فصل: قال الإمام السبكي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بل إن أهل هذه الأودية سيكونون حملة الإسلام جيلا في أعقاب جيل، وهذا معنى رؤية النيل والفرات في الجنة وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة كما يظن السذج والبله. لقد روى الترمذى مثلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أعطى أحدكم الريحان فلا يرده فإنه خرج من الجنة». فهل ذلك يدل على أن الريحان من الجنة ونحن نقطف أزهاره من الحقول والحدائق؟ حكمة الإسراء ذلك والله عز وجل يتيح لرسله فرص الاطلاع على المظاهر الكبرى لقدرته حتى يملأ قلوبهم ثقة فيه واستنادا إليه، إذ يواجهون قوى الكفار المتألبة ويهاجمون سلطانهم القائم. فقبل أن يرسل الله موسى شاء أن يريه عجائب قدرته فأمره أن يلقى عصاه قال: {ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى * قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى * واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى * لنريك من آياتنا الكبرى}. فلما ملأ قلبه إعجابا بمشاهد هذه الآيات الكبرى قال له بعد: {اذهب إلى فرعون إنه طغى}، وقد علمت أن ثمرة الإسراء والمعراج إطلاع الله نبيه على هذه الآيات الكبرى وربما تقول: إن ذلك حدث بعد الإرسال إليه بقريب من اثنى عشر عاما على عكس ما وقع لموسى، وهذا حق، وسره ما أسلفنا بيانه من أن الخوارق في سير المرسلين الأولين قصد بها قهر الأمم على الاقتناع بصدق النبوة فهى تدعيم لجانبهم أمام اتهام الخصوم لهم بالادعاء، وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم فوق هذا المستوى. فقد تكفل القرآن الكريم بإقناع أولى النهى من أول يوم، وجاءت الخوارق في طريق الرسول ضربا من التكريم لشخصه، والإيناس له، غير معكرة، ولا معطلة للمنهج العقلى العادى الذي اشترعه القرآن.
وقد اقترح المشركون على النبى صلى الله عليه وسلم أن يرقى في السماء، فجاء الجواب من عند الله: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا}. فلما رقى في السماء بعد، لم يذكر قط أن ذلك رد على التحدى أو إجابة على الاقتراح السابق بل كان الأمر- كما قلنا- محض تكريم ومزيد إعلام من الله لعبده. إكمال البناء وفى قصة الإسراء والمعراج تلمح أواصر القربى بين الأنبياء كافة، وهذا المعنى من أصول الإسلام. {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} والتحيات المتبادلة بين النبى وإخوته السابقين توثق هذه الآصرة. ففى كل سماء أحل الله فيها أحد رسله، كان النبى يستقبل فيها بهذه الكلمة: مرحبا بالأخ الصالح! والخلاف بين الأنبياء وهم صنعته الأم الجائرة عن السبيل السوى أو بالأحرى صنعه الكهان والمتاجرون بالأديان. أما محمد، فقد أظهر أنه مرسل لتكملة البناء الذي تعهده من سبقوه، ومنع الزلازل من تصعيده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلى ومثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له! ويقولون هل وضعت هذه اللبنة؟ فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين»، والأديان المعتمدة على الوحى السماوى معروفة، وليس منها- بداهة- ما اصطنعه الناس لأنفسهم من أوثان وطقوس كالبرهمية والبوذية وغيرهما، وليس منها كذلك ما ابتدع- أخيرا- من نحل احتضنها الاستعمار الغربى وكثر الأنصار حولها، ليشدد الخناق على مقاتل الشرق، ويعوق المسلمين الأحرار عن حطم قيوده، وإنقاذ عبيده وذلك كالبهائية والقاديانية، ومن الممكن- لو خلصت النيات ونشد الحق- أن توضع أسس عادلة لوحدة دينية، تقوم على احترام المبادئ المشتركة وإبعاد الهوى عن استغلال الفروق الأخرى، إلى أن تزول على الزمن، أو تنكسر حدتها، والإسلام الذي تعد تعاليمه امتدادا للنبوات الأولى، ولبنة مضافة إلى بنائها العتيد أول من يرحب بهذا الاتجاه ويزكيه.
