو مُحَمَّد بن جَعْفَر بن مُحَمَّد الشُّرُوطِي حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن شريك بن الْفضل الْكُوفِي حَدثنَا أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس اليرعوبي حَدثنَا سَلام بن سليم حَدثنَا هَارُون بن كثير عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه عَن أبي أُمَامَة عَن أبي بن كَعْب قَالَ قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فذكره وَلم يقل فِيهِ وَمِائَتَا أُوقِيَّة وَإِنَّمَا قَالَ وَالْقِنْطَار ألف أُوقِيَّة الْأُوقِيَّة مِنْهَا خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا انْتَهَى.
رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره بِسَنَدِهِ الأول فِي آل عمرَان بِلَفْظ المُصَنّف وَبِسَنَدِهِ الثَّانِي بِلَفْظ الثَّعْلَبِيّ وَرَوَاهُ الواحدي فِي تَفْسِيره الْوَسِيط بِسَنَد الثَّعْلَبِيّ الْمَذْكُور. اهـ.

.فصل في ذكر آيات الأحكام في السورة الكريمة:

.قال إلكيا هراسي:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم.
سورة الإسراء:
قوله عز وجل: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، الآية 15.
يدل على صحة قول أهل الحق في أنه لا تكليف قبل السمع، وأنه لا وجوب قبل إرسال الرسل، ولا يقبح ولا يحسن بالعقل، خلافا لمن عدا أهل الحق، في كون العقل طريقا إلى معرفة وجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإباحة المباحات، ثم الأكثرون منهم على أنه يجوز أن يقتصر ببعض المكلفين على دليل العقل دون السمع، إذا كانت مصلحته فيما دل عليه العقل، وأنه يقع في علم اللّه أنه ينهض بما كلفه دليل العقل، والغرض بالشرائع المصلحة، وإذا كان المعلوم من حال بعضهم نهوضه بالتكاليف العقلية تلقيا من دليل العقل، لم يكن لإرسال الرسل إليهم فائدة، وإنما يرسل اللّه تعالى عندهم الرسول إلى من وقع في المعلوم أن تمسك المتمسك بالشريعة داعي إلى المصلحة في التكاليف العقلية، فيرسل الرسول إليه بأمور سمعية يعلم اللّه تعالى كونها داعية إلى المستحسنات العقلية، ويحرم عليه من السمعيات ما يعلم كونه داعيا إلى المستقبحات العقلية.
فإذا لم يقع في المعلوم كون فعل من الأفعال داعيا إلى الواجب العقلي، ولا ناهيا عن القبيح العقلي، لم يكن للإرسال فائدة، وليس يجب أن يعلم اللّه تعالى ذلك من أحوال المكلفين جملة، وربما علم من أحوال بعضهم، فيجب إرسال الرسول إليه، وربما لا يعلم ذلك، فلا يجب إرسال الرسول إليه.
وفيهم من يقول: يجب على اللّه تعالى إرسال الرسل، لأن ذلك أقرب إلى مظاهرة الحجة وأقوى في معنى اللطف.
وهذا الإخفاء ببطلانه، إذ يلزم منه إبقاء الرسول أبدا أو توالي الرسل، لأن ذلك أقرب إلى اللطف، ولا شك أن إبقاء إبليس في الدنيا مع أعوانه أبعد عن اللطف من توالي الرسل، ومظاهرة الحجة بهم.
وربما قالوا: العبد لا يعرى من مصالح في دينه لا يعلمها إلا بالسمع، كما لا يعرى عن مصالح في الدنيا لا تعلم إلا بالخبر وهذا تحكم، ومن أين وجد ذلك؟ وإذا ثبت أن الأصح من قول المعتزلة المذهب الأول، فقال للمعتزلة: فما معنى قوله تعالى: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وعندكم يجوز في المعلوم أن ينهض العبد بالمصالح العقلية، من غير افتقار إلى أفعال تكون لطفا في تلك المصالح وتعلم بالسمع، وقد قال تعالى: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، وعندكم في تلك الحال يجب أن لا يبعث رسولا ويعذب دون الرسول، فتقدير الكلام: وما كنا نفعل ما يجب علينا فعله، دون أن نبعث رسولا لا يجوز لنا بعثه في بعض الأحوال.
