فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{مَا عَلَوْاْ} أي الذي غلبوه واستولوا عليه فما اسم موصول والعائد محذوف وهو إما مفعول أو مجرور على ما قيل، وجوز أن تكون ما مصدرية ظرفية أي ليتبروا مدة دوامهم غالبين قاهرين {تَتْبِيرًا} فظيعًا لا يوصف.
واختلف في تعيين هؤلاء العباد المبعوثين بعد أن ذكروا قتل يحيى عليه السلام في الإفساد الأخير فقال غير واحد: إنهم بختنصر وجنوده، وتعقبه السهيلي بأنه لا يصح لأن قتل يحيى بعد رفع عيسى عليهما السلام وبختنصر كان قبل عيسى عليه السلام بزمن طويل، وقيل الإسكندر وجنوده، وتعقبه أيضًا بأن بين الإسكندر وعيسى عليه السلام نحوًا من ثلثمائة سنة ثم قال لكنه إذا قيل: إن إفسادهم في المرة الأخيرة بقتل شعيا جاز أن يكون المبعوث عليهم بختنصر ومن معه لأنه كان حينئذ حيًا، وروى عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أن الذي غزاهم ملك خردوش وتولى قتلهم على دم يحيى عليه السلام قائد له فسكن.
وفي بعض الآثار أن صاحب الجيش دخل مذبح قرابينهم فوجد فيه دمًا يغلي فسألهم عنه فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال: ما صدقتموني فقتل عليه ألوفًا منهم فلم يهدأ الدم ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدًا فقالوا: إنه دم يحيى عليه السلام فقال: بمثل هذا ينتقم ربكم منكم ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدًا فقالوا: إنه دم يحيى عليه السلام فقال: بمثل هذا ينتقم ربكم منكم ثم قال: يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقى أحدًا منهم فهدأ، واختار في الكشف وقال هو الحق إن المبعوث عليهم في المرة الثانية بيردوس من ملوك الطوائف وكأنه هو خردوش الذي مر آنفًا فقد ذكر أنه ملك بابل من ملوك الطوائف.
وقيل: اسمه جوزور وهؤلاء الملوك ظهروا بعد قتل الإسكندر دارا واستيلائه على ملك الفرس، وكان ذلك بصنع الإسكندر متبعًا فيه رأي معلمه أرسطو، وعدتهم تزيد على سبعين ملكًا، ومدة ملكهم على مافي بعض التواريخ خمسمائة واثنتا عشرة سنة، وحصل اجتماع الفرس بعد هذه المدة على أردشير بن بابك طوعًا وكرها وكان أحد ملوك الطوائف على اصطخر، وعلى هذا يكون الملك المبعوث لفساد بني إسرائيل بقتل يحيى عليه السلام من أواخر ملوك الطوائف كما لا يخفى، ويكون بين هذا البعث والبعث الأول على القول بأن المبعوث بختنصر وأتباعه مدة متطاولة، وففي بعض التواريخ أن قتل الإسكندر دارا بعد بختنصر بأربعمائة وخمس وثلاثين سنة وبعد مضي نحو من ثلثمائة سنة من غلبة الإسكندر ولد المسيح عليه السلام، ولا شك أن قتل يحيى عليه الصلاة والسلام بعد الولادة بزمان والبعث بعد القتل كذلك فيكون بين البعثين ما يزيد على سبعمائة وخمس وثلاثين سنة، والذي ذهب إليه اليهود أن المبعوث أولًا بختنصر وكان في زمن أرميا عليه السلام وقد أنذرهم مجيئه صريحًا بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام كما نطق به كتابه فحبسوه في بئر وجرحوه وكان تخريبه لبيت المقدس في السنة التاسعة عشر من حكمه وبين ذلك وهبوط آدم ثلاثة آلاف وثلثمائة وثماني وثلاثين سنة وبقي خرابًا سبعين سنة، ثم أن أسبيانوس قيصر الروم وجه وزيره طوطوز إلى خرابه فخربه سنة ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين فيكون بين البعثين عندهم أربعمائة وتسعون سنة، وتفصيل الكلام في ذلك في كتبهم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ونعم ما قيل إن معرفة الأقوام المبعوثين بأعيانهم وتاريخ البعث ونحوه مما لا يتعلق به كبير غرض إذ المقصود أنه لماكثرت معاصيهم سلط الله تعالى عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى.
وظاهر الآية يقتضي اتحاد المبعوثين أولًا وثانيًا، ومن لا يقول بذلك يجعل رجوع الضمائر للعباد على حد رجوع الضمير للدرهم في قولك: عندي درهم ونصفه فافهم.
{عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} بعد البعث الثاني إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي {وَإِنْ عُدتُّمْ} للإفساد بعد الذي تقدم منكم {عُدْنَا} للعقوبة فعاقبناكم في الدنيا بمثل ما عاقبناكم به في المرتين الأوليين، وهذا من المقضي لهم في الكتاب أيضًا وكذا الجملة الآتية، وقد عادوا بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وقصدهم قتله فعاد الله تعالى بتسليطه عليه الصلاة والسلام عليهم فقتل قريظة وأجلى بني النضير وضرب الجزية على الباقين وقيل عادوا فعاد الله تعالى بأن سلط عليهم الأكاسرة ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الإتاوة ونحو ذلك والأول مروي عن الحسن.
وقتادة، والتعبير بأن للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يعودوا {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا} قال ابن عباس وغيره: أي سجنا وأنشد في البحر قول لبيد:
ومقامه غلب الرقاب كأنهم ** جن على باب الحصير قيام

فإن كان اسمًا للمكان المعروف فهو جامد لا يلزم تأنيثه وتذكيره.
وإن كان بمعنى حاصر أي محيط بهم وفعيل بمعنى فاعل يلزم مطابقته فعدم المطابقة هنا إما لأنه على النسب كلابن وتامر أي ذات حصر وعلى ذلك خرج قوله تعالى: {السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] أي ذات انفطار أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول وقيل التذكير على تأويل جهنم بمذكر، وقيل لأن تأنيثها ليس بحقيقي نقل ذلك أبو البقاء وهو كما ترى.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن أنه فسر ذلك بالفراش والمهاد، قال الراغب: كأنه جعل الحصير المرمول وأطلق عليه ذلك لحصر بعض طاقاته على بعض فحصير على هذا بمعنى محصور وفي الكلام التشبيه البليغ، وجاء الحصر بمعنى السلطان وأنشد الراغب في ذلك البيت السابق ثم قال: وتسميته بذلك إما لكونه محصورًا نحو محجب وإما لكونه حاصرًا أي مانعًا لمن أراد أن يمنعه من الوصول إليه. اهـ وحمل ما في الآية على ذلك مما لم أر من تعرض له والحمل عليه في غاية البعد فلا ينبغي أن يحمل عليه وإن تضمن معنى لطيفًا يدرك بالتأمل، وكان الظاهر أن يقال لكم بدل للكافرين إلا أنه عدل عنه تسجيلًا على كفرهم بالعود وذمًا لهم بذلك وإشعارًا بعلة الحكم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها}.
من جملة المقضي في الكتاب مما خوطب به بنو إسرائيل، وهو حكاية لما في الإصحاح التاسع والعشرين من كتاب أرميا وصلُّوا لأجلها إلى الرب لأنه بسلامها يكون لكم سلام.
وفي الإصحاح الحادي والثلاثين يقول الرب أزرعُ بيت إسرائيل وبيتَ يَهوذا ويكون كما سهرِتُ عليهم للاقتلاع والهدم والقَرض والإهلاك، كذلك أسْهَر عليهم للبناء والغرس في تلك الأيام لا يقولون: الآباء أكلوا حِصْرِمًا وأسنان الأبناء ضَرِستْ بل كل واحد يموت بذنبه كل إنسان يأكل الحِصْرِم تَضرِس أسنانُه.
ومعنى {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} أننا نرد لكم الكرة لأجل التوبة وتجدد الجيل وقد أصبحتم في حالة نعمة، فإن أحسنتم كان جزاؤكم حسنًا وإن أسأتم أسأتم لأنفسكم، فكما أهلكنا مَن قبلكم بذنوبهم فقد أحسنا إليكم بتوبتكم فاحذروا الإساءة كيلا تصيروا إلى مصير مَن قبلكم.
وإعادة فعل {أحسنتم} تنويه فلم يقل: إن أحسنتم فلأنفسكم.
وذلك مثل قول الأحوص:
فإذا تَزول تزول عن مُتخمّط ** تُخشى بوادِره على الأقرانِ

قال أبو الفتح ابن جني في شرح بيت الأحوص في الحماسة: إنما جاز أن يقول فإذا تَزولُ تزول لِما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة.
ومثله قول الله تعالى: {هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كم غوينا} [القصص: 63]، ولو قال: هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفد القول شيئًا كقولك: الذي ضربتهُ ضربتُه.
وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما أخذناه في الأصل أجزناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتُك اه.
والظاهر أن امتناع أبي علي من ذلك في هذه الآية أنه يرى جَواز أن تكون أغويناهم تأكيدًا لأغوينا وقوله: كما غوينا استئنافًا بيانيًا، لأن اسم الموصول مسند إلى مبتدأ وهو اسم الإشارة فتم الكلام بذلك، بخلاف بيت الأحوص ومثال ابن جني: الذي ضربته ضربتهُ، فيرجع امتناع أبي علي إلى أن ما أخذه ابن جني غير متعين في الآية تعيُّنَه في بيت الأحوص.