سلامة الفطرة وفى ليلة الإسراء والمعراج تأكدت الصفة الأولى لهذا الدين وهى أنه دين الفطرة. ففى الحديث: «.. ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن. فأخذت اللبن. قال: هي الفطرة التى أنت عليها وأمتك». إن سلامة الفطرة لب الإسلام ويستحيل أن تفتح أبواب السماء لرجل فاسد السريرة عليل القلب. إن الفطرة الرديئة كالعين الحمئة لا تسيل إلا قذرا وسوادا، وربما أخفى هذا السواد الكريه وراء ألوان زاهية، ومظاهر مزوقة، ويوم تكون العبادات- نفسها- ستارا لفطرة فاسدة فإن هذه العبادات الخبيثة، تعتبر أنزل رتبة من المعاصى الفاجرة، والناس كلما تقدمت بهم الحضارات، أمعنوا في التكلف والمصانعة، وقيدوا أنفسهم بعبادات وتقاليد قاسية، وأكثر هذه التكلفات حجب تطمس وهج الفطرة وتعكر نقاوتها وطلاقاتها، وليس أبغض إلى الله من أن تفترى هذه القيود باسم الدين وأن تترك النفوس في سجونها، مغلولة كئيبة. فرض الصلاة وفى المعراج شرعت الصلوات الخمس، شرعت في السماء لتكون معراجا يرقى بالناس، كما تدلت بهم شهوات النفوس وأعراض الدنيا، والصلوات التى شرع الله غير الصلوات التى يؤديها- الآن- كثير من الناس، وعلامة صدق الصلاة أن تعصم صاحبها من الدنايا، وأن تخجله من البقاء عليها إن ألم بشىء منها. فإذا كانت الصلاة- مع تكرارها- لا ترفع إلى هذه الدرجة فهى صلاة كاذبة. الصلاة طهور كما جاء في السنة، إلا أنها طهور للإنسان الحى، لا للجثة العفنة.
إن التطهير يزيل ما يعلق بالقلب الحى من غبار عارض، والأعراض التى تلحق المرء في الحياة فتصدئ قلبه كثيرة ومطهراتها أكثر! وفى الحديث: «فتنة الرجل من أهله وماله وولده ونفسه وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر». أما أصحاب القلوب الميتة فالصلاة لا تجديهم فتيلا.، ولن يزالوا كذلك حتى تحيا قلوبهم أو يواريها الثرى.، وقد رويت سنن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في هذه الرحلة صورا شتى لأجزية الصالحين والطالحين، وتناقلت كتب السيرة رواية هذه الصور الجليلة على أنها وقعت ليلة الإسراء والمعراج، والحق أن ذلك كان رؤيا منام في ليلة أخرى من الليالى المعتادة كما ثبت ذلك في الصحاح. قريش والإسراء فلما كانت صبيحة هذه الليلة المشهودة حدث رسول الله الناس بما تم له وما شهد من آيات ربه الكبرى، والذين كذبوا أن يقع وحى على الأرض، أتراهم يصدقون به في السماء؟ لقد طاروا يجمع بعضهم بعضا ليسمع هذه الأعجوبة فيزداد إنكارا لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وريبة من أمره، وتحداه بعضهم أن يصف بيت المقدس، إن كان رآه هذه الليلة حقا؟
عن جابر رضى الله عنه، قال رسول صلى الله عليه وسلم: «لما كذبتنى قريش، قمت في الحجر، فجلى الله لى بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه» !، ويقول الدكتور هيكل: أحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالروح في هذا لما رأوا فيه عجبا، بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسى للتحدث عن أشياء واقعة في جهات نائية. فما بالك بروح يجمع وحدة الحياة الروحية في الكون كله؟ ويستطيع- بما وهب الله له من قوة- أن يتصل بسر الحياة من أزل الكون إلى أبده! ونحن لا نعلق كبير اهتمام لمعرفة الطريقة التى تم بها الإسراء والمعراج، كلا الأمرين حق، ترك ثماره في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم فاستراح إلى حمد الخالق، وقل اكتراثه لذم الهمل من الجاحدين والجاهلين، ثم نشط إلى متابعة الدعوة، موقنا أن كل يوم يمر بها هو خطوة إلى النصر القريب، ويزعم بعض الكتاب أن فريقا من المسلمين ارتد عقب الإسراء والمعراج إنكارا لهما. بل يزيد الدكتور هيكل أن المسلمين تضعضعوا على أثر انتشار القصة على الأفواه، واستبعاد المشركين لوقوعها، وهذا كله خطأ، فلا الآثار التاريخية تدل عليه، ولا الاستنتاج الحصيف ينتهى به، ولا ندرى كيف يقال هذا؟ مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهجه القديم ينذر بالوحى كل من يلقى، ويخوض بدعوته المجامع ويغشى المواسم، ويتبع الحجيج في منازلهم، ويغبر قدميه إلى أسواق عكاظ ومجنة وذى المجاز داعيا الناس إلى نبذ الأوثان، والاستماع إلى هدى القرآن، وكان يسأل عن منازل القبائل قبيلة قبيلة، ويعرض عليهم نفسه ليؤمنوا به ويتابعوه ويمنعوه، وكان عمه أبو لهب يمشى وراءه ويقول: لا تطيعوه فإنه صابئ وكذاب! فيكون جواب القبائل: أسرتك وعشيرتك أعلم بك! ثم يردونه أقبح الرد، ومن القبائل التى أتاها الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله، فأبت الاستجابة له: فزارة وغسان ومرة وحنيفة وسليم وعبس وبنو النضير وكندة وكلب وعذرة والحضارمة وبنو عامر بن صعصعة ومحارب بن حفصة.. إلخ. ما وجد في هؤلاء قلبا مفتوحا، ولا صدرا مشروحا، بل كان الراحلون والمقيمون يتواصون بالبعد عنه، ويشيرون إليه بالأصابع، وكان الرجل يجىء من الآفاق البعيدة فيزوده قومه بهذه الوصاة: احذر غلام قريش لا يفتنك!! مع ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الجو القابض- لم يخامر اليأس قلبه، واستمر- مثابرا- في جهاد الدعوة حتى تأذن الحق- أخيرا- بالفرج. اهـ.

.قال الإمام السبكي:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} الْآيَةَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي {إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ وَرَدَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعَيْنِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ وَفِي سُورَةِ الشُّورَى.
فَيَكُونُ هَذَا مَوْضِعًا رَابِعًا وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ الضَّمِيرَ هُنَا يَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَفَيَكُونُ هَذَانِ الِاسْمَانِ مِنْ أَسْمَائِهِ أَيْضًا وَيَكُونُ مَعْنَى وَصْفِهِ بِهِمَا هُنَا أَنَّهُ الْكَامِلُ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ اللَّذَيْنِ يُدْرِكُ بِهِمَا الْآيَاتِ الَّتِي يُرِيهِ إيَّاهَا وَقال تعالى: {إنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} فَهَذَا يُحْتَمَلُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى نَقَلْنَاهُ مِنْ حَالَةِ النُّطْفَةِ إلَى حَالَةٍ عَظِيمَةٍ.
وَمُحْتَمَلًا ابْتِلَاؤُهُ.
فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ تَدَبُّرُهُ، وَتَدَبُّرُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْعَقْلِ، وَأَعْظَمُ الْحَوَاسِّ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْعَقْلِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ.
فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَجِيءُ وَصْفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَبِأَنَّهُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ أَكْمَلَ مِنْهُ فِي التَّدَبُّرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْبَصَرِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. اهـ.

