فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {لِّبَنِي إسرائيل} يجوز تعلُّقُه بنفس {هدى} كقوله: {يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: 35]، وأَنْ يتعلَّقَ بالجَعْل، أي: جعلناه لأجلِهِم، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ نعتًا ل {هُدى}.
قوله: {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ} يجوز أَنْ تكون أَنْ ناصبةً على حَذْفِ حرفِ العلة، أي: لئلا تتَّخذوا، وقيل: لا مزيدةٌ، والتقدير: كراهةَ أَنْ تتخذوا، وأنْ تكونَ المفسرةَ ولا ناهيةٌ، فالفعلُ منصوبٌ على الأول مجزومٌ على الثاني، وأَنْ تكونَ مزيدةً عند بعضِهم، والجملةُ التي بعدها معمولةٌ لقولٍ مضمر، أي: مقولًا لهم: لا تتخذوا، أو قلنا لهم: لا تتخذوا، وهذا ظاهرٌ في قراءةِ الخطاب، وهذا مردودٌ بأنه ليس من مواضعِ زيادةِ أَنْ.
وقرأ أبو عمرو: {أَنْ لا يتَّخذوا} بياء الغَيْبة جَرْيًا على قوله: {لبني إسرائيل} والباقون بالخطاب التفاتًا.
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}
قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ}: العامَّةُ على نصبها وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها منصوبةٌ على الاختصاصِ، وبه بدأ الزمخشري. الثاني: أنَّها منصوبَةً على البدلِ من {وَكِيلًا}، أي: أن لا تتخذوا من دونِه ذريةَ مَنْ حَمَلْنا. الثالث: أنها منصوبةٌ على البدلِ مِنْ {موسى}، ذكره أبو البقاء وفيه بُعْدٌ بعيد. الرابع: أنها منصوبةٌ على المفعولِ الأولِ لـ {تتخذوا}، والثاني هو {كيلًا} فقُدِّم، ويكون {كيلًا} ممَّا وقع مفردَ اللفظ والمَعْنِيُّ به جمعٌ، أي: لا تتخذوا ذريةَ مَنْ حَمَلْنا مع نوح وُكَلاءَ كقوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا} [آل عمران: 80].
الخامس: أنها منصوبةٌ على النداء، أي: يا ذريةَ مَنْ حَمَلْنا، وخَصُّوا هذا الوجهَ بقراءة الخطاب في {تَّخذوا} وهو واضحٌ عليها، إلا أنه لا يَلْزَمُ، وإن كان مكيٌّ قد منع منه فإنه قال: فأمَّا مَنْ قرأ {يتَّخذوا} بالياء فذريَّةَ مفعولٌ لا غيرَ، ويَبْعُدُ النداءُ؛ لأن الياءَ للغَيْبة والنداءَ للخطابِ، فلا يجتمعان إلا على بُعْدٍ، وليس كما زعم، إذ يجوزُ أن يُناديَ الإِنسانَ شخصًا ويُخْبِرَ عن آخرَ فيقول: يا زيدُ ينطلقٌ بكرٌ وفعلتَ كذا ويا زيدُ ليفعلْ عمروٌ كيتَ وكيت.
وقرأت فرقةٌ {ذُرِّيَّةُ} بالرفع، وفيها وجهان، أحدهما: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هو ذريَّةُ، ذكره أبو البقاء وليس بواضحٍ، والثاني: أنه بدلٌ من واوِ {تتَّخذوا} قال ابن عطية: ولا يجوز ذلك في القراءةِ بالتاءِ، لأنك لا تُبْدِلُ من ضميرٍ مخاطب، لو قلت: ضربْتُك زيدًا على البدل لم يَجُزْ.
