فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وقضينا إِلى بني إِسرائيل} فيه قولان:
أحدهما: أخبرناهم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: قضينا عليهم، رواه العوفي عن ابن عباس.
وبه قال قتادة، فعلى الأول: تكون {إِلى} على أصلها، ويكون الكتاب: التوراة، وعلى الثاني: تكون {إِلى} بمعنى على، ويكون الكتاب الذِّكر الأول.
قوله تعالى: {لتُفْسِدُنَّ في الأرض} يعني: أرض مصر {مرتين} بالمعاصي ومخالفة التوراة.
وفي مَنْ قتلوه من الأنبياء في الفساد الأول قولان.
أحدهما: زكريا، قاله السدي عن أشياخه.
والثاني: شَعْيَا، قاله ابن إِسحاق.
فأما المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني: فهو يحيى بن زكريا.
قال مقاتل: كان بين الفسادَين مائتا سنة وعشر سنين.
فأما السبب في قتلهم زكريا، فإنهم اتهموه بمريم، وقالوا: منه حملت، فهرب منهم، فانفتحت له شجرة فدخل فيها وبقي من ردائه هدب، فجاءهم الشيطان فدلَّهم عليه، فقطعوا الشجرة بالمنشار وهو فيها.
وأما السبب في قتلهم شعيا، فهو أنه قام فيهم برسالةٍ مِنَ الله ينهاهم عن المعاصي.
وقيل: هو الذي هرب منهم فدخل في الشجرة حتى قطعوه بالمنشار، وأن زكريا مات حتف أنفه.
وأما السبب في قتلهم يحيى بن زكريا، ففيه قولان.
أحدهما: أن ملِكهم أراد نكاح امرأة لا تحلُّ له، فنهاه عنها يحيى.
ثم فيها أربعة أقوال.
أحدها: أنها ابنة أخيه، قاله ابن عباس.
والثاني: ابنته، قاله عبد الله بن الزبير.
والثالث: أنها امرأة أخيه، وكان ذلك لا يصلح عندهم، قاله الحسين بن علي عليهما السلام.
والرابع: ابنة امرأته، قاله السدي عن أشياخه، وذكر أن السبب في ذلك: أن ملك بني إِسرائيل هويَ بنت امرأته، فسأل يحيى عن نكاحها، فنهاه، فحنقت أمها على يحيى حين نهاه أن يتزوج ابنتها، وعمدت إِلى ابنتها فزينتها وأرسلتها إِلى الملك حين جلس على شرابه، وأمرتْها أن تسقيَه، وأن تعرض له، فإن أَرادها على نفسها، أَبت حتى يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طَسْت، ففعلت ذلك، فقال: ويحك سليني غير هذا، فقالت: ما أريد إِلا هذا، فأمر، فأُتي برأسه والرأس يتكلم ويقول: لا تحلُّ لك، لا تحلُّ لك.
والقول الثاني: أن امرأة الملك رأت يحيى عليه السلام وكان قد أُعطيَ حسنًا وجمالًا، فأرادته على نفسه، فأبى، فقالت لابنتها: سلي أباك رأس يحيى، فأعطاها ما سألت، قاله الربيع بن أنس.
قال العلماء بالسِّيَر: ما زال دم يحيى يغلي حتى قتل عليه من بني إِسرائيل سبعون ألفًا، فسكن، وقيل: لم يسكن حتى جاء قاتله، فقال: أنا قتلته، فقُتِل، فسكن.
قوله تعالى: {ولتَعْلُنَّ عُلُوًّا كبيرًا} أي: لتَعَظَّمُنّ عن الطاعة ولتبغُنَّ.
قوله تعالى: {فإذا جاء وعد أولاهما} أي: عقوبة أُولى المرَّتين {بعثنا} أي: أرسلنا {عليكم عبادًا لنا} وفيهم خمسة أقوال.
أحدها: أنهم جالوت وجنوده، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: بُخْتَنَصَّر، قاله سعيد بن المسيب، واختاره الفراء، والزجاج.
