فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد اعتُرض قول عائشة ومعاوية: «إنما أسرى بنَفْس رسول الله صلى الله عليه وسلم» بأنها كانت صغيرة لم تشاهِد، ولا حدّثت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأما معاوية فكان كافرًا في ذلك الوقت غير مشاهد للحال، ولم يحدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن أراد الزيادة على ما ذكرنا فليقف على كتاب الشفاء للقاضي عياض يجد من ذلك الشفاء، وقد احتجّ لعائشة بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} [الإسراء: 60]. فسماها رؤيا.
وهذا يردّه قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} ولا يقال في النوم أسرى.
وأيضًا فقد يقال لرؤية العين: رؤيا، على ما يأتي بيانه في هذه السورة.
وفي نصوص الأخبار الثابتة دلالةٌ واضحة على أن الإسراء كان بالبدن، وإذا ورد الخبر بشيء هو مجوّز في العقل في قدرة الله تعالى فلا طريق إلى الإنكار، لا سيما في زمن خرق العوائد، وقد كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم معارجُ؛ فلا يبعد أن يكون البعض بالرؤيا، وعليه يحمل قوله عليه السلام في الصحيح: «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان» الحديث، ويحتمل أن يردّ من الإسراء إلى نوم، والله أعلم.
المسألة الثانية
في تاريخ الإسراء، وقد اختلف العلماء في ذلك أيضًا، واختُلف في ذلك على ابن شهاب؛ فروى عنه موسى بن عقبة أنه أسِرَي به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة.
وروى عنه يونس عن عروة عن عائشة قالت: تُوفِّيت خديجة قبل أن تُفرض الصلاة.
قال ابن شهاب: وذلك بعد مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبعة أعوام.
وروى عنه الوَقّاصيّ قال: أسْرِيَ به بعد مبعثه بخمس سنين.
قال ابن شهاب: وفُرض الصيام بالمدينة قبل بدر، وفرضت الزكاة والحج بالمدينة، وحُرمت الخمر بعد أُحُد.
وقال ابن إسحاق: أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس، وقد فشا الإسلام بمكة في القبائل.
وروى عنه يونس بن بكير قال: صلّت خديجة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسيأتي.
قال أبو عمر: وهذا يدلك على أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام؛ لأن خديجة قد توفيت قبل الهجرة بخمس سنين وقيل بثلاث وقيل بأربع.
وقول ابن إسحاق مخالف لقول ابن شهاب، على أن ابن شهاب قد اختلف عنه كما تقدّم.
وقال الحَرْبِيّ: أسري به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخرة قبل الهجرة بسنة.
وقال أبو بكر محمد بن عليّ بن القاسم الذهبي في تاريخه: أسري به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرًا.
قال أبو عمر: لا أعلم أحدًا من أهل السير قال ما حكاه الذهبي، ولم يُسْنِد قوله إلى أحد ممن يضاف إليه هذا العلم منهم، ولا رفعه إلى من يحتج به عليهم.
المسألة الثالثة:
وأما فرض الصلاة وهيئتها حين فرضت، فلا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السِّيَر أن الصلاة إنما فرضت بمكة ليلة الإسراء حين عُرج به إلى السماء، وذلك منصوص في الصحيح وغيره.
وإنما اختلفوا في هيئتها حين فرضت؛ فروي عن عائشة رضي الله عنها أنها فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعًا، وأَقرّتِ صلاة السفر على ركعتين.
وبذلك قال الشَّعْبِيّ وميمون بن مِهْران ومحمد بن إسحاق.
قال الشعبيّ: إلا المغرب.
قال يونس بن بكير: وقال ابن إسحاق ثم إن جبريل عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم حين فرضت عليه الصلاة يعني في الإسراء فهمز له بعقِبه في ناحية الوادي فانفجرت عين ماء فتوضأ جبريل ومحمد ينظر عليهما السلام فوَضّأ وجهه واستنشق وتمضمض ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه، ثم قام يصلي ركعتين بأربع سجدات، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من أمر الله تعالى، فأخذ بيد خديجة ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سواء.
وروي عن ابن عباس أنها فرضت في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين.
وكذلك قال نافع بن جبير والحسن بن أبي الحسن البصري، وهو قول ابن جريج، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يوافق ذلك.
