فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أن الله تعالى لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد عليه الصلاة والسلام أراد من هاهنا أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم وجدهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه وهذا هو النوع الأول من هذا الباب. اهـ.

.اللغة:

{راعنا} من المراعاة وهي الإنظار والإمهال، وأصلها من الرعاية، وهي النظر في مصالح الإنسان، وقد حرفها اليهود فجعلوها كلمة مسبة، مشتقة من الرعونة وهي الحمق، ولذلك نهي عنها المؤمنون.
{انظرنا} من النظر أو الانتظار تقول: نظرت الرجل إذا انتظرته وارتقبته أي انتظرنا وتأن بنا {يود} يتمنى ويحب.
{ننسخ} النسخ في اللغة: الإبطال والإزالة يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته، وفي الشرع: رفع حكم شرعي وتبديله بحكم آخر.
{ننسها} من أنسى الشيء جعله منسيا فهو من النسيان الذي هو ضد الذكر أي نمحها من القلوب.
{ولي} الولي: من يتولى أمور الإنسان ومصالحه.
{نصير} النصير: المعين مأخوذ من قولهم نصره إذا أعانه.
{أم} بمعنى بل وهي تفيد الانتقال من جملة إلى جملة أخرى، كقوله تعالى: {أم يقولون افتراه} أي بل يقولون.
{يتبدل} يقال: بدل وتبدل واستبدل أي جعل شيئا موضع آخر، وتبدل الكفر بالإيمان، معناه: أخذ الكفر بدل الإيمان.
{سواء السبيل} أي وسط الطريق، والسواء من كل شيء: الوسط، والسبيل معناه الطريق.
{فاعفوا} العفو: ترك المؤاخذة على الذنب.
{واصفحوا} والصفح: ترك التأنيب عنه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} في ثمانية وثمانين موضعًا من القرآن.
قال ابن عباس: وكان يخاطب في التوراة بقوله: يا أيها المساكين فكأنه سبحانه وتعالى لما خاطبهم أولًا بالمساكين أثبت المسكنة لهم آخرًا حيث قال: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} [البقرة: 61]، وهذا يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أولًا فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب في النيران يوم القيامة، وأيضًا فاسم المؤمن أشرف الأسماء والصفات، فإذا كان يخاطبنا في الدنيا بأشرف الأسماء والصفات فنرجو من فضله أن يعاملنا في الآخرة بأحسن المعاملات. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} ذكر شيئًا آخر من جهالات اليهود؛ والمقصود نهي المسلمين عن مثل ذلك.
وحقيقةُ {رَاعِنَا} في اللغة أَرْعِنَا ولْنَرْعَك؛ لأن المفاعلة من اثنين؛ فتكون من رعاك الله، أي احفظنا ولنحفظك، وارقبنا ولنرقبك.
ويجوز أن يكون من أرعنا سمعك؛ أي فرّغ سمعك لكلامنا.
وفي المخاطبة بهذا جفاء؛ فأمر المؤمنين أن يتخيّروا من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أرقّها.
قال ابن عباس: كان المسلمون يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم: راعنا.
على جهة الطلب والرّغبة من المراعاة أي التفت إلينا؛ وكان هذا بلسان اليهود سَبًّا، أي اسمع لا سمِعتَ؛ فاغتنموها وقالوا: كنا نَسُبّه سِرًا فالآن نَسُبّه جهرًا؛ فكانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم؛ فقال لليهود: عليكم لعنة الله! لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأضربنّ عنقه؛ فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية، ونُهُوا عنها لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ راعنا} الرعي حفظ الغير لمصلحته سواء كان الغير عاقلًا أو لا، وسبب نزول الآية كما أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن اليهود كانوا يقولون ذلك سرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سب قبيح بلسانهم، فلما سمعوا أصحابه عليه الصلاة والسلام يقولون: أعلنوا بها، فكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه سمعها منهم، فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، قالوا: أوَلستم تقولونها؟ فنزلت الآية ونهي المؤمنون سدًا للباب، وقطعًا للألسنة وإبعادًا عن المشابهة.
وأخرج عبيد وابن جرير والنحاس عن عطاء قال: كانت راعنا لغة الأنصار في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عنها في الإسلام، ولعل المراد أنهم يكثرونها في كلامهم واستعملها اليهود سبًا فنهوا عنها، وأما دعوى أنها لغة مختصة بهم فغير ظاهر لأنها محفوظة في لغة جميع العرب منذ كانوا، وقيل: ومعنى هذه الكلمة عند اليهود لعنهم الله تعالى اسمع لا سمعت وقيل: أرادوا نسبته صلى الله عليه وسلم وحاشاه إلى الرعن، فجعلوه مشتقًا من الرعونة وهي الجهل والحمق، وكانوا إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانًا قالوا: راعنا، أي يا أحمق فالألف حينئذ لمد الصوت وحرف النداء محذوف وقد ذكر الفراء أن أصل يا زيد يا زيدا بالألف ليكون المنادى بين صوتين، ثم اكتفى بيا ونوى الألف، ويحتمل أنهم أرادوا به المصدر، أي رعنت رعونة أو أرادوا صرت راعنا وإسقاط التنوين على اعتبار الوقف، وقد قرأ الحسن وابن أبي ليلى وأبو حيوة وابن محيصن بالتنوين وجعله الكثير صفة لمصدر محذوف، أي قولا: راعنا وصيغة فاعل حينئذ للنسبة كلابن وتامر، ووصف القول به للمبالغة كما يقال: كلمة حمقاء، وقرأ عبد الله وأبيّ {راعونا} على إسناد الفعل لضمير الجمع للتوقير كما أثبته الفارسي وذكر أن في مصحف عبد الله ارعونا وذهب بعض العلماء أن سبب النهي أن لفظ المفاعلة يقتضي الاشتراك في الغالب فيكون المعنى عليه ليقع منك رعي لنا ومنا رعى لك، وهو مخل بتعظيمه صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى بُعده عن سبب النزول بمراحل. اهـ.

