فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والبحث الثاني:
أن هذه التقديرات إنما تقدرت بإلزام الله تعالى.
وذلك باعتبار أنه تعالى جعل لكل حادث حادثًا متقدمًا عليه لحصول الحادث المتأخر، فلما كان وضع هذه السلسلة من الله لا جرم كان الكل من الله، وعند هذا يتخيل الإنسان طيورًا لا نهاية لها ولا غاية لأعدادها، فإنه تعالى طيرها من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب، وأنها صارت وطارت طيرانًا لا بداية له ولا غاية له، وكان كل واحد منها متوجهًا إلى ذلك الإنسان المعين في الوقت المعين بالصفة المعينة، وهذا هو المراد من قوله: {ألزمناه طائره في عُنُقِهِ}.
البحث الثالث:
أن التجربة تدل على أن تكرار الأعمال الاختيارية تفيد حدوث الملكة النفسانية الراسخة في جوهر النفس، ألا ترى أن من واظب على تكرار قراءة درس واحد صار ذلك الدرس محفوظًا، ومن واظب على عمل واحد مدة مديدة صار ذلك العمل ملكة له.
إذا عرفت هذا فنقول: لما كان التكرار الكثير يوجب حصول الملكة الراسخة وجب أن يحصل لكل واحد من تلك الأعمال أثر ما في جوهر النفس، فإنا لما رأينا أن عند توالي القطرات الكثيرة من الماء على الحجر حصلت الثقبة في الحجر، علمنا أن لكل واحد من تلك القطرات أثرًا ما في حصول ذلك الثقب وإن كان ضعيفًا قليلًا، وإن كانت الكتابة أيضًا في عرف الناس عبارة عن نقوش مخصوصة اصطلح الناس على جعلها معرفات لألفاظ مخصوصة، فعلى هذا، دلالة تلك النقوش على تلك المعاني المخصوصة دلالة كائنة جوهرية واجبة الثبوت، ممتنعة الزوال، كان الكتاب المشتمل على تلك النقوش أولى باسم الكتاب من الصحيفة المشتملة على النقوش الدالة بالوضع والاصطلاح.
وإذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول: إن كل عمل يصدر من الإنسان كثيرًا كان أو قليلًا قويًا كان أو ضعيفًا، فإنه يحصل منه لا محالة في جوهر النفس الإنسانية أثر مخصوص، فإن كان ذلك الأثر أثرًا لجذب جوهر الروح من الخلق إلى حضرة الحق كان ذلك من موجبات السعادات والكرامات.
وإن كان ذلك الأثر أثرًا لجذب الروح من حضرة الحق إلى الاشتغال بالخلق كان ذلك من موجبات الشقاوة والخذلان.
إلا أن تلك الآثار تخفى ما دام الروح متعلقًا بالبدن، لأن اشتغال الروح بتدبير البدن يمنع من انكشاف هذه الأحوال وتجليها وظهورها، فإذا انقطع تعلق الروح عن تدبير البدن فهناك تحصل القيامة لقوله عليه الصلاة والسلام: «من مات فقد قامت قيامته» ومعنى كون هذه الحالة قيامة أن النفس الناطقة كأنها كانت ساكنة مستقرة في هذا الجسد السفلي، فإذا انقطع ذلك التعلق، قامت النفس وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي، فهذا هو المراد من كون هذه الحالة قيامة، ثم عند حصول القيامة بهذا المعنى زال الغطاء وانكشف الوطاء، وقيل له {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22] وقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُورًا} معناه: ونخرج له عند حصول هذه القيامة من عمق البدن المظلم كتابًا مشتملًا على جميع تلك الآثار الحاصلة بسبب الأحوال الدنيوية، ويكون هذا الكتاب في هذا الوقت منشورًا، لأن الروح حين كانت في البدن كانت هذه الأحوال فيه مخفية فكانت كالمطوية.
أما بعد انقطاع التعلق الجسداني ظهرت هذه الأحوال وجلت وانكشفت فصارت كأنها مكشوفة منشورة بعد أن كانت مطوية، وظاهرة بعد أن كانت مخفية، وعند ذلك تشاهد القوة العقلية جميع تلك الآثار مكتوبة بالكتابة الذاتية في جوهر الروح فيقال له في تلك الحالة: {اقرأ كتابك} ثم يقال له: {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} فإن تلك الآثار إن كانت من موجبات السعادة حصلت السعادة لا محالة، وإن كانت من موجبات الشقاوة حصلت الشقاوة لا محالة، فهذا تفسير هذه الآية بحسب الأحوال الروحانية.
