فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق الذي دلت عليه نصوص الشرع: أنه صلى الله عليه وسلم لم يره بعين راسه، وما جاء عن بعض السلف من أنه راهـ. فالمراد به الرؤية بالقلب. كما في صحيح مسلم: «أنه رآه بفؤاده مرتين» لا بعين الرأس.
ومن أوضح الأدلة على ذلك-أن أبا ذر رضي الله عنه وهو هو في صدق اللهجة سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسالة بعينها.
فأفتاه بما مقتضاه: أنه لم يره. قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي ذر قال: سأّلت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأّيت ربك؟ قال: «نور! أنى أراه؟».
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي (ح) وحدثني حجاج بن الشاعر، حدثنا عان بن مسلم، حدثنا همام، كلاهما عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أساله: هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: «رأيت نورًا» هذا لفظ مسلم.
وقال النووي في شرحه لمسلم: أما قوله صلى الله عليه وسلم: «نور! أَنى أراه» !! فهو بتنوين «نور» وفتح الهمزة في «أَنى» وتشديد النون وفتحها، و«أَراه» بفتح الهمزة هكذا رواه جميع الرواة في جميع الأصول والرويات، ومعناه: حجابه نور، فكيف أراه!!.
قال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله: الضمير في «أراه» عائد إلى الله سبحانه وتعالى، ومعناه: ان النور منعني من الرؤية. كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار، ومنعها من إدراك ما حالت بين الراثي وبينه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «رأَيت نورًا» معناه: رأيت النور فحسب، ولم أر غيره. قال: وروي نوراني بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء، ويحتمل أن يكون معناه راجعًا إلى ما قلناهـ. أي خالق النور المانع من رؤيته، فيكون من صفات الأفعال.
قال القاضي عياض رحمه الله: هذه الرواية لم تقع إلينا! ولا رأيناها في شيء من الأصول. اهـ محل الغرض من كلام النووي.
قال مقيده عفا اله عنه: التحقيق الذي لا شك فيه هو: أن معنى الحديث هو ما ذكر، من كونه لا يتمكن أحد من رؤيته لقوة النور الذي هو حجابه، ومن اصرح الأدلة على ذلك ايضًا حديث أبي موسى المتفق عليه «حِجَابُهُ النُّور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «نور! انى أراه؟» أي كيف أراه وحجابه نور، من صفته أنه لو كشفه لأحرق ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وقد قدمنا: أن تحقيق المقام في رؤية الله جل وعلا بالأبصار- أنها جائزة عقلًا في الدنيا والآخرة، بدليل قوله موسى {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْك} [الأعراف: 143]. لأنه لا يجهل المستحيل في حقّه جل وعلا، وأنها جائزة شرعًا وواقعة يوم القيامة، ممتنعة شرعًا في الدنيا قال:
{لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف: 143]. إلى قوله: {جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143].
ومن أصرح الأدلة في ذلك حديث: «إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا» في صحيح مسلم وصحيح ابن خزيمة كما تقدم.
وأما قوله: {ثُمَّ دَنَا فتدلى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} [النجم8-9]. الآية-فذلك جبريل على التحقيق، لا الله جلَّ وعلا.
قوله تعالى: {الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}.
أظهر التفسيرات فيه: أن معنى {باركنا حوله} أكثرنا حوله الخير والبركة بالأشجار والثمار والأنهار، وقد وردت آيات تدل على هذا. كقوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]، وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81]. فإن المراد بتكل الأرض: الشام، والمراد بأنه بارك فيها: أنه أكثر فيها البركة وا لخير بالخصي والأشجار والثمار والمياه كما عليه جمهور العلماء.
وقال بعض العلماء: المراد بأنه بارك فيها أنه بعث الأنبياء منها، وقيل غير ذلك، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ}.
الظاهر إنما أراه الله من آياته في هذه الآية الكريمة: أن أراه إياه رؤية عين. فمزة التعدية ادخلة على رأى البصرية. كقولك: أرأيت زيدًا دار عمرو. أي جعلته يراها بعينه، و{من} في الآية للتبعيض، والمعنى {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ}: أي بعض آياتنا فجعله يراها بعينه، وذلك ما رآه صلى الله عليه وسلم بعينه ليلة الإسراء من الغرائب والعجائب. كما جاء مبينًا في الأحاديث الكثيرة.
ويدل لما ذكرنا في الآية الكريمة قوله تعالى في سورة النجم: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} [النجم: 17-18]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا}.
استهل الحق سبحانه هذه السورة بقوله: {سُبْحَانَ}؛ لأنها تتحدث عن حدث عظيم خارق للعادة، ومعنى سبحانه: أي تنزيهًا لله تعالى تنزيهًا مطلقًا، أن يكون له شبه أو مثيل فيما خلق، لا في الذات، فلا ذاتَ كذاته، ولا في الصفات فلا صفات كصفاته، ولا في الأفعال، فليس في أفعال خَلْقه ما يُشبِه أفعاله تعالى.