وأسلوب إعادة الفعل عند إرادة تعلق شيء به أسلوب عربي فصيح يقصد به الاهتمام بذلك الفعل.
وقد تكرر في القرآن، قال تعالى: {وإذا بطشتم بطشتم جبارين} [الشعراء: 130] وقال: {وإذا مروا باللغو مروا كراما} [الفرقان: 72]. وقوله: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} جاء على طريقة التجريد بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها. فاللام لتعدية فعل {أحسنتم}، يقال: أحسنت لفلان. وكذلك قوله: {وإن أسأتم فلها}.
فقوله: {فلها} متعلق بفعل محذوف بعد فاء الجواب، تقديره: أسأتم لها.
وليس المجرور بظرف مستقر خبرًا عن مبتدأ محذوف يدل عليه فعل {أسأتم} لأنه لو كان كذلك لقال فعَلَيها، كقوله في سورة [فصلت: 46] {من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها} ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين أن آية فصلت ليس فيها تجريد، إذ التقدير فيها: فعمله لنفسه وإساءته عليه، فلما كان المقدر اسمًا كان المجرور بعده مستقرًا غير حرف تعدية، فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبَر عنه نافعًا فيخبر عنه بمجرور باللام، أو ضارًا يخبر عنه بمجرور ب {إلى}، وأما آية الإسراء ففعل أحسنتم وأسأتم الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد فجاءا على أصل تعديتهما باللام لا لقصد نفع ولا ضر.
تفريع على قوله: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]، إذ تقدير الكلام فإذا أسأتم وجاء وعدُ المرة الآخرة.
وقد حصل بهذا التفريع إيجاز بديع قضاءً لِحَقّ التقسيم الأول في قوله: {فإذا جاء وعد أولاهما} [الإسراء: 5]، ولِحَقّ إفادة ترتب مجيء وعد الآخرة على الإساءة، ولو عطف بالواو كما هو مقتضى ظاهر التقسيم إلى مرتين فاتت إفادة الترتب والتفرع.
و{الآخرة} صفة لمحذوف دل عليه قوله: {مرتين} أي وعد المرة الآخرة.
وهذا الكلام من بقية ما قضي في الكتاب بدليل تفريعه بالفاء.
والآخرة ضد الأولى.
ولاماتُ {ليسوؤوا} {وليدخلوا} {وليتبروا} للتعليل، وليست للأمر لاتفاق القراءات المشهورة على كسر اللامين الثاني والثالث، ولو كانا لامَيْ أمرٍ لكانَا ساكنين بعد واو العطف، فيتعين أن اللام الأول لام أمر لا لام جر.
والتقدير فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عبادًا لنا ليسوؤا وجوهكم إلخ.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، وأبو جعفر، ويعقوب: {ليسوؤا} بضمير الجمع مثل أخواته الأفعاللِ الأربعة.
والضمائر راجعة إلى محذوف دلّ عليه لام التعليل في قوله: {ليسوؤا} إذ هو متعلق بما دل عليه قوله في {وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا} [الإسراء: 5]، فالتقدير: فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عليكم عبادًا لنا ليسوؤوا وجوهكم.
وليست عائدة إلى قوله: {عبادا لنا} المصرح به في قوله: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولى بأس شديد} [الإسراء: 5]، لأن الذين أساؤوا ودخلوا المسجد هذه المرة أمة غير الذين جاسوا خلال الديار حسب شهادة التاريخ وأقوال المفسرين كما سيأتي.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلف: {ليسوءَ} بالإفراد والضمير لله تعالى.
وقرأ الكسائي: {لنَسوء} بنون العظمة.
وتوجيهُ هاتين القراءتين من جهة موافقة رسم المصحف أن الهمزة المفتوحة بعد الواو قد ترسم بصورة ألف، فالرسم يسمح بقراءة واو الجماعة على أن يكون الألف ألف الفرق وبقراءتي الإفراد على أن الألف علامة الهمزة.
وضميرا {ليسوءوا} {وليدخلوا} عائدان إلى {عبادًا لنا} [الإسراء: 5] باعتبار لفظه لا باعتبار ما صدق المعاد، على نحو قولهم: عندي درهم ونصفه، أي نصف صاحب اسم درهم، وذلك تعويل على القرينة لاقتضاء السياق بُعد الزمن بين المرتين: فكان هذا الإضمار من الإيجاز.
وضمير {كما دخلوه} عائد إلى العباد المذكور في ذكر المرة الأولى بقرينة اقتضاء المعنى مراجع الضمائر كقوله تعالى: {وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها} [الروم: 9]، وقول عباس بن مرداس:
عُدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ** بالمسلمين وأحرزوا ما جَمّعوا

فالسياق دال على معاد أحرزوا ومعاد جَمّعوا.