واعلم أن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها، واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضًا، والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل، والله أعلم بحقائق الأمور. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل} فيه قولان:
أحدهما: أنها ظلمة الليل التي لا نبصر فيها الطرقات كما لا نبصر ما محي من الكتاب، وهذا من أحسن البلاغة، وهو معنى قول ابن عباس.
الثاني: أنها اللطخة السوداء التي في القمر، وهذا قول علي وقتادة ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيميز به الليل من النهار.
{وجعلنا آية النهار مبصرة} فيه قولان:
أحدهما: أنها الشمس مضيئة للأبصار.
الثاني: موقظة.
قوله عز وجل: {وكل إنسان ألزمنا طائره في عنقه}
فيه قولان:
أحدهما: ألزمناه عمله من خير أو شر مثل ما كانت العرب تقوله سوانح الطير وبوارحه، والسانح: الطائر يمر ذات اليمين وهو فأل خير، والبارح: الطائر يمر ذات الشمال وهو فأل شر، وأضيف إلى العنق.
الثاني: أن طائره حظه ونصيبه، من قول العرب: طار سهم فلان إذا خرج سهمه ونصيبه منه، قاله أبو عبيدة.
{ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا} يعني كتاب طائره الذي في عنقه من خير أو شر.
ويحتمل نشر كتابه الذي يلقاه وجهين:
أحدهما: تعجيلًا للبشرى بالحسنة، والتوبيخ بالسيئة.
الثاني: إظهار عمله من خير أو شر.
{اقرأ كتابك} يحتمل وجهين:
أحدهما: لما في قراءته من زيادة التقريع والتوبيخ.
والثاني: ليكون إقراره بقراءته على نفسه.
{كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا} فيه قولان:
أحدهما: يعني شاهدًا.
والثاني: يعني حاكمًا بعملك من خير أو شر. ولقد أنصفك من جعلك حسيبًا على نفسك بعملك. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ}
الآية العلامة المنصوبة للنظر والعبرة، وقوله: {فمحونا} قالت فرقة: سبب تعقيب الفاء أن الله تعالى خلق الشمس والقمر مضيئين فمحا بعد ذلك القمر محاه جبريل بجناحيه ثلاثة مرات فمن هنالك كلَفُه وكونه منيرًا فقط، وقالت فرقة، وهو الظاهر: إن قوله: {فمحونا} إنما يريد في أصل خلقته، وهذا كما تقول بنيت داري فبدأت بالأس، ثم تابعت فلا تريد بالفاء التعقيب، وظاهر لفظ الآية يقتضي أربع آيات لا سيما لمن بنى على أن القمر هو الممحو والشمس هي المبصرة، فأما إن قدر الممحو في إظلام الليل والإبصار في ضوء النهار أمكن أن تتضمن الآية {آيتين} فقط، على أن يكون فيها طرف من إضافة الشيء إلى نفسه، وقوله: {مبصرة} مثل قولك ليل قائم ونائم أي ينام فيه ويقام، فكذلك آية مبصرة أي يبصر بها ومعها، وحكى الطبري عن بعض الكوفيين أنه قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سلوا عما شئتم فقال ابن الكوّا: ما السواد الذي في القمر؟ فقال له علي: قاتلك الله هلا سألت عن أم دينك وآخرتك ذلك محو الليل وجعل الله تعالى النهار مبصرًا ليبتغي الناس الرزق، وفصل الله، وجعل القمر مخالفًا للشمس ليعلم به العدد من السنين والحساب للأشهر وللأيام، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة القمر لا من جهة الشمس، وقوله: {كل شيء} منصوب بفعل مضمر يدل عليه الظاهر تقديره وفصلنا كل شيء فصلناه تفصيلًا وقيل: و{كل} عطف على {والحساب} فهو معمول {لتعلموا}، والتفصيل البيان بأن تذكر فصول ما بين الأشياء وتزال أشباهها حتى يتميز الصواب من الشبه العارضة فيه، وقوله: {وكل إنسان ألزمناه طائره} الآية، قوله: {كل} منصوب بفعل مقدر، وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد؛ {طيره في عنقه}، قال ابن عباس {طائره} ما قدر له وعليه، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف، وذلك أنه كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة وكثر ذلك حتى فعلته بالظبا وحيوان الفلاة، وسميت ذلك كله تطيرًا، وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر، فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر قد سبق به القضاء. وألزم حظه وعمله وتكسبه في