وَرَدَّ عليه الشيخ هذا الإِطلاقَ وقال: ينبغي التفصيلُ، وهو إن كان بدلَ بعضٍ أو اشتمالٍ جاز، وإن كان كلًا مِنْ كل، وأفاد الإِحاطةَ نحو جئتُمْ كبيرُكم وصغيركم جَوَّزه الأخفش والكوفيون. قال: وهو الصحيحُ. قلت: وتمثيلُ ابنِ عطيةَ بقولِه: ضَرَبْتُكَ زيدًا قد يَدْفع عنه هذا الردَّ.
وقال مكي: ويجوز الرفعُ في الكلامِ على قراءةِ مَنْ قرأ بالياء على البدلِ من المضمرِ في {يتَّخذوا} ولا يَحْسُنُ ذلك في قراءة التاء؛ لأنَّ المخاطبَ لا يُبْدَلُ منه الغائبُ، ويجوز الخفضُ على البدل من {بني إسرائيل}. قلت: أمَّا الرفعُ فقد تقدَّم أنه قرئ به وكأنه ام يَطَّلِعْ عليه، وأمَّا الجرُّ فلم يُقْرَأْ به فيما عَلِمْتُ ويَرِد عليه في قوله: لأنَّ المخاطب لا يُبْدَلُ منه الغائبُ ما وَرَدَ على ابن عطية، بل أَوْلَى لأنه لم يذكر مثالًا يبيِّن مرادَه كما فعل ابنُ عطية.
قوله تعالى: {مَنْ حَمَلْنَا}: يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إسرائيل أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)}.
أرسل موسى عليه السلام بالكتاب كما أرسل نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ نَبِيَّنَا- صلوات الله عليه- كان أوفى- سماعًا-؛ فإنَّ الشمسَ في طلوعها وإشراقها تكون أقربَ ممن طلعت له من حقائقها.
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} أي يا ذريةَ مَنْ حملنا مع نوح على النداء {إنه كان عبدًا شكورًا}.
وكان يضرب في كل كما في القصة سبعين مرة، وكان يشكر، كما أنه كان يشكر الله ويصبر على قومه إلى أن أوحى الله إليه: أنه لن يؤمن إلا من قد آمن، وأُمِرَ حين دعا عليهم فقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26].
ويقال الشكور هو الذي يكون شكره على توفيقِ اللَّه له لِشُكْرِه، ولا يتقاصر عن شكره لِنِعَمِه.
ويقال الشكور الذي يشكر بماله، ينفقه في سبيل الله ولا يدََّخِره، ويشكر بنفْسِه فيستعملها في طاعة الله، لا يُبْقِي شيئًا من الخدمة يدخره، ويشكر بقلبِه ربَّه فلا تأتي عليه ساعةٌ إلا وهو يذكره. اهـ.

.تفسير الآيات (4- 6):

قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسرائيل فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم أتبع ذلك ما يدل على شرف كتاب موسى وصحة نسبته إليه تعالى بما يقتضي شمول العلم وتمام القدرة بما كشف عنه الزمان من صدق إخباره، وفظاظة وعيده وإنذاره، تنبيهًا على أن من كذب بكتابه أهلكه كائنًا من كان وإن طال إمهاله، فلا تغتروا بحلمه لأن الملوك لا تقر على أمر يقدح في ملكها، فقال تعالى: {وقضينا} أي بعظمتنا بالوحي المقطوع به، منزلين ومنهين {إلى بني إسرائيل} أي عبدنا يعقوب عليه السلام الذي كان أطوع أهل زمانه لنا {في الكتاب} الذي أوصلناه إليهم على لسان موسى عليه السلام {لتفسدن} أكد بالدلالة على القسم باللام لأنه يستبعد الإفساد مع الكتاب المرشد {في الأرض} أي المقدسة التي كأنها لشرفها هي الأرض بما يغضب الله {مرتين ولتعلن} أي بما صرتم إليه من البطر لنسيان المنعم {علوًا كبيرًا} بالظلم والتمرد، ولا ينتقم منكم إلا على حسب ما تقتضيه حكمتنا في الوقت الذي نريد بعد إمهال طويل؛ والقضاء: فصل الأمر على إحكام {فإذا جاء وعد أولاهما} أي