.قال الفخر:

إنه لا يبعد في الكلمتين المترادفتين أن يمنع الله من أحدهما ويأذن في الأخرى، ولذلك فإن عند الشافعي رضي الله عنه لا تصلح الصلاة بترجمة الفاتحة سواء كانت بالعبرية أو بالفارسية، فلا يبعد أن يمنع الله من قوله: {راعنا} ويأذن في قوله: {انظرنا} وإن كانتا مترادفتين ولكن جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قوله: {راعنا} لاشتمالها على نوع مفسدة ثم ذكروا فيه وجوهًا، أحدها: كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا عليهم شيئًا من العلم: راعنا يا رسول الله، واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة وهي راعينا ومعناها: اسمع لا سمعت، فلما سمعوا المؤمنين يقولون: راعنا إفترضوه وخاطبوا به النبي وهم يعنون تلك المسبة، فنهي المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى وهي قوله: {انظرنا}، ويدل على صحة هذه التأويل قوله تعالى في سورة النساء: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وراعنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا في الدين} [النساء: 46]، وروي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت هذه الآية، وثانيها: قال قطرب: هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز ما كانوا يقولونها إلا عند الهزؤ والسخرية، فلا جرم نهى الله عنها، وثالثها: أن اليهود كانوا يقولون: راعينا أي أنت راعي غنمنا فنهاهم الله عنها، ورابعها: أن قوله: {راعنا} مفاعلة من الرعي بين اثنين، فكان هذا اللفظ موهمًا للمساواة بين المخاطبين كأنهم قالوا: أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا، فنهاهم الله تعالى عنه وبين أن لابد من تعظيم الرسول عليه السلام في المخاطبة على ما قال: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63].
وخامسها: أن قوله: {راعنا} خطاب مع الاستعلاء كأنه يقول: راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره، وليس في {انظرنا} إلا سؤال الانتظار كأنهم قالوا له توقف في كلامك وبيانك مقدار ما نصل إلى فهمه، وسادسها: أن قوله: {راعنا} على وزن عاطنا من المعاطاة، ورامنا من المراماة، ثم إنهم قلبوا هذه النون إلى النون الأصلية وجعلوها كلمة مشتقة من الرعونة وهي الحق، فالراعن اسم فاعل من الرعونة، فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر.
كقولهم: عياذًا بك، أي أعوذ عياذًا بك، فقولهم: راعنا: أي فعلت رعونة.
ويحتمل أنهم أرادوا به: صرت راعنا، أي صرت ذا رعونة، فلما قصدوا هذه الوجوه الفاسدة لا جرم نهى الله تعالى عن هذه الكلمة.
وسابعها: أن يكون المراد لا تقولوا قولًا: راعنا أي: قولًا منسوبًا إلى الرعونة بمعنى راعن: كتامر ولابن.
أما قوله تعالى: {وَقُولُواْ انظرنا} ففيه وجوه:
أحدها: أنه من نظره أي انظره، قال تعالى: {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13] فأمرهم تعالى بأن يسألوه الإمهال لينقلوا عنه، فلا يحتاجون إلى الاستعاذة.
فإن قيل: أفكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجل عليهم حتى يقولون هذا؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن هذه اللفظة قد تقال في خلال الكلام وإن لم تكن هناك عجلة تحوج إلى ذلك كقول الرجل في خلال حديثه: اسمع أو سمعت.
الثاني: أنهم فسروا قوله تعالى: {لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أنه عليه السلام كان يعجل قول ما يلقيه إليه جبريل عليه السلام حرصًا على تحصيل الوحي وأخذ القرآن، فقيل له: لا تحرك به لسانك لتعجل به فلا يبعد أن يعجل فيما يحدث به أصحابه من أمر الدين حرصًا على تعجيل أفهامهم فكانوا يسألونه في هذه الحالة أن يمهلهم فيما يخاطبهم به إلى أن يفهموا كل ذلك الكلام، وثانيها: {انظرنا} معناه انظر إلينا إلا أنه حذف حرف إلى كما في قوله: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] والمعنى من قومه، والمقصود منه أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كان إيراده للكلام على نعت الإفهام والتعريف أظهر وأقوى.
وثالثها: قرأ أبي بن كعب {أنظرنا} من النظرة أي أمهلنا.
أما قوله تعالى: {واسمعوا} فحصول السماع عند سلامة الحاسة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر، فلا يجوز وقوع الأمر به، فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة، أحدها: فرغوا أسماعكم لما يقول النبي عليه السلام حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة، وثانيها: اسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن سماعكم سماع اليهود حيث قالوا: سمعنا وعصينا، وثالثها: اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه تأكيدًا عليهم، ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطريقة من الإعظام والتبجيل والإصغاء إلى ما يقول والتفكر فيما يقول، ومعنى العذاب الأليم قد تقدم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقُولُواْ انظرنا} أُمِروا أن يخاطبوه صلى الله عليه وسلم بالإجلال؛ والمعنى أَقبل علينا وانظر إلينا؛ فحذف حرف التعدية؛ كما قال:
ظاهرات الجمال والحسن ينظر ** ن كما ينظر الأراكَ الظِّبَاءُ

