فصل: الإسرائيليات في إفساد بني إسرائيل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الإسرائيليات في إفساد بني إسرائيل:

قال الدكتور محمد أبو شهبة:
ومن الإسرائيليات في كتب التفسير: ما يذكره بعض المفسرين عند قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: الآيات من 4-8].
وليس من قصدنا هنا: تحقيق مَرَّتَىْ إفسادهم، ومن سلط عليهم في كلتا المرتين، فلذلك موضع آخر.
وإنما الذي يتصل ببحثي: بيان ما روي من الإسرائيليات في هاتين المرتين، واسم من سلط عليهم، وصفته وكيف كان، وإلام صار أمره، وقد كانت معظم الروايات في بيان العباد ذوي البأس الشديد الذين سلطوا عليهم تدور حول بختنصر البابلي، وقد أحاطوه بهالة من العجائب، والغرائب، والمبالغات التي لا تصدق، وقد أخرج هذه الروايات ابن جرير في تفسيره، وأكثر منها جدا، وابن أبي حاتم والبغوي، وغيرهم عن ابن عباس، وابن مسعود، وعن سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعن السدي، وعن وهب بن منبه، وابن إسحاق، وغيرهم، وخرجها من غير ذكر أسانيدها مع عزوها إلى مخرجيها السيوطي في الدر المنثور.
وفيها ولا شك الكثير من أكاذيب بني إسرائيل التي اختلقها أسلافهم، وتنوقلت عليهم، ورواه أخلافهم من مسلمة أهل الكتاب الذين أسلموا، وأخذها عنهم بعض الصحابة والتابعين تحسينا للظن بهم، ورواها من غير تنبيه إلى ما فيها.
وفي هذه الأخبار الإسرائيلية ما يحتمل الصدق والكذب، ولكن الأولى عدم الاشتغال به، وأن لا يفسر القرآن به، وأن نقف عند ما قصه الله علينا، من غير أن نفسد جمال القرآن، وجلاله بمثل هذه الإسرائيليات.
وقد أكثر ابن جرير هنا من النقل عن ابن إسحاق، وفي بعضها روي عن ابن إسحاق عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، وفي بعضها بسنده عن وهب بن منبه في ذكر ابن إسحاق، وبذلك وقفنا على من كان المصدر الحقيقي لهذه المرويات، وأنه وهب، وأمثاله من مسلمة أهل الكتاب.
وقد سود ابن جرير بضع صفحات من كتابه في النقل عن ابن إسحاق وعن وهب ولا أحب أن أنقل هذا بنصه؛ فإن في ذلك تسويدًا للصفحات، ولكني سأذكر البعض ليكون القارئ لهذا التفسير على حذر من مثل ذلك.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثني ابن إسحاق قال: كان مما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل، وفي إحداثهم، ما هم فاعلون بعده، فقال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} إلى قوله: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}.
فكانت بنو إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم، متعطفا عليهم، محسنًا إليهم، فكان مما أنزل بهم في ذنوبهم ما كان قدم إليهم في الخبر على لسان موسى، مما أنزل بهم في ذنوبهم، فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع: أن ملكًا منهم كان يدعى صديقه، وكان الله إذا ملك الملك عليهم بعث نبيا يسدده، ويرشده، ويكون فيما بينه، وبين الله، ويحدث إليه في أمرهم لا ينزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون باتباع التوراة، والأحكام التي فيها وينهونهم عن المعصية، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة، فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شعياء بن أمصيا، وذلك قبل مبعث زكريا، ويحيى وعيسى، وشعياء الذي بشر بعيسى، ومحمد، فملك ذلك الملك بني إسرائيل، وبيت المقدس زمانا، فلما انقضى ملكه، عظمت فيهم الأحداث، وشعياء معه، بعث الله عليهم: سنجاريب ملك بابل، ومعه ستمائة ألف راية فأقبل سائرا حتى نزل نحو بيت المقدس، والملك مريض، في ساقه قرحة، فجاء النبي شعياء، فقال له: يا ملك بني إسرائيل: إن سنجاريب ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده، ستمائة ألف راية، وقد هابهم الناس، وفَرَقُوا منهم، فكبُر ذلك على الملك فقال: يا نبي الله، هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به؟ كيف يفعل الله بنا، وبسنجاريب وجنوده؟ فقال له النبي عليه السلام: لم يأتني وحي أُحدث إلي في شأنك، فبينما هم على ذلك: أوحى الله إلى شعياء النبي: أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته، ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته، فإنك ميت.. ثم استرسل ابن جرير في الرواية، حتى استغرق ذلك أربع صفحات كبار من كتابه لا يشك الناظر فيها أنها من أخبار بني إسرائيل، وفيما ذكره ابن جرير عن ابن إسحاق الصدق، والكذب، والحق، والباطل، ولسنا في حاجة إليه في تفسير الآيات.