وقته الذي حددناه له للانتقام فيه {بعثنا} أي بعظمتنا؛ ونبه على أنهم أعداء بقوله: {عليكم} ونبه على عظمته، قدرته وسعة ملكه بقوله تعالى: {عبادًا لنا} أي لا يدان لكم بهم لما وهبنا لهم من عظمتنا {أولي بأس} أي عذاب وشدة في الحرب شديدة {شديد فجاسوا} أي ترددوا مع الظلم والعسف وشديد السطوة؛ والجوس: طلب الشيء باستقصاء {خلال} أي بين {الديار} الملزوم لقهر أهلها وسفولهم بعد ذلك العلو الكبير؛ والخلال: انفراج ما بين الشيئين وأكثر لضرب من الوهن {وكان} أي ذلك البعث ووعد العقاب به {وعدًا مفعولًا} أي لا شك في وقوعه ولابد أن يفعل لأنه لا حائل بيننا وبينه، ولا يبدل القول إلا عاجز أو جاهل؛ عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أنهم جالوت وجنوده؛ وعن سعيد بن المسيب أنهم بختنصر وجنوده؛ وعن الحسن: العمالقة؛ وعن سعيد بن جبير: سنجاريب وجنوده؛ قال في السفر الخامس من التوراة إشارة إلى هذه المرة الأولى، والله أعلم: وإن أنتم لم تسمعوا قول الله ربكم لم تحفظوا ولم تعملوا بجميع سننه التي آمركم بها اليوم، ينزل بكم هذا اللعن الذي أقص عليكم كله، ويدرككم العقاب، وتكونوا ملعونين في القرية والسفر وفي الخصر، ويلعن نسلكم وثمار أرضكم، وتكونوا ملعونين إذا دخلتم، وملعونين إذا خرجتم، ينزل بكم الرب البلاء والحشرات، وينزل بكم الضربات الشديدة وبكل شيء تمدون أيديكم إليه لتعملوه حتى يهلككم ويتلفكم سريعًا، من أجل سوء أعمالكم وترككم لعبادتي، يسلط الله عليكم الموت فيهلككم من الأرض التي تدخلونها لترثوها، يضربكم الله بحيران العقل والبهق والبرص، وبالحريق باشتمال النار، وباليرقان والجرب والسموم، ويسلط عليكم هذه الشعوب حتى تهلكوا، وتكون السماء التي فوقكم عليكم شبه النحاس، والأرض التي تحتكم شبه الحديد، ويصير الرب مطر أرضهم غبارًا ويكسركم الرب بين يدي أعدائكم، تخرجون إليهم في طريق واحدة وتهربون في سبعة طرق، وتكونون مثلًا وفزعًا لجميع مملكات الأرض، وتكون جيفكم طعامًا لجميع السباع وطيور السماء، ولا يذب أحد عنكم، ويضربكم الرب بالجراحات التي ضرب بها أهل مصر، ويبليكم بالبرص والزحير وبالحكة، ولا يكون لكم شفاء من ذلك، ويضربكم الرب بالعمى والكمه ورعب القلب، وتكونون تجسسون في الظهيرة مثل ما يتجسس العميان، ولا يتم شيء مما تعملون، ولا يكون له تمام، وتكونون مقهورين مظلومين مغصوبين كل أيام حياتكم ولا يكون لكم منقذ، تخطبون المرأة فيتزوجها غيركم، وتبنون بيتًا ويسكنه غيركم، وتغرسون كرومًا ولا تعصرون منها، وتذبحون ثيرانكم بين أيديكم ولا تأكلون منها شيئًا، ويؤخذ حمارك ظلمًا ولا تقدر أن تخلصه، ويسوق العدو أغنامكم ولا يكون لكم منقذ، ويسبي بنيك وبناتك شعب آخر وتنظر إليهم ولا تقدر لهم على خلاص، وتشقى وتغتم نهارك كله أجمع ولا يكون لك حيلة، وثمار أرضك وكل كدك يأكله شعب لا تعرفه، وتكون مضطهدًا مظلومًا طول عمرك، ويضربك الرب بجرح رديء على ركبتيك وساقيك ولا يكون لك، ويسلط عليك الجراحات من قرنك إلى قدمك ويسوقك الرب، ويسوق ملكك الذي ملكته عليك إلى شعب لم يعرفه أبوك، وتعبد هناك آلهة عملت من خشب وحجارة، وتكون مثلًا وعجبًا ويفكر فيك كل من يسمع خبرك ثم قال: ويولد لك بنون وبنات ولا يكونون لك بل يسبون، وينطلق بهم مسبيين.