فإن قيل لك: الله موجود وأنت موجود، فنزّه الله أن يكون وجوده كوجودك؛ لأن وجودك من عدم، وليس ذاتيًا فيك، ووجوده سبحانه ليس من عدم، وهو ذاتي فيه سبحانه.
فذاته سبحانه لا مثيلَ لها، ولا شبيه في ذوات خلقه، وكذلك إن قيل: سَمْع والله سمع. فنزِّه الله أنْ يُشابه سمعُه سمعَك، وإن قيل: لك فِعْل، ولله فِعْل فنزِّه الله أن يكون فعله كفعلك.
ومن معاني {سُبْحَان} أي: أتعجب من قدرة الله.
إذن: كلمة {سُبْحَان} جاءت هنا لتشير إلى أنَّ ما بعدها أمرٌ خارج عن نطاق قدرات البشر، فإذا ما سمعتَه إياك أنْ تعترضَ أو تقول: كيف يحدث هذا؟ بل نزِّه الله أن يُشابه فِعْلُه فِعْلَ البشر، فإن قال لك: إنه أسرى بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيتَ المقدس في ليلة، مع أنهم يضربون إليها أكباد الإبل شهرًا، فإياك أن تنكر.
فربك لم يقُلْ: سَرَى محمد، بل أُسْرِي به. فالفعل ليس لمحمد ولكنه لله، وما دام الفعل لله فلا تُخضعْه لمقاييس الزمن لديك، ففِعْل الله ليس علاجًا ومزاولة كفعل البشر.
ولو تأملنا كلمة {سُبْحَان} نجدها في الأشياء التي ضاقتْ فيها العقول، وتحيَّرتْ في إدراكها وفي الأشياء العجيبة، مثل قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36].
فالأزواج أي: الزوجين الذكر والأنثى، ومنهما يتم التكاثر في النبات، وفي الإنسان وقد فسر لنا العلم الحديث قوله: {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} بما توصَّل إليه من اكتشاف الذرة والكهرباء، وأن فيهما السالب والموجب الذي يساوي الذكر والأنثى؛ لذلك قال تعالى:{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49].
ومنها قوله تعالى:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17].
فمَنْ يطالع صفحة الكون عند شروق الشمس وعند غروبها، ويرى كيف يحُلُّ الظلام محلَّ الضياء، أو الضياء محل الظلام، لا يملك أمام هذه الآية إلا أن يقول: سبحان الله.
ومنها قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13].
هذه كلها أمور عجيبة، لا يقدر عليها إلا الله، وردتْ فيها كلمة {سبحان} في خلال السور وفي طيّات الآيات.
و{سُبْحَان} اسم يدلُّ على الثبوت والدوام، فكأن تنزيه الله موجود وثابت له سبحانه قبل أن يوجد المنزِّه، كما نقول في الخلق، فالله خالق ومُتصف بهذه الصفة قبل أنْ يخلق شيئًا.
وكما تقول: فلان شاعر، فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة، فلو لم يكن شاعرًا ما قالها.
إذن: تنزيه الله ثابت له قبل أن يوجد مَنْ يُنزِّهه سبحانه، فإذا وُجِد المنزّه تحوَّل الأسلوب من الاسم إلى الفعل، فقال سبحانه:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الحشر: 1].
وهل سبَّح وسكت وانتهى التسبيح؟ لا، بل:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 1].
على سبيل الدوام والاستمرار، وما دام الأمر كذلك والتسبيح ثابت له، وتُسبِّح له الكائنات في الماضي والحاضر، فلا تتقاعس أنت أيُّها المكلَّف عن تسبيح ربك، يقول تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1].
وقوله: {أُسْرِي} من السُّرى، وهو السير ليلًا، وفي الحِكَم: عند الصباح يحمَدُ القوم السُّرى.
فالحق سبحانه أسرى بعبد، فالفعل لله تعالى، وليس لمحمد صلى الله عليه وسلم فلا تَقِسْ الفعل بمقياس البشر، ونزِّه فِعْل الله عن فِعْلك، وقد استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذِّب. فقالوا: كيف هذا ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرًا، وهم كاذبون في قولهم؛ لأن رسول الله لم يَدَّع أنه سَرَى بل قال: أُسْرِي بي.
ومعلوم أن قَطْع المسافات يأخذ من الزمن على قدر عكس القوة المتمثلة في السرعة. أي: أن الزمن يتناسب عكسيًا مع القوة، فلو أردنا مثلًا الذهاب إلى الإسكندرية سيختلف الزمن لو سِرْنا على الأقدام عنه إذا ركبنا سيارة أو طائرة، فكلما زادت القوة قَلَّ الزمن، فما بالك لو نسب الفعل والسرعة إلى الله تعالى، إذا كان الفعل من الله فلا زمن.