عنقه، وروى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طيرة» {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان بالطائر، قال مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير، وقولهم في أمور على الطائر الميمون، وبأسعد طائر ومنه طار في المحاجة والسهم كقول أم العلا الأنصارية فطار لنا من القادمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة عثمان بن مظعون، أي كان ذلك حظنا، وأصل هذا كله من الطير التي تقضي عندهم بلقاء الخير والشر وأبطل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة» وقوله: {في عنقه} جرى أيضًا على مقطع العرب في أن تنسب ما كان إلزامًا وقلادة وأمانة ونحو هذا إلى العنق كقولهم: دمي في عنق فلان وكقول الأعشى:
والشعر قلدته سلامة ذا ** فائش والشيء حيثما جعلا

وهذا كثير، ونحوه جعلهم ما كان تكسبًا وجناية وإثمًا منسوبًا إلى اليد إذ هي الأصل في التكسب، وقرأ أبو جعفر ونافع والناس: {ونخرج} بنون العظمة {كتابًا} بالنصب، وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن: و{يخرُج} بفتح الياء وضم الراء على الفعل المستقبل {كتابًا} أي طائره الذي كني به عن عمله يخرج له ذا كتاب، وقرأ الحسن من هؤلاء {كتاب} بالرفع، وقرأ أبو جعفر أيضًا {ويُخرَج} بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله {كتابًا} أي طائره، وقرأ أيضًا {كتابًا} وقرأت فرقة {ويُخرِج} بضم الياء وكسر الراء أي يخرج الله، وفي مصحف أبي بن كعب: {في عنقه يقرؤه يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا} وهذا الكتاب هو عمل الإنسان وخطيئاته، وقرأ الجمهور: {يَلْقاه} بفتح الياء وسكون اللام وخفة القاف، وقرأ ابن عامر وحده، {يُلَقّاه} بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف وهي قراءة الحسن بخلاف، وأبي جعفر والجحدري، وقوله: {اقرأ كتابك} حذف من الكلام يقال له اختصار الدلالة الظاهرة عليه، والحسيب الحاسب ونصبه على التمييز، وأسند الطبري عن الحسن أنه قال: يا بن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك والآخر عن شمالك يحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت أو قلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابًا تلقاه منشورًا {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا} قد عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذه الألفاظ التي ذكر يكون الطائر ما يتحصل مع آدم من عمله في قبره فتأمل لفظه، وهذا هو قول ابن عباس وقال قتادة في قوله: {اقرأ كتابك} إنه سيقرأ يومئذ من لم يكن يقرأ. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} أي: علامتين يدلان على قدرة خالقهما.
{فمحونا آية الليل} فيه قولان:
أحدهما: أن آية الليل: القمر، ومحوها: ما في بعض القمر من الاسوداد.
وإِلى هذا المعنى ذهب علي عليه السلام، وابن عباس في آخرين.
والثاني: آية الليل محيت بالظلمة التي جعلت ملازمةً لليل؛ فنسب المحو إِلى الظلمة إِذْ كانت تمحو الأنوارَ وتبطلُها، ذكره ابن الأنباري.
ويُروى أن الشمس والقمر كانا في النور والضوء سواءً، فأرسل الله جبريل فأمرَّ جناحه على وجه القمر وطمس عنه الضوء.
قوله تعالى: {وجعلنا آية النهار} يعني: الشمس {مبصرة} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: منيرة، قاله قتادة.
قال ابن الأنباري: وإِنما صلح وصف الآية بالإِبصار على جهة المجاز، كما يقال: لعب الدهر ببني فلان.
والثاني: أن معنى {مبصرة}: مبصرًا بها، قاله ابن قتيبة.
والثالث: أن معنى {مبصرة} مُبَصِّرَةً، فجرى مُفْعِلْ مجرى مُفَعِّل والمعنى: أنها تُبَصِّر الناس، أي: تُريهم الأشياء، قاله ابن الأنباري.
ومعاني الأقوال تتقارب.
قوله تعالى: {لتبتغوا فضلًا من ربكم} أي: لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وتطلبون رزقكم بالنهار {ولتعلموا عدد السنين والحساب} بمحو آية الليل، ولولا ذلك، لم يعرف الليل من النهار، ولم يُتبين العدد.
{وكلَّ شيء} أي: ما يُحتاج إِليه: {فصَّلناه تفصيلا} بيَّنَّاه تبينًا لا يلتبس معه بغيره.
قوله تعالى: {وكلَّ إِنسانٍ} وقرأ ابن أبي عبلة {وكلُّ} برفع اللام.