والثالث: العمالقة، وكانوا كفارًا، قاله الحسن.
والرابع: سنحاريب، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: قوم من أهل فارس، قاله مجاهد.
وقال ابن زيد: سلط [الله] عليهم سابور ذا الأكتاف من ملوك فارس.
قوله تعالى: {أُولي بأسٍ شديد} أي: ذوي عدد وقوة في القتال.
وفي قوله: {فجاسوا خلال الديار} ثلاثة أقوال.
أحدها: مشَوا بين منازلهم، قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقال مجاهد: يتجسَّسون أخبارهم، ولم يكن قتال.
وقال الزجاج: طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه؟ والجوس: طلب الشيء باستقصاء.
والثاني: قتلوهم بين بيوتهم، قاله الفراء، وأبو عبيدة.
والثالث: عاثوا وأفسدوا، يقال: جاسوا وحاسوا، فهم يجوسون ويحوسون إِذا فعلوا ذلك، قاله ابن قتيبة.
فأما الخلال: فهي جمع خَلَل، وهو الانفراج بين الشيئين.
وقرأ أبو رزين، والحسن، وابن جبير، وأبو المتوكل: {خَلَلَ الديار} بفتح الخاء واللام من غير ألفٍ.
{وكان وعْدًا مفعولا} أي: لابد من كونه.
قوله تعالى: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} أي: أظفرناكم بهم.
والكَرَّة، معناها: الرجعة والدُّولة، وذلك حين قتل داودُ جالوتَ وعاد ملكهم إِليهم.
وحكى الفراء أن رجلا دعا على بختنصر، فقتله الله، وعاد ملكهم إِليهم.
وقيل: غزَوا ملك بابل فأخذوا ما كان في يده من المال والأسرى.
قوله تعالى: {وجعلناكم أكثر نفيرًا} أي: أكثر عددًا وأنصارًا منهم.
قال ابن قتيبة: النَّفير والنافر واحد، كما يقال: قدير وقادر، وأصله: مَنْ يَنْفِرُ مع الرجل من عشيرته وأهل بيته. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب}
وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية: {فِي الكتب} على لفظ الجمع. وقد يرِد لفظ الواحد ويكون معناه الجمع؛ فتكون القراءتان بمعنًى واحد. ومعنى {قَضَينا} أعلمنا وأخبرنا؛ قاله ابن عباس: وقال قتادة: حكمنا؛ وأصل القضاء الإحكام للشيء والفراغ منه. وقيل: قضينا أوحينا؛ ولذلك قال: {إلى بني إسرائيل}. وعلى قول قتادة يكون {إلى} بمعنى على؛ أي قضينا عليهم وحكمنا. وقاله ابن عباس أيضًا. والمعنِيّ بالكتاب اللوح المحفوظ.
{لَتُفْسِدُنَّ} وقرأ ابن عباس {لَتُفْسَدُنّ}. عيسى الثّقفي {لَتَفْسُدُنّ}. والمعنى في القراءتين قريب؛ لأنهم إذا أفسدوا فسدوا، والمراد بالفساد مخالفة أحكام التوراة. {فِي الأرض} يريد أرض الشام وبيت المقدس وما والاها. {مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ} اللام في {لتفسدن} {ولتعلن} لام قسم مضمر كما تقدّم.
{عُلُوًّا كَبِيرًا} أراد التكبر والبَغْيَ والطغيان والاستطالة والغَلَبة والعدوان. قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا}: أي أولَى المرّتين من فسادهم.
{بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} هم أهل بابل، وكان عليهم بُخْتَنَصّر في المرة الأولى حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه؛ قاله ابن عباس وغيره. وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد. وقال مجاهد: جاءهم جند من فارس يتجسّسون أخبارهم ومعهم بختنصر فوَعَى حديثهم من بين أصحابه، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال، وهذا في المرة الأولى، فكان منهم جَوْسٌ خلال الديار لا قتل؛ ذكره القشيري أبو نصر. وذكر المهدوِيّ عن مجاهد أنه جاءهم بختنصر فهزمه بنو إسرائيل، ثم جاءهم ثانية فقتلهم ودمرهم تدميرا. ورواه ابن أبي نَجيح عن مجاهد؛ ذكره النحاس.