أي إلى الأراك.
وقال مجاهد: المعنى فَهِّمْنا وبَيِّن لنا.
وقيل: المعنى انتظرنا وتأنّ بنا؛ قال:
فإنكما إن تنظرانِي ساعةً ** من الدهر ينفعني لَدَى أُمِّ جُنْدَب

والظاهر استدعاء نظر العين المقترن بتدبّر الحال؛ وهذا هو معنى راعنا، فبدّلت اللفظة للمؤمنين وزال تعلق اليهود.
وقرأ الأعمش وغيره {أَنْظرنا} بقطع الألف وكسر الظاء، بمعنى أخِّرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقّى منك؛ قال الشاعر:
أبا هندٍ فلا تعجل علينا ** وأَنْظِرنا نخبِّرك اليقينا

.قال الألوسي:

{وَقُولُواْ انظرنا} أي انتظرنا وتأن علينا، أو انظر إلينا، ليكون ذلك أقوى في الإفهام والتعريف، وكان الأصل أن يتعدى الفعل بإلى، لكنه توسع فيه فتعدى بنفسه على حد قوله:
ظاهرات الجمال والحسن ينظر ** ن كما ينظر الأراك الظباء

وقيل: هو من نظر البصيرة، والمراد به التفكر والتدبر فيما يصلح حال المنظور في أمره والمعنى تفكر في أمرنا وخير الأمور عندي أوسطها إلا أنه ينبغي أن يقيد نظر العين بالمقترن بتدبير الحال لتقوم هذه الكلمة مقام الأولى خالية من التدليس، وبدأ بالنهي لأنه من باب التروك فهو أسهل ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس قبل بالنهي، وقرأ أبيّ والأعمش أنظرنا بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار ومعناه أمهلنا حتى نتلقى عنك ونحفظ ما نسمعه منك، وهذه القراءة تشهد للمعنى الأول على قراءة الجمهور إلا أنها على شذوذها لا تأبى ما اخترناه {واسمعوا} أي ما أمرتكم به ونهيتكم عنه بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتكم عنه ولا تتركوا ما أمرتكم به، أو هو أمر بحسن الاستماع بأن يكون باحضار القلب وتفريغه عن الشواغل حتى لا يحتاج إلى طلب صريح المراعاة ففيه تنبيه على التقصير في السماع حتى ارتكبوا ما تسبب للمحذور، والمراد سماع القبول والطاعة فيكون تعريضًا لليهود حيث قالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 3 9] وإذا كان المراد سماع هذا الأمر والنهي يكون تأكيدًا لما تقدم.
{وللكافرين عَذَابٌ أَلِيمٌ} اللام للعهد فالمراد بالكافرين اليهود الذين قالوا ما قالوا تهاونا بالرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم مما سبق السياق ووضع المظهر موضع المضمر إيذانًا بأن التهاون برسول الله صلى الله عليه وسلم كفر يوجب أليم العذاب، وفيه من تأكيد النهي ما فيه، وجعلها للجنس فيدخل اليهود كما اختاره أبو حيان ليس بظاهر على ما قيل: لأن الكلام مع المؤمنين فلا يصلح هذا أن يكون تذييلًا. اهـ.