فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومثل هذا ما قيل إنه تعالى بعد إن وصف القرآن بما وصف ذم قريشًا بعدم سؤالهم الهداية به وطلبهم إنزال الحجارة عليهم أو إيتاء العذاب الأليم إن كان حقًا، وفي الكشف أن قوله تعالى: {وَيَدْعُ الإنسان} إلخ بيان أن القرآن يهديهم للتي هي أقوم ويأبون إلا التي هي ألوم وهو وجه للربط مطلقًا وكل ما ذكروه في ذلك متقارب.
ويرد على حمل الدعاء على الدعاء بالأعمال والعجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال خلاف المتبادر كما لا يخفى، وفسر بعضهم الإنسان الثاني بآدم عليه السلام لما أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن سليمان الفارسي قال: أول ما خلق الله تعالى من آدم عليه السلام رأسه فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال: يا رب أعجل قبل الليل فذلك قوله تعالى: {وَكَانَ الإنسان عَجُولًا}، وروى نحوه عن مجاهد وروى القرطبي والعهدة عليه أنه لما وصلت الروح لعينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت جوفه اشتهاها فوثب عجلًا إليها فسقط، ووجه ارتباط {وَكَانَ الإنسان} إلخ على هذا القول إفادته أن عجلته بالدعاء لضجره أو لعدم تأمله من شأنه وأنه موروث له من أصله وشنشنة يعرفها من أخزم فهو اعتراض تذييلي وكلام تعليلي والأولى إرادة الجنس وإن كان ألفاظ الآية لا تنبو عن إرادة آدم عليه السلام كما زعم أبو حيان ثم أن الباء في الموضعين على ظاهرها صلة الدعاء، وقيل: إنها بمعنى في والمعنى يدعو في حالة الشر والضر كما كان يدعو في حالة الخير فالمدعو به ليس الشر والخير، وقيل: إنها للسببية أي يدعو بسبب ذلك وكلا القولين مخالفين للظاهر لا يعول عليهما، واستدل بالآية على بعض الاحتمالات على المنع من دعاء الرجل على نفسه أو على ماله أو على أهله وقد جاء النهي عن ذلك صريحًا في بعض الأخبار.
فقد أخرج أبو داود والبزار عن جابر عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدعو على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعو على أموالكم لئلا توافقوا من الله تعالى ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم» وبه يرد على ما قيل من أن الدعاء بذلك لا يستجاب فضلًا من الله تعالى وكرمًا.
واستشكل بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على أهله كما سمعت في حديث الواقدي، وأجيب عن ذلك بأنه كان للزجر وإن كان وقت الغضب وقد اشترط صلى الله عليه وسلم على ربه سبحانه في مثل ذلك أن يكون رحمة فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إني اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طورًا وزكاة وقربة» وذكر النووي في جواب ما يقال: إن ظاهر الحديث أن الدعاء ونحوه كان بسبب الغضب ما قال المازري من أنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن دعاءه وسبه ونحوهما كان مما يخير فيه بين أمرين أحدهما هذا الذي فعله والثاني زجره بأمر آخر فحمله الغضب لله تعالى على أحد الأمرين المخير فيهما وليس ذلك خارجًا عن حكم الشرع، والمراد من قوله عليه الصلاة والسلام ليس لها بأهل ليس لها بأهل عند الله تعالى وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب لذلك، وقد يستدل على ذلك بإمارات شرعية وهو مأمور صلى الله عليه وسلم بالحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، وقيل: إن ما وقع منه عليه الصلاة والسلام من الدعاء ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامهما بلا نية كتربت يمينك وعقري حلقي لكن خاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل ربه سبحاته وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك زكاة وقربة، نعم في ذكر حديث الواقدي ونحوه كالحديث الذي ذكره البيضاوي في المقام الذي ذكر فيه لا يخلو عن شيء فتأمل، ثم إن القياس إثبات الواو في {يَدُعُّ} الإنسان إذ لا جازم تحذف له لكن نقل القرآن العظيم كما يمع ولم يتصرف فيه الناقل بمقدار فهمه وقوة عقله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}
استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الغرض الأهم من هذه السورة وهو تأييد النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات والمعجزات، وإيتاؤه الآيات التي أعظمها آية القرآن كما قدمناه عند قوله تعالى: {وآتينا موسى الكتاب} [الإسراء: 2].