وقال محمد بن إسحاق في خبر فيه طول: إن المهزوم سَنْحَاريب ملك بابل، جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية مائة ألف فارس فنزل حول بيت المقدس فهزمه الله تعالى وأمات جميعهم إلا سنحاريب وخمسة نفر من كُتّابه، وبعث ملك بني إسرائيل واسمه صديقة في طلب سنحاريب فأخِذ مع الخمسة، أحدهم بختنصر، فطرح في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يومًا حول بيت المقدس وإيلياء ويرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، ثم أطلقهم فرجعوا إلى بابل، ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين، واستخلف بختنصر وعظمت الأحداث في بني إسرائيل، واستحلوا المحارم وقتلوا نبيهم شَعْيَا؛ فجاءهم بختنصر ودخل هو وجنوده بيت المقدس وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم.
وقال ابن عباس وابن مسعود: أوّل الفساد قتل زكريا.
وقال ابن إسحاق: فسادهم في المرة الأولى قتل شعيًا نبيِّ الله في الشجرة، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم مَرِج أمرهم وتنافسوا على المُلْك وقتل بعضهم بعضًا وهم لا يسمعون من نبيهم؛ فقال الله تعالى له قم في قومك أوحِ على لسانك، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عَدَوْا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ هُدْبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها.
وذكر ابن إسحاق أن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتًا ولم يقتل وإنما المقتول شَعْيَا.
وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاعَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خلال الديار} هو سنحاريب من أهل نِينَوَى بالمَوْصل ملكُ بابل. وهذا خلاف ما قال ابن إسحاق، فالله أعلم.
وقيل: إنهم العمالقة وكانوا كفارًا، قاله الحسن. ومعنى جاسوا: عاثوا وقتلوا؛ وكذلك حاسوا وهاسوا وداسوا؛ قاله ابن عُزيز، وهو قول القُتَبِيّ. وقرأ ابن عباس: {حاسوا} بالحاء المهملة.
قال أبو زيد: الحَوْس والجَوْس والعَوْس والهَوْس: الطواف بالليل. وقال الجوهري: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار، أي تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها؛ وكذلك الاجتياس.
والجَوَسان بالتحريك الطوفان بالليل؛ وهو قول أبي عبيدة.
وقال الطبري: طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين؛ فجمع بين قول أهل اللغة.
قال ابن عباس: مشوا وتردّدوا بين الدُّور والمساكن.
وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم؛ وأنشد لحسان:
ومنا الذي لا قى بسيف محمد ** فجاس به الأعداء عرض العساكر

وقال قطرب: نزلوا، قال:
فجُسْنَا ديارهُمُ عَنوةً ** وأبْنَا بسادتهم مُوثَقينا

{وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا} أي قضاء كائنا لا خُلف فيه.
قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} أي الدَّولة والرجعة؛ وذلك لمّا تبتم وأطعتم.
ثم قيل: ذلك بقتل داود جالوت أو بقتل غيره، على الخلاف في من قتلهم.
{وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} حتى عاد أمركم كما كان.
{وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} أي أكثر عددًا ورجالًا من عدوّكم.
والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته؛ يقال: نفير ونافر مثل قدير وقادر.
ويجوز أن يكون النفير جمع نَفْر كالكليب والمعيز والعبيد؛ قال الشاعر:
فأكْرِمْ بقحطانَ من والد ** وحِمْيرَ أكرم بقوم نفيرا

والمعنى: أنهم صاروا بعد هذه الوقعة الأولى أكثرَ انضماما وأصلح أحوالًا، جزاءً من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة. اهـ.