وهم اختلفوا في الجواب عن الآية، فقال قائلون: المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا، كقوله: {وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا}.
وهذا بعيد، فإن عذاب الاستئصال على حسب ما يقع في المعلوم كونه مصلحة، وإن كان الاستئصال مصلحة دون ابتعاث الرسل، وجب عندهم ذلك، فإن عذاب الاستئصال إنما استحقه من استحقه لمخالفة التكاليف، فإذا حصلت المخالفة قبل الرسل، فأي معنى لترك ذلك؟ وإن لم يكونوا مستحقين، فلا استئصال، لا بعد الرسل ولا قبلهم، وهذا بين حسن.
وأجابوا من وجه آخر فقالوا: وما كنا معذبين فيما طريقه السمع، حتى نبعث رسولا، فأما ما كان طريقه العقل فلا، وهذا بعيد، فإن التكاليف إذا كانت منقسمة، وأقوى القسمين التكاليف العقلية، والسمعية مبنية عليها، لكونها داعية إليها ولطفا بها، فلا يجوز أن يقول: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.
وعندهم أنه يجب العذاب على ترك التكاليف العقلية، فتقدير الكلام: وما كنا نفعل ما يجب علينا فعله حتى نبعث رسولا، ولا شك أن ذلك من اللّه تعالى إبانة عن وجه العدل في أفعاله، أو القهر وإنفاذ المشيئة، وذلك عندهم على إطلاق قبيح، وهو على أصلهم مثل قول القائل: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا، ويعني بذلك بعض السمعيات دون بعض، مع أن ذلك وغيره بمثابة.
واستدل به المعتزلة على رد قول بعض أصحابنا في أن اللّه سبحانه لا يعذب أطفال المشركين، لأنه إذا كان لا يعذب قبل إرسال الرسل، فهؤلاء الأطفال لم يعلموا الرسل ولا لهم مكنة في معرفتهم، فكيف يعذبون بذنوب آبائهم؟ وهذا من المحتج به جهل، وذلك أن اللّه تعالى إنما عنى بقوله: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، من يجوز إنفاذ الرسل إليهم، فيعذب على ترك ما كلف، فأما الأطفال فلا يعذبون عندنا على ترك ما كلفوا، وإنما جعل اللّه تعالى ذلك العذاب حكما منه نافذا، وقضاء ماضيا، كما يؤلم الأطفال والبهائم في الدنيا، فسقط ما قالوه جملة.
واستدل قوم بهذا في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام فآمنوا، فلا تكليف عليهم فيما مضى، وهذا صحيح، ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق العذاب من جهة العقل عندنا، وهو مضمون على قائله عندنا.
ولأبي حنيفة في ذلك خلاف، وله مأخذ فيه يستقيم على نظر الفقهاء من غير استمداد من أقوال المعتزلة، حتى لا يتوهم متوهم أن أبا حنيفة بنى تلك المسألة على أصول المعتزلة، فإنه بعيد منها، وذكرنا ذلك المأخذ في مسائل الخلاف في الكتاب الذي أفردناه للروايا.
ثم أبان اللّه تعالى أنه إن لم يهلك القرى قبل انبعاث الرسل، فليس لأنه يقبح ذلك منه إن فعل، ولكنه وعيد منه ولا خلف في وعده، فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده، كان على ما قاله تعالى: {أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا} ليعلم أن من هلك إنما هلك بإرادته، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها، ليحق القول السابق من اللّه تعالى:
قوله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}- إلى قوله: {فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} الآية/ 18، 19.
فيه دلالة على أمور، منها أن من يريد بما يتكلفه من الطاعات أحوال الدنيا، أو يريد تحصيل العاجلة بغير الطاعة فهو متوعد، مثل أن يتزهد مراءاة للناس، أو لاعتمادهم على أقواله وائتمانهم له على أموالهم، فهو متوعد بالنار، وأن من يريد اللّه تعالى بمساعيه فله الثواب بحكم وعد اللّه تعالى.
قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا}، الآية 23.
قرن ذكر الوالدين بعبادة اللّه سبحانه، فنبه به على عظيم إنعام اللّه تعالى المقتضي للشكر، ونبه بعد ذلك على عظيم نعم الوالدين، وبين إختلاف الوالدين، ليكون بره بهما وإحسانه إليهما على قدر حاجاتهما فقال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما}، فخص هذه الحالة بالذكر، وهي حالة حاجتهما إلى بره لتغيير الحال عليهما بالضعف النازل والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزم من قبل، لأنهما قد صارا في هذه الحالة كلا عليه، فيحتاجان إلى أن يلي من أمرهما للضعف النازل منهما، ما كان يحتاجه هو في صغره أن يليان منه، فذلك معنى تخصيص هذه الحالة بالذكر، ليبين ما يلزم من مزيد البر والتعاهد، وما يتصل بخدمة وإنفاق.
ودل قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ} على وجوب صبره عليهما حتى لا يتبرم ولا يضجر، فإن العادة جارية في المتضجر عند الأمر أن يقول أف أو تف في الأمور، فبين اللّه سبحانه تحريم هذا القدر من التبرم على الولد عند ضعف الوالدين وحاجتهما إلى بره، ولم يقتصر تعالى على هذا القدر في بيان حقهما حتى قال: {وَلا تَنْهَرْهُما}، مؤكدا لما تقدم ودالا به على أن الواجب في بره لهما سلوك طريقة اللين في القول: ثم قال: {وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا}، والكريم من القول ما يوافق مسرة النفس، ولا ينفر عنه الطبع.
ثم أمر بمزيد التواضع فقال: {وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، وهذا الكلام في أعلى مراتب الفصاحة والتعبير عن المقصود بلفظ المجاز، لأن الذل ليس له جناح، ولا يوصف بذلك، ولكنه أراد المبالغة في التذلل والتواضع، وهو كقول امرئ القيس في وصف الليل:
فقلت له لما تمطى بصلبه ** وأردف أعجازا وناء بكلكل

يصف الليل المتقدم على هذا البيت في قوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ** عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

وليس لليل صلب ولا إعجاز ولا كلكل فهو مجاز، وأراد به تكامله واستواءه.
ثم بين اللّه تعالى أن الذي يلزمه لهما ليس مقصورا على منافع الدنيا، بل يلزمه مع ذلك ما يمكن في باب الآخرة من الدعاء، لأنه لا يقدر منهما على ما سواه، فقال: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا}.
بين العلة في لزوم الدعاء لهما، وبين أنه يلزم الولد من الدعاء للوالدين، أكثر مما يلزمه في غيرهما.
قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ}، الآية/ 26.
أبان اللّه تعالى أن على كل واحد منا مراعاة مراتب مستحقي الحقوق، فبدأ بحق اللّه تعالى فقال: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} وقرنه بذكر الوالدين، وعقب ذلك بقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ}، وظاهر العطف أنه قريب الإنسان.
وقد قيل: عنى به قرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
والأمر بالإحسان إلى الوالدين عام في جميع الناس، وكذلك ما عطف عليه من إيتاء ذي القربى.
قوله تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} والتبذير عند الشافعي إنفاق المال في غير حقه، فلا تبذير في عمل الخير.
وقال مجاهد: لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا.
وقد ثبت في سورة البقرة الحجر على المبذر، وما يتعلق به من الأحكام.
ثم أبان اللّه تعالى تحريم التبذير بقوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ}، الآية/ 27.
ثم قال تعالى في تخصيص نبيه صلّى اللّه عليه وسلم: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}، الآية 28.
وهو تأديب عجيب، وقول لطيف بديع، فإنه تعالى قال: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها}: أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنا والقدرة فتحرمهم، وإنما يجوز له أن يعرض عنهم عند عجز يعرض، وعند عائق يعرض، وأنت عند ذلك ترجو من اللّه فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل، فإن قعد بك الحال عن المواساة {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}، يعمل في مسرة نفسه عمل المواساة فتقول: اللّه يرزق، واللّه يفتح بالخير.