ولم يختلفوا في أن جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الإسراء عند الزوال، فعلّم النبيّ صلى الله عليه وسلم الصلاة ومواقيتها.
وروى يونس بن بكير عن سالم مولى أبي المهاجر قال سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أوّل الصلاة مثنى، ثم صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا فصارت سُنّة، وأُقِرّت الصلاة للمسافر وهي تمام.
قال أبو عمر: وهذا إسناد لا يحتج بمثله، وقوله فصارت سُنّة قول منكر، وكذلك استثناء الشعبي المغرب وحدها ولم يذكر الصبح قولٌ لا معنى له.
وقد أجمع المسلمون أن فرض الصلاة في الحضر أربع إلا المغرب والصبح ولا يعرفون غير ذلك عملًا ونقلًا مستفيضًا، ولا يضرهم الاختلاف فيما كان أصل فرضها.
الخامسة: قد مضى الكلام في الأذان في المائدة والحمد لله.
ومضى في آل عمران أن أوّل مسجد وُضع في الأرض المسجدُ الحرام، ثم المسجد الأقصى.
وأن بينهما أربعين عامًا من حديث أبي ذَرّ، وبناء سليمان عليه السلام المسجد الأقصى ودعاؤه له من حديث عبد الله بن عمرو ووجه الجمع في ذلك؛ فتأمله هناك فلا معنى للإعادة.
ونذكر هنا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس». خرّجه مالك من حديث أبي هريرة.
وفيه ما يدل على فضل هذه المساجد الثلاثة على سائر المساجد؛ لهذا قال العلماء: من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة فلا يفعل، ويصلّي في مسجده، إلا في الثلاثة المساجد المذكورة فإنه من نذر صلاة فيها خرج إليها.
وقد قال مالك وجماعة من أهل العلم فيمن نذر رِباطًا في ثَغْر يسدّه: فإنه يلزمه الوفاء حيث كان الرباط لأنه طاعة لله عز وجل.
وقد زاد أبو البَخْتَرِيّ في هذا الحديث مسجد الجند، ولا يصح وهو موضوع، وقد تقدّم في مقدّمة الكتاب.
السادسة: قوله تعالى: {إلى المسجد الأقصى} سُمِّيَ الأقصَى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظَّم بالزيارة، ثم قال: {الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} قيل: بالثمار وبمجاري الأنهار.
وقيل: بمن دُفن حوله من الأنبياء والصالحين؛ وبهذا جعله مقدّسا.
وروى معاذ بن جبل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى يا شام أنت صفْوَتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي» أصله سام فَعُرِّبَ.
{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} هذا من باب تلوين الخطاب، والآيات التي أراه الله من العجائب التي أخبر بها الناس، وإسراؤه من مكة إلى المسجد الأقصى في ليلة وهو مسيرة شهر، وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحدًا واحدًا، حسبما ثبت في صحيح مسلم وغيره.
{إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} تقدّم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا}
سبب نزول {سبحان الذي أسرى بعبده} ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش الإسراء به وتكذبيهم له، فأنز الله ذلك تصديقًا له، وهذه السورة مكية قال صاحب الغنيان بإجماع وقيل: إلا آيتين {وإن كادوا ليفتنونك} {وإن كادوا ليستفزونك} وقيل: إلا أربع هاتان وقوله: {وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس} وقوله: {وقل رب أدخلني مدخل صدق}، وزاد مقاتل قوله تعالى: {إن الذين أوتوا العلم من قبله} الآية وقال قتادة إلا ثماني آيات أنزلت بالمدينة وهي من قوله: {وإن كادوا ليفتنونك} إلى آخرهن.
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما أمره بالصبر ونهاه عن الحزن عليهم وأن يضيق صدره من مكرهم، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والسعر وغير ذلك مما رموه به، أعقب تعالى ذلك بذكر شرفه وفضله واحتفائه به وعلو منزلته عنده، وتقدّم الكلام على سبحان في البقرة.
وزعم الزمخشري أنه علم للتسبيح كعثمان للرجل.
وقال ابن عطية: ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفًا انتهى.