وفي الإفساد الثاني، ومن سلط عليهم، روى ابن جرير أيضا قال: حدثني محمد بن سهل بن عسكر، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه قالا: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثنا ابن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يُتَّهَم، عن وهب بن منبه اليماني واللفظ لحديث ابن حميد أنه كان يقول يعني وهب بن منبه: قال الله تبارك وتعالى لأرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل: يا أرميا من قبل أن أخلقك اخترتك، ولأمر عظيم اختبأتك، فبعث الله أرميا إلى ذلك الملك من بني إسرائيل، يسدده، ويرشده ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه، وبين الله، قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم، ونسوا ما كان الله سبحانه وتعالى صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سنجاريب وجنوده، فأوحى الله إلى أرمياء: أنت أئت قومك من بني إسرائيل، واقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمتي عليهم، وعرفهم أحداثهم... واسترسل وهب بن منبه فيما يذكره من أخبار بني إسرائيل حتى استغرق ذلك من تفسير ابن جرير ثلاث صفحات كبار إلى غير ذلك، مما ذكره ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما، من قصص عجيب غريب في بختنصر هذا، وما خرب من البلاد وما قتل من العباد.
الكذب على رسول الله بنسبة هذه الإسرائيليات إليه:
ولو أن هذه الإسرائيليات والأباطيل وقف بها عند رواتها من أهل الكتاب الذين أسلموا، أو عند من رواها عنهم من الصحابة والتابعين لهان الأمر، ولكن عظم الإثم أن تنسب هذه الإسرائيليات إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم ولا أشك أن هذا الدس من عمل زنادقة اليهود أو الفرس.
روى ابن جرير في تفسيره، قال: حدثنا عصام بن داود بن الجراح، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا سفيان بن سعيد الثوري قال: حدثنا منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بني إسرائيل لما اعتدوا، وعلوا، وقتلوا الأنبياء، بعث الله عليهم ملك فارس: بختنصر وكان الله ملكه سبعمائة سنة فسار إليهم، حتى دخل بيت المقدس، فحاصرها، وفتح، وقتل على دم زكريا سبعين ألفا، ثم سبي أهلها، وبني الأنبياء، وسلب حلي بيت المقدس، واستخرج منها سبعين ألفا، ومائة ألف عجلة من حلي، حتى أوردها بابل، قال حذيفة: فقلت يا رسول الله لقد كان بيت المقدس عظيما عند الله، قال: أجل، بناه سليمان بن داود من ذهب، ودر، وياقوت، وزبرجد وكان بلاطة من ذهب، وبلاطة من فضة، وعمده ذهبا، أعطاه الله ذلك، وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين، فسار بختنصر بهذه الأشياء، حتى دخل بها بابل، فأقام بنو إسرائيل في يديه مائة سنة، تعذبهم المجوس، وأبناء المجوس، فيهم الأنبياء، وأبناء الأنبياء ثم إن الله رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس، يقال له: كورش وكان مؤمنا، أن سر إلى بقايا بني إسرائيل حتى تستنقذهم فسار كورش ببني إسرائيل، وحلي المقدس حتى رده إليه فأقام بنو إسرائيل مطيعين الله مائة سنة، ثم إنهم عادوا في المعاصي، فسلط الله عليهم بطيانموس فغزا بأبناء من غزا مع بختنصر، فغزا بني إسرائيل، حتى أتاهم بيت المقدس، فسبى أهلها، وأحرق بيت المقدس، وقال لهم: يا بني إسرائيل، إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسباء، فعادوا في المعاصي، فسير الله عليهم السباء الثالث، ملك رومية، يقال له: فاقس بن أسبايوس فغزاهم في البر والبحر فسباهم، وسبى حلي بيت المقدس، وأحرق بيت المقدس بالنيران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا من صنعة حلي بيت المقدس، ويرده المهدي إلى بيت المقدس، وهو ألف سفينة، وسبعمائة سفينة، يرسي بها على على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس، وبها يجمع الله الأولين والآخرين»، وعفا الله عن ابن جرير، كيف استجاز أن يذكر هذا الهراء، وهذه التخريفات عن المعصوم صلى الله عليه وسلم وكان عليه أن يصون كتابه عن أن يسوده بأمثال هذه المرويات الباطلة.