فإنْ قال قائل: ما دام الفعل مع الله لا يحتاج إلى زمن، لماذا لم يَأْتِ الإسراء لمحةً فحسْب، ولماذا استغرق ليلة؟
نقول: لأن هناك فرْقًا بين قطْع المسافات بقانون الله سبحانه وبين مَرَاءٍ عُرِضَتْ على النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق، فرأى مواقف، وتكلَّم مع أشخاص، ورأى آيات وعجائب، هذه هي التي استغرقت الزمن.
وقلنا: إنك حين تنسب الفعل إلى فاعله يجب أن تعطيه من الزمن على قَدْر قوة الفاعل. هَبْ أن قائلًا قال لك: أنا صعدتُ بابني الرضيع قمة جبل إفرست، هل تقول له: كيف صعد ابنك الرضيع قمة إفرست؟
هذا سؤال إذن في غير محلِّه، وكذلك في مسألة الإسراء والمعراج يقول تعالى: أنا أسريتُ بعبدي، فمن أراد أنْ يُحيل المسألة ويُنكرها، فليعترض على الله صاحب الفعل لا على محمد.
لكن كيف فاتتْ هذه القضية على كفار مكة؟
ومن تكذيب كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج نأخذ رَدًّا جميلًا على هؤلاء الذين يخوضون في هذا الحادث بعقول ضيقة وبإيمانية سطحية في عصرنا الحاضر، فيطالعونا بأفكار سقيمة ما أنزل الله بها من سلطان.
ونسمع منهم مَنْ يقول: إن الإسراء كان منَامًا، أو كان بالروح دون الجسد.
ونقول لهؤلاء: لو قال محمد لقومه: أنا رأيتُ في الرؤيا بيت المقدس، هل كانوا يُكذِّبونه؟ ولو قال لهم: لقد سبحتْ روحي الليلة حتى أتتْ بيت المقدس، أكانوا يُكذِّبونه؟ أتُكذَّب الرّؤى أو حركة الأرواح؟!
إذن: في إنكار الكفار على رسول الله وتكذيبهم له دليل على أن الإسراء كان حقيقة تمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم برُوحه وجسده، وكأن الحق سبحانه ادَّخر الموقف التكذيبي لمكذبي الأمس، ليردّ به على مُكذّبي اليوم.
وقوله سبحانه: {بِعَبْدِهِ..} [الإسراء: 1].
العبد كلمة تُطلق على الروح والجسد معًا، هذا مدلولها، لا يمكن أن تُطلَق على الروح فقط.
لكن، لماذا اختار الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم هذه الصفة بالذات؟
نقول: لأن الله تعالى جعل في الكون قانونًا عامًا للناس، وقد يُخرَق هذا القانون أو الناموس العام ليكون معجزةً للخاصة الذين ميَّزهم الله عن سائر الخَلْق، فكأن كلمة عبده هي حيثية الإسراء.
أي: أُسْرِي به؛ لأنه صادق العبودية لله، وما دام هو عبده فقد أخلص في عبوديته لربه، فاستحق أنْ يكون له مَيْزة وخصوصية عن غيره، فالإسراء والمعراج عطاء من الله استحقَّه رسوله بما حقّق من عبودية لله.
وفَرْق بين العبودية لله والعبودية للبشر، فالعبودية لله عِزٌّ وشرف يأخذ بها العبدُ خَيْرَ سيده، وقال الشاعر:
وَمِمّا زَادَني شَرَفًا وَعِزًّا ** وكِدْتُ بأخْمُصِي أَطَأَ الثُّريَّا

دُخُولِي تَحْتَ قولِكَ يَا عِبَادِي ** وَأنْ صَيَّرت أحمدَ لِي نبيًّا

أما عبودية البشر للبشر فنقْصٌ ومذلَّة وهوان، حيث يأخذ السيد خَيْر عبده، ويحرمه ثمره كَدِّه.
لذلك، فالمتتبّع لآيات القرآن يجد أن العبودية لا تأتي إلا في المواقف العظيمة مثل:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1].
وقوله:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19].
ويكفيك عِزًا وكرامة أنك إذا أردتَ مقابلة سيدك أن يكون الأمر في يدك، فما عليكَ إلا أنْ تتوضأ وتنوي المقابلة قائلًا: الله أكبر، فتكون في معية الله عز وجل في لقاء تحدد أنت مكانه ومُوعده ومُدّته، وتختار أنت موضوع المقابلة، وتظل في حضرة ربك إلى أن تنهي المقابلة متى أردتَ.