ويعنيان والله أعلم أنه إذا لم يضف كقوله:
سبحان من علقمة الفاخر

وأما إذا أضيف فلو فرضنا أنه علم لنوي تنكيره ثم يضاف وصار إذ ذاك تعريفه بالإضافة لا بالعلمية.
و{أسرى} بمعنى سرى وليست الهمزة فيه للتعدية وعدّيا بالباء ولا يلزم من تعديته بالباء المشاركة في الفعل، بل المعنى جعله يسرى لأن السرى يدل على الانتقال كمشى وجرى وهو مستحيل على الله تعالى، فهو كقوله: {لذهب بسمعهم} أي لأذهب سمعهم، فأسرى وسرى على هذا كسقى وأسقى إذا كانا بمعنى واحد، ولذلك قال المفسرون معناه سرى بعبده.
وقال ابن عطية: ويظهر أن {أسرى} معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره أسرى الملائكة بعبده لأنه يقلق أن يسند أسرى وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث: «أتيته سعيًا وأتيته هرولة» حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث، و{أسرى} في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا يحتاج إلى تجوز قلق في مثل هذه اللفظة فإنه ألزم للنقلة من أتيته وأتى الله بنيانهم انتهى.
وإنما احتاج ابن عطية إلى هذه الدعوى اعتقاد أنه إذا كان أسرى بمعنى سرى لزم من كون الباء للتعدية مشاركة الفاعل للمفعول وهذا شيء ذهب إليه المبرد، فإذا قلت: قمت بزيد لزم منه قيامك وقيام زيد عنده وهذا ليس كذلك، التبست عنده باء التعدية بباء الحال، فباء الحال يلزم فيه المشاركة إذ المعنى قمت ملتبسًا بزيد وباء التعدية مرادفة للهمزة، فقمت بزيد والباء للتعدية كقولك أقمت زيدًا ولا يلزم من إقامتكه أن تقوم أنت.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون أسرى بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} يعني أن يكون التقدير لسرت ملائكته بعبده، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا مبني على اعتقاد أنه يلزم المشاركة والباء للتعدية وأيضًا فموارد القرآن في فأسر بقطع الهمزة ووصلها يقتضي أنهما بمعنى واحد، ألا ترى أن قوله: {فأسر بأهلك} {وان أسْرِ بعبادي} قرئ بالقطع والوصل، ويبعد مع القطع تقدير مفعول محذوف إذ لم يصرح به في موضع، فيستدل بالمصرح على المحذوف.
والظاهر أن هذا الإسراء كان بشخصه ولذلك كذبت قريش به وشنعت عليه، وحين قص ذلك على أم هانئ قالت: لا تحدث الناس بها فيكذبوك ولو كان منامًا استنكر ذلك وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الذي ينبغي أن يعتقد.
وحديث الإسراء مروي في المسانيد عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، وذكر أنه رواه عشرون من الصحابة.
قيل وما روي عن عائشة ومعاوية أنه كان منامًا فلعله لا يصح عنهما، ولو صح لم يكن في ذلك حجة لأنهما لم يشاهدا ذلك لصغر عائشة وكفر معاوية إذ ذاك، ولأنهما لم يسندا ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا حدّثا به عنه، وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها وقوله: {بعبده} هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقال أبو القاسم سليمان الأنصاري: لما وصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعارج أوحى الله إليه: يا محمد بمَ أشرِّفك؟ قال: يا رب بنسبتي إليك بالعبودية، فأنزل فيه {سبحان الذي أسرى بعبده} الآية انتهى.
وعنه قالوا: عبد الله ورسوله، وعنه إنما أنا عبد وهذه إضافة تشريف واختصاص.
وقال الشاعر:
لا تدعني إلا بيا عبدها ** لأنه أشرف أسمائي

وقال العلماء: لو كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة.
وانتصب {ليلًا} على الظرف، ومعلوم أن السُّرَى لا يكون في اللغة إلا بالليل، ولكنه ذكر على سبيل التوكيد.
وقيل: يعني في جوف الليل فلم يكن إدلاجًا ولا ادّلاجًا.
وقال الزمخشري: أراد بقوله: {ليلًا} بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة من الليل أي بعض الليل كقوله: {ومن الليل فتهجّدْ به} على الأمر بالقيام في بعض الليل انتهى.