ويرحم الله الإمام الحافظ الناقد ابن كثير، حيث قال في تفسيره: وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثا أسنده عن حذيفة مرفوعا مطولا، وهو حديث موضوع لا محالة، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث، والعجب كل العجب، كيف راجَ عليه مع جلالة قدره، وإمامته، وقد صرح شيخنا: أبو الحجاج المزي رحمه الله بأنه موضوع مكذوب، وكتب ذلك على حاشية الكتاب يعني كتاب تفسير ابن جرير وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية، لم أرَ تطويل الكتاب بذكرها، لأن منها: ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم، ومنها: ما قد يحتمل أن يكون صحيحا، ونحن في غنية عنها ولله الحمد، وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله، ولا رسوله إليهم، وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغَوا، وبغَوا سلط الله عليهم عدوهم، فاستباح بيضتهم، وسلك خلال بيوتهم، وأذلهم، وقهرهم جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا كثيرا من الأنبياء والعلماء.
التفسير الصحيح للآية:
وهذا هو الحق الذي ينبغي أن يصار إليه في الآية، والقصص القرآني لا يعني بذكر الأشخاص، ولا الأماكن؛ لأن الغرض منه العبرة، والتذكير، والتعليم والتأويل، والذي دلت عليه الآية: أنهم أفسدوا مرتين في الزمن الأول، وظلموا وبغوا، فسلط الله عليهم في الأولى من أذلهم وسباهم، ولا يغنيني أن يكون هذا سنجاريب أو بختنصر وجيشه؛ إذ لا يترتب على العلم به فائدة تُذكر، وسلط الله عليهم في الثانية من أذلهم، وساء وجوههم، ودخل المسجد الأقصى، فأفسد فيه، ودمر، ولا يعنينا أن يكون هذا الذي نكل بهم هو: طيطوس الروماني أو غيره؛ لأن المراد من سياق قصته ما قضاه الله على بني إسرائيل أنهم أهل فساد، وبطر، وظلم، وبغي، وأنهم لما أفسدوا وطغوا، وتجبروا سلطه الله عليهم من عباده من نكل بهم، وأذلهم، وسباهم، وشردهم، ثم إن الآيات دلت أيضا على أن بني إسرائيل لا يقف طغيانهم، وبغيهم، وإفسادهم عند المرتين الأوليين، بل الآية توحي بأن ذلك مستمر إلى ما شاء الله، وأن الله سيسلط عليهم من يسومهم العذاب، ويبطش بهم، ويرد ظلمهم وعدوانهم، قال عز شأنه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}، أليس في قوله هذا إنذار ووعيد لهم إلى يوم القيامة؟! بلى.
وما يؤكد هذا الإنذار والوعيد قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، فهل يسلط الله عليهم اليوم من يرد ظلمهم وبغيهم، وطردهم أهل فلسطين من ديارهم، واغتصاب الديار، واستذلال العباد، واستهانتهم بالقيم الخلقية، والحقوق الإنسانية؟
ذلك ما نرجو، وما ذلك على المسلمين والعرب بعزيز، لو وحدوا الكلمة، وجمعوا الصفوف، وأخذوا الحذر والأهبة، وأعدوا العدة فاللهم حقق وأعِنْ. اهـ.