.تفسير الآيات (2- 3):

قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إسرائيل أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}

.مناسبة الآيتين لما قبلهما:

قال البقاعي:
ولما ثبت بهذه الخارقة ما أخبر به عن نفسه المقدسة من عظيم القدرة على كل ما يريد، وما حباه صلى الله عليه وعلى آله وسلم به من الآيات البينات في هذا الوقت اليسير، أتبعه ما منح في المسير من مصر إلى الأرض المقدسة من الآيات في مدد طوال جدًا موسى عليه السلام الذي كان أعظم الأنبياء بركة على هذه الأمة ليلة الإسراء لما أرشد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليه من مراجعة الله تعالى في تخفيف الصلاة حتى رجعت من خمسين إلى خمس مع أجر خمسين، والذي كان أنهى العروج به إذ ناجاه الله وقربه رأس جبل الطور بعد الأمر بالرياضة بالصوم والتخلي أربعين يومًا، والذي تقدم في آخر النحل أن قومه اختلفوا عليه في السبت، تنفيرًا من مثل حالهم، وتسلية عمن تبعهم في تكذيبهم وضلالهم، وذلك في سياق محذر للمكذبين عظائم البلاء، فقال تعالى عاطفًا على ما تقديره، فآتينا عبدنا محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم الكتاب المفصل المعجز، وجعلناه هدى للخلق كافة، وتولينا حفظه فكان آية باقية حافظًا لدينه دائمًا: {وءاتينا} أي بعظمتنا {موسى الكتاب} أي الجامع لخيري الدارين لتقواه وإحسانه، معظمًا له بنون العظمة، فساوى بين النبيين في تعظيم الإراءة والإيتاء وخص محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإضافة آياته إلى مظهر العظمة، وكان إيتاء موسى عليه السلام الكتاب في نيف وأربعين سنة بعد أن أخرج معه بني إسرائيل من حبائل فرعون وجنوده الذين كانوا لا يحصون كثرة بتلك الآيات الهائلة التي لا يشك عاقل أن من قدر عليها لا يمتنع عليه شيء أراده، وفي هذه المدة الطويلة- بل بزيادة- كان وصول بني إسرائيل من مصر إلى هذا المسجد الذي أوصلنا عبدنا إليه ورددناه إليكم في بعض ليلة راكبًا البراق الذي كان يركبه الأنبياء قبله، يضع حافره في منتهى طرفه، وبنو إسرائيل كانوا يسيرون جميع النهار مجتهدين ثم يبيتون في الموضع الذي أدلجوه منه في التيه لا يقدرون أن يجوزوه أربعين سنة- على ما قال كثير من العلماء، أو أنهم كانوا في هذه المدة يدورون حول جبل أدوم كما في التوراة، فثبت أنا إنما نفعل بالاختيار على حسب ما نراه من الحكم، ثم ذكره ثمرة كتاب موسى عليه السلام فقال تعالى: {وجعلناه} أي الكتاب، بما لنا من العظمة {هدى}.