ثم قال: ويسلط الرب عليك شعبًا يأتيك وأنت جائع ظمآن، وتخدم أعداءك الذين يسلطهم الله عليك من بعيد من أقصى الأرض، ويسرع إليك مثل طيران النسر شعب لا تعرف لغتهم شعب وجوههم صفيقة لا تستحيي من الشيوخ، ولا ترحم الصبيان، ويضيق عليك في جميع قراك حتى يظفر بسوراتك المشيدة التي تتوكل عليها وتثق بها، وتضطر حتى تأكل لحم ولدك من الحاجة والضيق الذي يضيق عليك عدوك، والرجل المدلل منكم المتلذذ المفيق تنظر عيناه إلى أخيه وحليلته وإلى من بقي من ولده جائعًا ولا يعطيهم من لحم ابنه الذي يأكل، لأنه لا يبقى عنده شيء من الاضطهاد والضيق الذي يضيق عليك عدوك في كل قراك، والمرأة المخدرة المدللة المفيقة التي لم تطأ الأرض قدماها من الدلال تنظر عيناها إلى زوجها وإلى ابنها وبنتها وإلى ولدها التي تلد، وهي تأكلهم، وذلك من الحاجة والفقر وعدم الطعام مما يضيق عليك عدوك ويضطهدك في جميع قراك.
ولما بين سبحانه أنه قادر على إذلال العزيز بعد ضخامة عزه، بين أنه مقتدر على إدالته على من قهره بعد طول ذله إذا نقاه من درنه وهذبه من ذنوبه، فقال تعالى مشيرًا بأداة التراخي إلى عظمة هذه الإدالة بخرقها للعوائد: {ثم رددنا} أي بما لنا من العظمة، وعجل لهم البشرى بقوله تعالى: {لكم} أي خاصة {الكرة} أي العودة والعظمة؛ وبين أن ذلك مع السطوة بقوله سبحانه: {عليهم} قال بعض المفسرين: في زمان داود عليه السلام {وأمددناكم} أي أعنَّاكم بعظمتنا {بأموال} تستعينون بها على قتال أعدائكم {وبنين} أي تقوون بهم {وجعلناكم} أي بعظمتنا {أكثر} أي من عدوكم {نفيرًا} أي ناسًا ينفرون معكم إذا استنفرتموهم للقتال ونحوه من المهمات، والظاهر أنه ليس المراد بهذه المرة ما كان على يدي داود عليه السلام لأن الله يقول في هذه المرة الثانية {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة} وداود عليه السلام أسس المسجد ولم يكمله، إنما أكمله ابنه سليمان عليهما السلام من بعده، والذي عز من قال ذلك أن بني إسرائيل كانوا قهروا قبل داود عليه السلام من الفلسطينيين وغيرهم، ثم كان خلاصهم على يده عليه السلام- كما مضت الإشارة إليه في سورة البقرة، قال في الزبور في المزمور الثالث عشر: من يعطي صهيون الخلاص لإسرائيل؟ إذا رد الرب سبي شعبه يتهلل يعقوب ويفرح إسرائيل؛ وفي الثالث والأربعين: اللهم! إنا قد سمعنا بآذاننا وأخبرنا آباؤنا بالأعمال التي صنعت في أيامهم الأولى، فلنسبحك يا إلهنا كل يوم، ونشكر اسمك إلى الدهر، الآن أضعفتنا وأقصيتنا، ولم تكن يا رب تصحب جيوشنا، لكن رددتنا على أعقابنا عن أعدائنا، واختطفنا مبغضونا، جعلتنا مأكلة كالغنم، مددتنا بين الشعوب، بعت شعبك بلا ثمن، أقللت كثرة عددهم، صيرتنا عارًا في جيرتنا، هزًا وطنزًا لمن حولنا، صرنا مثلًا في الشعوب، وهزًا للرؤوس في الأمم، حزني بين يديّ النهار كله، الخزي غطى وجهي، من صوت المعير، اللهم! إن هذا كله قد نالنا ولم ننس اسمك، ولا نكثنا عهدك، ولا صرفنا قلوبنا عنك، عدلت بقصدنا عن سبلك، أنزلتنا محال وعرة، غشيتنا بظلال الموت، ولم ننسك يا رب، وقال في المزمور الثامن والسبعين والذي بعده: اللهم! إن الأمم دخلت ميراثك ونجست هيكل قدسك، جعلوا أورشليم خرابًا كالمحرس، وصيروا جثث عبيدك طعامًا لطير السماء، ولحوم أصفيائك لوحوش الأرض، سفكوا دماءهم كالماء حول أورشليم وليس لهم دافن، صرنا عارًا في جيراننا، هزءًا وطنزًا لمن حولنا، حتى متى تسخط يا رب، دائمًا يشتعل مثل النار غضبك، أفض رجزك على الأمم الذين لا يعرفونك وعلى الملوك الذين لم يدعوا اسمك، فإنهم أكلوا يعقوب وأخربوا دياره، لا تذكر خطايانا الأولى بل تغشانا رأفتك سريعًا، لأنا قد تمسكنا جدًا، فكن لنا معينًا يا إلهنا ومخلصنا، ونمجد اسمك يا رب، نجنا واغفر لنا خطايانا لأجل اسمك الكريم، لئلا تقول الأمم: أين إلههم؟ عند ذلك تعلم الشعوب وتنظر عيوننا انتقام دماء عبيدك المسفوكة، وليدخل إليك تنهد الأسارى، وكمثل عظمة ذراعك أنقذ بني المقتولين، جاز جيراننا في حضنهم للواحد سبعة بالعار الذي عيروك يا رب! نحن شعبك وغنم رعيتك، نشكرك إلى الأبد ونخبر بتسابيحك من جيل إلى جيل.
أنصت يا راعي إسرائيل الذي هدى يوسف كالخروف، انظر أيها الجالس على الكروبين استعلن قدام إفرام وبنيامين ومنشا، وأظهر جبروتك وتعال لخلاصنا، اللهم! أقبل وأشرق وجهك علينا وخلصنا، اللهم ربنا القوي! حتى متى تسخط على صلاة عبيدك، وتطعمهم الخبز بدموعهم وتسقيهم الدموع بالكيل، جعلتنا عارًا لجيراننا، واستهزأ بنا أعداؤنا، اللهم رب القوات! أقبل بنا وأشرق وجهك علينا وخلصنا، أنت نقلت الكرمة من مصر، طردت الشعوب وغرستها، سهلت طريقًا أمامها، مكنت أصولها، امتلأت الأرض منها، ظلل الجبال ظلها وأغصانها على أرز الله، كذلك امتدت عروقها إلى البحر وإلى الأنهار فروعها، ثم إنك هدمت سياجها، وقطعها كل عابري السبيل، خنزير الغاب أفسدها، وحيوان الوحش رعتها، اللهم رب القوات! اعطف علينا، واطلع من السماء، وانظر وتعاهد هذه الكرمة، وأصلح الغرس الذي غرسته يمينك وابن الإنسان الذي قويته، ولتهلك الذين أحرقوها بالنار برجزك، ولتكن يدك على رجل يمينك وابن الإنسان الذي اصطفيته لك، لا تبعدنا منك