فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} الآية.
قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقوله بعض العلماء في الآية قولًا ويكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول. فإنا نبين ذلك. فإذا علمت ذلك.
فاعلم أن هذا الإسراء به صلى الله عليه وسلم المذكور في هذه الآية الكريمة، زعم بعض أهل العلم أنه بروحه صلى الله عليه وسلم دون جسده، زاعمًا أنه في المنام لا اليقظة، لأن رؤيا الأنبياء وحي.
وزعم بعضهمك أن الإسراء بالجسدِ، والمعراج بالروح دون الجسد، ولكن ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظةً لا منامًا، لأنه قال {بعبده} والعبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، ولأنه قال {سبحان} والتَّسبيح إنما يكون عند الأمور العظام. فلو كان منامًا لم يكم له كبير شأن حتى يتعجب منه، ويؤيده قوله تعالى: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} [النجم: 17]. لأن البصر من آلات الذات لا الروح، وقوله هنا {لنريه من آياتنا}.
ومن أوضح الأدلة القرآنية على ذلك قوله جل وعلا: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ والشجرة الملعونة فِي القرآن} [الإسراء: 60]. فإنها رؤيا عين يقظة، لا رؤيا منام، كما صحَّ عن ابن عباس وغيره.
ومن الأدلة الواضحة على ذلك- أنها لو كان رؤيا منام لما كانت فتنة، ولا سببًا لتكذيب قريس، لأن رؤيا المنام ليست محل إنكار، لأن المنام قد يرى فيه ما لا يصح. فلاذي جعله الله فتنة هو ما رآه بعينه من الغرائب والعجائب. فزعم المشركون أن من اردعى رؤية ذلك بعينه فهو كاذب لا محالة، فصار فتنة لهم، وكون الشجرة الملعونة التي هي شجرة الزقوم على التحقيق فتنة لهم- أن الله لما أنزل قوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} [الصافات: 64]. قالوا: ظهر كذبه. لأن الشجر لا ينبت بالأرض اليابسة، فكيف ينبت في أصل النار! كما تقدم في البقرة.
ويؤيد ما ذكرنا من كونها رؤيا عين يقظة قوله تعالى هنا: {لنريه من آياتنا} الآية، وقوله: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} [النجم: 17-18]، وما زعمه بعض أهل العلم من أن الرؤيا لا تطلق بهذا اللفظ لغة إلى على رؤيا المنام، مردود. بل التحقيق: ان لفظ الرؤيا يطلق في لغة العرب على رؤية العين يقظة أيضًا، ومنه قول الراعي وهو عربي قح:
فكبر للرَّيا وهش فؤاده ** وبشَّر نفسًا كان قبل يلومها

فإنه يعني رؤية صائد بعينه، ومنه أيضًا قول أبي الطيب:
ورؤياك أحلى في العيون من الغمض