وسَوْء الوجوه: جَعْل المساءة عليها، أي تسليط أسباب المساءة والكآبة عليكم حتى تبدو على وجوهكم لأن ما يخالج الإنسان من غم وحزن، أو فرح ومسرة يظهر أثره على الوجه دون غيره من الجسد، كقول الأعشى:
وأقدِمْ إذا ما أعين الناس تَفْرق

أراد إذا ما تفرق الناس وتظهر علامات الفرق في أعينهم.
ودخول المسجد دخول غزو بقرينة التشبيه في قوله: {كما دخلوه أول مرة} المراد منه قوله: {فجاسوا خلال الديار} [الإسراء: 5].
والتتبِير: الإهلاك والإفساد.
و{ما علوا} موصول هو مفعول يتبروا، وعائد الصلة محذوف لأنه متصل منصوب، والتقدير: ما علوه، والعلو علو مجازي وهو الاستيلاء والغلب.
ولم يعدهم الله في هذه المرة إلا بتوقع الرحمة دون رد الكرة، فكان إيماء إلى أنهم لا مُلك لهم بعد هذه المرة.
وبهذا تبين أن المشار إليه بهذه المرة الآخرة هو ما اقترفه اليهود من المفاسد والتمرد وقتل الأنبياء والصالحين والاعتداء على عيسى وأتباعه، وقد أنذرهم النبي مَلاّخي في الإصحاحين الثالث والرابع من كتابه وأنذرهم زكرياء ويحيى وعيسى فلم يرعووا فضربهم الله الضربة القاضية بيد الرومان.
وبيان ذلك: أن اليهود بعد أن عادوا إلى أورشليم وجددوا ملكهم ومسجدهم في زمن داريوس وأطلق لهم التصرف في بلادهم التي غلبهم عليها البابليون وكانوا تحت نفوذ مملكة فارس، فمكثوا على ذلك مائتي سنة من سنة 530 إلى سنة 330 قبل المسيح، ثم أخذ ملكهم في الانحلال بهجوم البطالسة ملوك مصر على أورشليم فصاروا تحت سلطانهم إلى سنة 166 قبل المسيح إذ قام قائد من إسرائيل اسمه ميثيا وكان من اللاويين فانتصر لليهود وتولى الأمر عليهم وتسلسل الملك بعده في أبنائه في زمن مليء بالفتن إلى سنة أربعين قبل المسيح.
دخلت المملكة تحت نفوذ الرومانيين وأقاموا عليها أمراء من اليهود كان أشهرهم هيرودس ثم تمردوا للخروج على الرومانيين، فأرسَل فيصر رومية القائدَ سيسيَانوس مع ابنه القائد طيطوس بالجيوش في حدود سنة أربعين بعد المسيح فخربت أورشليم واحترق المسجد، وأسر طيطوس نيفًا وتسعين ألفًا من اليهود، وقُتل من اليهود في تلك الحروب نحو ألف ألف، ثم استعادوا المدينة وبقي منهم شرذمة قليلة بها إلى أن وافاهم الأمبراطور الروماني أدريانوس فهدمها وخربها ورمى قناطير المِلح على أرضها كيلا تعود صالحة للزراعة، وذلك سنة 135 للمسيح.
وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض، وتفرقوا في الأرض ولم تخرج أورشليم من حكم الرومان إلا حين فتحها المسلمون في زمن عمر بن الخطاب سنة 16 ه صلحًا مع أهلها وهي تسمى يومئذٍ إيلياء.
وقوله: {وإن عدتم عدنا} يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة {عسى ربكم أن يرحمكم} عطفَ الترهيب على الترغيب.
ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضية. والمعنى: بعد أن يرحمكم ربكم ويؤمنكم في البلاد التي تلْجأون إليها، إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى عقابكم، أي عدنا لمثل ما تقدم من عقاب الدنيا.
وجملة {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا} عطف على جملة {عسى ربكم أن يرحمكم} لإفادة أن ما ذكر قبله من عقاب إنما هو عقاب دنيوي وأن وراءه عقاب الآخرة.
وفيه معنى التذييل لأن التعريف في {للكافرين} يعم المخاطبين وغيرهم.
ويومىء هذا إلى أن عقابهم في الدنيا ليس مقصورًا على ذنوب الكفر بل هو منوط بالإفساد في الأرض وتعدي حدود الشريعة.
وأما الكفر بتكذيب الرسل فقد حصل في المرة الآخرة فإنهم كذبوا عيسى، وأما في المرة الأولى فلم تأتهم رسل ولكنهم قتلوا الأنبياء مثل أشعياء، وأرمياء، وقتل الأنبياء كفر.
والحصير: المكان الذي يحصر فيه فلا يستطاع الخروج منه، فهو إما فعيل بمعنى فاعل، وإما بمعنى مفعول على تقدير متعلق، أي محصور فيه. اهـ.