وأنقذنا لنمجد اسمك، اللهم رب القوات! اعطف علينا وأشرق وجهك علينا وخلصنا؛ وفي الرابع والثمانين: رضيت يا رب عن أرضك، ورددت سبي يعقوب، غفرت ذنوب شعبك سترت جميع خطاياهم، سكنت كل رجزك، ورددت شدة غضبك؛ وفي الثامن والثمانين: قدوس إسرائيل ملكنا بالوحي، كلمت نبيك وقلت: إني جعلت عونًا للقوى، رفعت مختارًا من شعبي، ووجدت داود عبدي، مسحته بدهن قدسي، يدي أعانته، وذراعي قوته، عدوه لا يضره، وابن الخطيئة لا يذله، وقطعت أعداءه من بين يديه، ولمغضبيه قهرت، أمانتي ورحمتي معه، وباسمي يرتفع قرنه، جعلت في البحار طريقه، وفي الأنهار يمينه، هو يدعوني: أنت أبي وإلهي ناصري وخلاصي، وأنا أجعله بكرًا رفيعًا على جميع ملوك الأرض وأحفظ عليه رحمتي إلى الأبد؛ ثم قال: وأنت رفضت وأقصيت مسيحك، ونقضت عهد عبدك في الأرض، ودنست قدسه، وهدمت جميع سياجه، وكل حصونه أخفت، اختطفه عابرو السبيل، صار عارًا في جيرته، رفعت يمين أعدائه، فرحت جميع مبغضيه، رددت نصرة سيفه، لم تعنه في الحرب، أبطلت شجاعته، طرحت في الأرض كرسيه، صغرت أيام سنيه، صببت حزنًا عليه، فحتى متى تسخط يا رب؟ إلى الأبد يتقد مثل النار رجزك، اذكر خلقك لي، فإنك لم تخلق الإنسان باطلًا، من هو الإنسان الذي يعيش ولا يعاين الموت أو ينجي نفسه من الجحيم؟ اللهم! أين رحمتك القديمة التي حلفت بحقك لداود عليه السلام؟ اللهم أعداؤك عيروا آثار مسيحك، تبارك الرب إلى الأبد، يكون يكون؛ وفي الخامس بعد المائة: خلصنا يا إلهنا واجمعنا من الأمم لنشكر اسمك القدوس، ونفتخر بتسبيحك، تبارك الرب إله إسرائيل من الآن وإلى الأبد، يقول جميع الشعب: يكون، وفي الخامس والعشرين بعد المائة: إذا رد الرب سبي صهيون صرنا كالمتغربين، حينئذ تمتلىء أفواهنا فرحًا وألسنتنا تهليلًا، هناك يقال في الأمم: قد أكثر الرب الصنيع إلى هؤلاء، أكثر الرب الصنيع إلينا فصرنا فرحين، يا رب اردد سبينا كأودية اليمن، الذين يزرعون بالدموع ويحصدون بالفرح، كانوا ينطلقون يبذرون زرعهم باكين ويأتون مقبلين بالتهليل حاملين غلاتهم؛ وفي السادس والثلاثين بعد المائة: على أنهار بابل جلسنا هناك وبكينا حين ذكرنا صهيون، وعلقنا قيتاراتنا على الصفصاف الذي في وسطها، لأن الذين سبونا سألونا هناك قول التمجيد، والذين انطلقوا قالوا: سبحوا لنا في تسابيح صهيون! كيف نسبح لكم تسابيح الرب في أرض غريبة؟ إن نسيتك يا يروشليم فتنساني يميني، ويلصق لساني بحنكي إن لم أذكروك وإن لم أسبق وأصعد إلى يروشليم في ابتداء فرحي، اذكر يا رب بني أدوم في يوم أورشليم القائلين: اهدموا إلى الأساس.