قاله صاحب اللسان وزعم بعض اهل العلم: أن المراد بالرؤيا في قوله:
{وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60]. الآية، رؤيا منامن وأنها هي المذكورة في قوله تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله} [الفتح: 27]. الآية والحق الأول.
وركوبه صلى الله عليه وسلم على البراق يدل على أن الإسراء بجسمه. لأن الروح ليس من شأنه الركوب على الدواب كما هو معروف، وعلى كل حال:
فقد تواترت الأحاديث الصحيحة عنه: «أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأنه عرج به من المسجد الأقصى حتى جاوز السماوات السبع».
قد دلت الأحاديث المذكورة على أن الإسراء والمعراج كليهما بجسمه وروحه، يقظة لا منامًا، كما دلت على ذلك أيضًا الآيات التي ذكرنا.
وعلى ذلك من يعتد به من أهل السنة والجماعة، فلا عبرة يمن أنكر ذلك من الملحدين.
وما ثبت في الصَّحيحين من طريق شريك عن أنس رضي الله عنه: أن الإسراء المذكور وقع منامًا- لا ينافي ما ذكرنا مما عليه أهل السنة والجماعة، ودلت عليه نصوص الكتاي والسنة. لإمكان أن يكون رأي الإسراء المذكور نومًا، ثم جاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح فأسري به يقظة تصديقًا لتلك الرؤيا المنامية. كما رأى في النوم أنهم دخلوا المسجد الحرام، فجاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح، فدخلوا المسجد الحرام في عمرة القضاء عام سبع يقظة، لا منامًا، تصديقًا لتلك الرؤيا. كما قال تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27]. الآية، ويؤيد ذلك حديث عائشة الصحيح: «فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» مع أن جماعة من أهل العلم قالوا: إن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ساء حفظه في تلك الرواية المذكورة عن أنس، وزاد فيها ونقص، وقدم وأخر، ورواها عن أنس غير من الحفاظ على الصواب، فلم يذكروا المنام الذي ذكره شريك المذكور، وانظر رواياتهم بأسانيدها ومتونها في تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى. فقد جمع طرق حديث الإسراء جمعًا حسنًا بإتقان. ثم رحمه الله: والحق أنه عليه السلام اسري به يقظة لا منامًا من مكة إلى بيت المقدس راكبًا البراق، فلما انتهى إلى باب امسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج وهو كالسلم ذو درجٍ يرقى فيهان فصعد فيه إلى السّماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوهان وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهمن حتى مر بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزليهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوىً يسمع فيه صريف الأقلام- أي أقلام القدر- بما هو كائنن ورأى سدرة المنتهى، وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة، وغشيها الملائكة، وإبراهيم الخليل بانِيَ الكعبة الأرضية مسندًا ظهره إليه، لأن الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة، يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ورأى الجنة والنار.
وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفًا بعباده، وفي هذا اعتناء بشرف الصلاة وعظمتها. ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء. فصلى بهم فيه لما حانت الصَّلاة، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ، ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس، ولكن، في بعضها أنه كان أول دخوله إليه، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه، لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحدًا واحدًا وهو يخبره بهم، وهذا هو اللائق. لأنه كان أولًا مطلوبًا إلى الجانب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى.
ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النَّبيين، ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام في ذلك. ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى بلفظه من تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، فهو متواتر بهذا الوجه، وذكر النقاش ممن وراه: عشرين صحابيًان ثم شرع يذكر بعض طرقه في الصحيحين وغيرهما، وبسط قصة الإسراء، تركناه لشهرته عند العامةن وتواتره في الأحاديث.
وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في آخر كلامه على هذه الآية الكريمة فائدتين، قال في أولاهما: فائدة حسنة جليلة- وروى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة من طريق محمد بن عمر الواقدي: حدثني مالك بن أبي الرجال، عم عمر بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة إلى قيصر. فذكر ورده عليه وقدومه إليه، وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل، ثم استدعى من بالشام من التجار فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه. فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم كما سياتي بيانه، وجعل أبو سفيان يجتهد أن يحقِّر أمره ويصغِّره عنده، قال في هذا السياق عن أبي سفيان: والله ما منعني من أن أقول عليه قولًا أسقطه به من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها عليَّ ولا يصدقني في شيءٍ، قال: حتَّى ذكرت قوله ليلة أسري به، قال فقلت: أيُّها الملك، ألا أخبرك خبرًا تعرف به أَنه قد كذب. قال: وما هو؟ قالك قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا ارض الحرم في ليلةٍ، فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء، ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصَّباح. قال: وبطريق إيلياء عند رأس قيصر، فقال بطريق إيلياء: قد علمت تلك الليلة، قال: فنظر إليه قيصر وقال: وما علمك بهذا؟ قال: أني كنت لا أنام ليلةً حتَّى أغلق أبواب المسجد. فما كانت تلك اللًّيلةِ أغلقت الأَبواب كلَّها غير بابٍ واحدٍ غلبني، فاستعنت عليه بعمَّالي ومن يحضرني كلهم فغلبنا، فلم نستطيع أن نحركه كأنما نزاول به جبلًا، فدعون إليه النَّجاجرة فنظروا إليه فقالوا: إنَّ هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا نستطيع أن نحرِّكهن حتى نصبح فننظر من أين أتى! قال: فرجعت وتركت البابين مفتوحين. فلمَّا أصبحت غدوت عليهما فإذا المجر الذي في زاوية المسجد مثقوب، وإذا فيه أَثر مربط الدابة. قال: فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب اللَّيلة إلى على نبيٍّ وقد صلَّى الليلة في مسجدنا اهـ.
ثم قال في الأخرى:
فائدة: قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه التنوير في مولد السراج المنير وقد ذكر حديث الإسراء عن طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد. ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعودٍ، وأبي ذرٍّ، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرةن وأب سعيد، وابن عباس، وشداد بن أَوس، وأبي بن كعب، وعبد الرحمن بن قرط، وأبي حبة، وأبي ليلى الأنصاريين، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وجذيفة، وبُريدة، وأبي أيوب، وأبي أُمامة، وسمرة بن جندب، وأبي الحمراء، وصهيب الرومي، وأم هانئ، وعائشة، وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين. منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمونن وأعرض عنه الزنادقة والملحدون: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} [الصف: 8]. اهـ من ابن كثير بلفظه.
وقد قدمنا أن أحسن أوجه الإعراب في {سبحان} أنه مفعول مطلق، منصوب بفعل محذوف: أي اسبح الله سبحانًا أي تسبيحًا، والتسبيح: الإبعاد عن السوء، ومعناه في الشرع: التنزيه عن كل ما لا يليق بجلال الله وكماله، كما قدمنا، وزعم بعض أهل العلم: أن لفظة {سبحان} علم للتنزيه، وعليه فهو علم جنسٍ لمعنى التنزيه على حد قول ابن مالك في الخلاصة، مشيرًا غلى أن علم الجنس يكون للمعنى كما يكون للذات:
ومثله برة للمبرة ** كذا فجار علم للفجرة