ولما كان هذا التنوين يمكن أن يكون للتعظيم يستغرق الهدى، بين الحال بقوله: {لبني إسرائيل} بالحمل على العدل في التوحيد والأحكام، وأسرينا بموسى عليه السلام وبقومه من مصر إلى بلاد المسجد الأقصى، فأقاموا سائرين إليها أربعين سنة ولم يصلوا، ومات كل من خرج منهم من مصر إلا النقيبين الموفيين بالعهد، فقد بان الفصل بين الإسرائين كما بان الفصل بين الكتابين، فذكر الإسراء أولًا دليل على حذف مثله لموسى عليه السلام ثانيًا، وذكر إيتاء الكتاب ثانيًا دليل على حذف مثله أولًا، فالآية من الاحتباك؛ ثم نبه على أن المراد من ذلك كله التوحيد اعتقادًا وعبادة بقوله تعالى: {ألا} أي لئلا {تتخذوا} بالياء التحتية في قراءة أبي عمرو، وبالفوقانية في قراءة الباقين، فنبه بصيغة الافتعال على أنه- لكثرة ما على وحدانيته من الدلائل، وله إلى خلقه من المزايا والفضائل- لا يعدل عنه إلى غيره إلا بتكلف عظيم من النفس، ومنازعة بين الهوى والعقل وما فطر سبحانه عليه النفوس من الانقياد إليه والإقبال عليه، ونفر من له همة علية ونفس أبية من الشرك بقوله منبهًا بالجار على تكاثر الرتب دون رتبة عظمته سبحانه وعد الاستغراق لها، تاركًا نون العظمة للتنصيص على المراد من دون لبس بوجه: {من دوني} وقال تعالى: {وكيلًا} أي ربًا يكلون أمورهم إليه ويعتمدون عليه من صنم ولا غيره، لتقريب إليه بشفاعة ولا غيرها- منبهًا بذكر الوكالة على سفه آرائهم في ترك من يكفي في كل شيء إلى من لا كفاية عنده لشيء، ثم أتبعه ما يدل على شرفهم بشرف أبيهم، وأنه لم ينفعهم إدلاءهم إليه- عند إرادة الانتقام- بما ارتكبوا من الإجرام، فقال- منبهًا على الاهتمام بالتوحيد والأمر بالإخلاص بالعود إلى مظهر العظمة حيث لا لبس، ناصبًا على الاختصاص في قراءة أبي عمرو، وعلى النداء عند الباقين، تذكيرًا بنعمة الإيحاء من الغرق: {ذرية من حملنا} أي في السفينة بعظمتنا، على ظهر ذلك الماء الذي طبق ما تحت أديم السماء، ونبه على شرفهم وتمام نعمتهم بقوله تعالى: {مع نوح} أي من أولاده وأولادهم الذين أشرفهم إبراهيم الذي كان شاكرًا ثم إسرائيل عليهما السلام، لأن الصحيح أن من كان معه من غيرهم ماتوا ولم يعقبوا، ولم يقل: ذرية نوح، ليعلم أنهم عقب أولاده المؤمنين لتكون تلك منة أخرى؛ ثم نبه على تقواه وإحسانه حثًا على الاقتداء به بقوله: {إنه كان} أي كونًا جبليًا {عبدًا شكورًا} أي مبالغًا في الشكر الذي هو صرف جميع ما أنعم الله به فيما خلقه له فأحسن إليه لشكره بأن جعل في ذريته النبوة والكتاب كما فعل بإبراهيم عليه السلام لأنه كان شاكرًا، فاقتدوا بهذين الأبوين العظيمين في الشكر يزدكم، ولا تقلدوا غيرهما في الكفر يعذبكم، وخص نوحًا عليه السلام لأنه ما أملى لأحد ما أملى لقومه ولا أمهل أحدًا ما أمهلهم، ثم أهلكهم أجمعين كما أومأ إليه قوله: {حملنا} إهلاك نفس واحدة، ثم أذهب الماء بعد إغراقهم بالتدريج في مدة طويلة، فثبت أنه منزه عن العجلة، وأنه سبحانه تارة يفعل الأمور الكثيرة الشاقة في أسرع وقت، وترة يعمل ما هو دونها في أزمان طوال، فبان كالشمس أنه إنما يفعل على حسب ما يريد مما تقتضيه حكمته؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مما ذلك؟ يجمع الله الناس: الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فذكر حديث الشفاعة العظمى وإتيانهم الأنبياء آدم وبعده أولي العزم عليهم الصلاة والسلام، وأنهم يقولون لنوح عليه السلام: وقد سماك الله عبدًا شكورًا، وكلهم يتبرأ ويحيل على من بعده إلى أن وصل الأمر نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربنا، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله عليّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع! فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده! إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى. اهـ.