وأعقب ذلك بذكر ما أنزل على بني إسرائيل من الكُتب للهدى والتحذير، وما نالهم من جراء مخالفتهم ما أمرهم الله به، ومن عدولهم عن سَنن أسلافهم من عهد نوح.
وفي ذلك فائدة التحذير من وقوع المسلمين فيما وقع فيه بنو إسرائيل، وهي الفائدة العظمى من ذكر قصص القرآن، وهي فائدة التاريخ.
وتأكيد الجملة مراعى فيه حال بعض المخاطبين وهم الذين لم يذعنوا إليه، وحالُ المؤمنين من الاهتمام بهذا الخبر، فالتوكيد مستعمل في معنييه دفع الإنكار والاهتمام، ولا تعارض بين الاعتبارين.
وقوله: {هذا القرآن} إشارة إلى الحاضر في أذهان الناس من المقدار المنزل من القرآن قبل هذه الآية.
وبُينت الإشارة بالاسم الواقع بعدها تنويهًا بشأن القرآن.
وقد جاءت هذه الآية تنفيسًا على المؤمنين من أثر القصص المهولة التي قصت عن بني إسرائيل وما حل بهم من البلاء مما يثير في نفوس المسلمين الخشية من أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك، فأخبروا بأن في القرآن ما يعصمهم عن الوقوع فيما وقع فيه بنو إسرائيل إذ هو يهدي للطريق التي هي أقوم مما سلكه بنو إسرائيل، ولذلك ذكر مع الهداية بشارة المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ونذارة الذين لا يؤمنون بالآخرة.
وفي التعبير بـ {التي هي أقوم} نكتة لطيفة ستأتي.
وتلك عادة القرآن في تعقيب الرهبة بالرغبة وعكسه.
و{التي هي أقوم} صفة لمحذوف دل عليه {يهدي}، أي للطريق التي هي أقوم، لأن الهداية من ملازمات السير والطريق، أو للملة الأقوم، وفي حذف الموصوف من الإيجاز من جهة ومن التفخيم من جهة أخرى ما رجح الحذف على الذكر.
والأقوم: تفضيل القويم.
والمعنى: أنه يهدي للتي هي أقوم من هُدى كتاب بني إسرائيل الذي في قوله: {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} [الإسراء: 2].
ففيه إيماء إلى ضمان سلامة أمة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم، لأن القرآن جاء بأسلوب من الإرشاد قويم ذي أفنان لا يحول دونه ودون الولوج إلى العقول حَائل، ولا يغادر مسلكًا إلى ناحية من نواحي الأخلاق والطبائع إلا سلكهُ إليها تحريضًا أو تحذيرًا، بحيث لا يعدم المتدبر في معانيه اجتناء ثمار أفنانه، وبتلك الأساليب التي لم تبلغها الكتب السابقة كانت الطريقة التي يهدي إلى سلوكها أقومَ من الطرائق الأخرى وإن كانت الغاية المقصود الوصول إليها واحدة.
وهذا وصف إجمالي لمعنى هدايته إلى التي هي أقوم لو أريد تفصيله لاقتضى أسفارًا، وحسبك مثالًا لذلك أساليب القرآن في سد مسالك الشرك بحيث سلمت هذه الآية في جميع أطوارها من التخليط بين التقديس البشري وبين التمجيد الإلهي، فلم تنزل إلى حضيض الشرك بحال، فمحل التفضيل هو وسائل الوصول إلى الغاية من الحق والصدق، وليس محل التفضيل تلك الغاية حتى يقال: إن الحق لا يتفاوت.
والأجر الكبير فُسر بالجنة، والعذابُ الأليم بجهنم، والأظهر أن يحمل على عموم الأجر والعذاب، فيشمل أجر الدنيا وعذابها، وهو المناسب لما تقدم من سعادة عيش بني إسرائيل وشقائه، فجعل اختلاف الحالين فيهما موعظة لحالي المسلمين والمشركين.
{وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة} عطف على {أن لهم أجرا كبيرا} لأنه من جملة البشارة، إذ المراد بالذين لا يؤمنون بالآخرة مشركو قريش وهم أعداء المؤمنين، فلا جرم أن عذاب العدو بشارة لمن عاداه.