وعلى أنه علم- فهو ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون، والذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أنه غير علم، وأن معنى {سبحان} تنزيهًا لله عن كل ما لا يليق به، ولفظة {سبحان} من الكلمات الملازمة للإضافةن وورودها غير مضافة قليل. كقول الأعشى:
فقلت لما جاءني فخره ** سبحان من علقمة الفاخر

ومن الأدلة على أنه غير- علم ملازمته للإضافة والأعلام تقل إضافتها، وقد سمعت لفظة {سبحان} غير مضافة مع التنوين والتعريف. فمثاله مع التنوين قوله:
سبحانه ثم سبحانه نعوذ به ** وقبلنا سبح الجودي والجمد

ومثاله معرفًا قول الراجز:
سبحانك اللهم ذا السبحان

والتعبير بلفظ في هذا المقام العظيم يدل دلالة واضحة على أن مقام العبودية هو أشرف صفات المخلوقين وأعظمها وأجلها. إذ لو كان هناك وصف اعظم منه لعبر به في هذا المقام العظيم، الذي اخترق العبد فيه السبع الطباق، ورأى من آيات ربّه الكبرى، وقد قال الشاعر في محبوب مخلوق، ولله المثل الأعلى:
يا قوم قلبي عند زهراء ** يعرفه السامع والراءي

لا تدعني إلا بيا عبدها ** فإنه اشرف أسمائي

واختلف العلماء في النكتة البلاغية التي نكر من أجلها {ليلًا} بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء، وأنه أُسري به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعيضة، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة {من الليل} أي بعض الليل. كقوله: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} [الإسراء: 79]. يعني بالقيام في بعض الليل اه، واعترض بعض أهل العلم هذا.
وذكر بعضهم: ان النتكير في قوله: {ليلًا} للتعظيم. أي ليلًا أي ليل، دنا فيه المحب إلى المحبوب! وقيل فيه غير ذلك، وقد قدمنا: أن أسرى وسرى لغتان. كسقى وأسقى، وقد جمعهما قول حسان رضي الله عنه:
حي النضيرة ربة الخدر ** أسرت إليك ولم تكن تسري

بقتح التاء من تسري والباء في اللغتين للتعدية، كالباء في {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، وقد تقدمت سواهد هذا في سورة هود.
تنبيه:
اختلف العلماء هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسراء بعين رأسه أو لا؟ فقال ابن عباس وغيره: رآه بعين رأسه وقالت عائشة وغيرها: لم يره، وهو خلاف مشهور، بين أهل العلم معروف.