والاقتصار على هذين الفريقين هو مقتضى المقام لمناسبة تكذيب المشركين بالإسراء فلا غرض في الإعلام بحال أهل الكتاب.
{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)}.
موقع هذه الآية هنا غامض، وانتزاع المعنى من نظمها وألفاظها أيضًا، ولم يأت فيها المفسرون بما ينثلج له الصدر.
والذي يظهر لي أن الآية التي قبلها لما اشتملت على بشارة وإنذار وكان المنذرون إذا سمعوا الوعيد والإنذار يستهزئون به ويقولون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يس: 48] عُطف هذا الكلام على ما سبق تنبيهًا على أن لذلك الوعد أجلًا مسمى.
فالمراد بالإنسان الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة كما هو في قوله تعالى: {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيًا} و{أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئًا} [مريم: 66 67] وإطلاق الإنسان على الكافر كثير في القرآن.
وفعل {يدعو} مستعمل في معنى يطلب ويبتغي، كقول لبيد:
ادْعُو بهن لعَاقر أو مُطْفِل ** بُذِلَت لجيران الجميع لِحَامُها

وقوله: {دعاءه بالخير} مصدر يفيد تشبيهًا، أي يستعجل الشر كاستعجاله الخير، يعني يستبطىء حلول الوعيد كما يستبطىء أحد تأخر خير وعد به.
وقوله: {وكان الإنسان عجولًا} تذييل، فالإنسان هنا مراد به الجنس لأنه المناسب للتذييل، أي وما هؤلاء الكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرة إلا من نوع الإنسان، وفي نوع الإنسان الاستعجال فإن {كان} تدل على أن اسمها متصف بخبرها اتصافًا متمكنًا كقوله تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا} [الكهف: 54].
والمقصود من قوله: {وكان الإنسان عجولًا} الكناية عن عدم تبصره وأن الله أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت الأشياء {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم} [يونس: 11]، ولكنه دَرّج لهم وصول الخير والشر لطفًا بهم في الحالين.
والباء في قوله: بالشر وبالخير لتأكيد لصوق العامل بمعموله كالتي في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6]؛ أو لتضمين مادة الدعاء معنى الاستعجال، فيكون كقوله تعالى: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} [الشورى: 18].
وعجول: صيغة مبالغة في عاجل.
يقال: عجل فهو عاجل وعجول.
وكتب في المصحف: {ويدع} بدون واو بعد العين إجراء لرسم الكلمة على حالة النطق بها في الوصل كما كتب {سَنْدُع الزبانية} [العلق: 18] ونظائرها.
قال الفراء: لو كتبت بالواو لكان صوابًا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} الآية.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدًا برب العالمين جلَّ وعلا- يهدي للتي هي اقوم. أي الطريق التي هي أسد وأعد واصوب. ف {التي} نعت لموصوف محذوف. على حد قول ابن مالك في الخلاصة:
وما من المنعوت والنعت عقل ** يجوز حذفه وفي النعت يقل

وقال الزجاج والكلبي والفراء: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله.
وهذه الآية الكريمة أجمل الله جلَّ وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها واصوبها، لو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم. لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة. ولكنَّنا إن شاء الله تعالى سنذكر جملًا وافرة في جهات مختلفة كثيرة مِن هدى القرآن للطريق التي هي أقوم بيانًا لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، تنبيهًا ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفَّار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة.
فمن ذلك توحيد الله جلَّ وعلا: فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي اقوم الطرق وأعدلها، وهي توحيده جلَّ وعلا في ربوبيته، وفي عبادته، وفي اسمائه وصفاته. وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توحيده في ربوبيته، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء، قال تعال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] الآية، وقال: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَمَن يُدَبِّرُ الأمر فَسَيَقُولُونَ الله فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس: 31] وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23] تجاهل من عارف أنه عبد مربوب. بدليل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ} [الإسراء: 102] الآية، وقوله: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله. كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدًا.
الثاني: توحيده جلَّ وعلا في عبادته. وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى لا إله إلا الله وهي متركبة من نفي وإثبات. فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت. ومعنى الإثبات منها: إفراد الله جلَّ وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على أسنة رسله عليهم الصلاة والسلام.