فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لأن المقاناة هي البكر بعينها، وقول عنترة في معلقته:
ومشك سابغة هتكت فروجها ** بالسيف عن حامي الحقيقة معلم

لأن مراده بالمشك: السابغة بعينها. بدليل قوله: هتكت فروجها. لأن الضمير عائد إلى السابغة التي عبر عنها بالمشك.
وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة فاطر. وبينا أن الذي يظهر لنا: أن إضافة الشيء غلى نفسه مع اختلاف لفظ المضاف والمضاف إليه أسلوب من أساليب اللغة العربية. لأن تغاير اللفظين ربما نزل منزلة التغاير المعنوي. لكثرة الإضافة المذكورة في القرآن وفي كلام العرب. وجزم بذلك ابن جرير في بعض مواضعه في القرآن. وعليه فلا حاجة إلى التأويل المشار إليه بقوله في الخلاصة:
ولا يضاف اسم لما به اتحد ** معنى وأول موهمًا إذا ورد

ومما يدل على ضعف التأويل المذكور قوله:
وإن يكونا مفردين فأضف ** حتما وإلا أتبع الذي ردف

لأن إيجاب إضافة العلم إلى القلب مع اتحادهما في المعنى إن كانا مفردين المستلزم للتأويل، ومنع الإتباع الذي لا يحتاج إلى تأويل- دليل على ان ذلك من أساليب اللغة العربية، ولو لم يكن من أساليبها لوجب تقديم ما لا يحتاج إلى تاويل على المحتاج إلى تأويل كما ترى. وعلى هذا الوجه من التفسير- فالمعنى: فمحونا الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. أي جعلنا الليل مَمْحُو الضور مطموسه، مظلمًا لا تستبان فيه الأشياء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو. وجعلنا النهار مبصرًا. أي تبصر فيه الأشياء وتستبان.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا} [الإسراء: 12] تقدم إيضاحه، والآيات الدالة عليه في سورة: النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] الآية.
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)}.
في قوله جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمه {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ} وجهان معروفان من التفسير:
الأول: أن المراد بالطائر: العمل ثم قولهم: طار له سهم إذا خرج له. أي ألزمناه ما طار له من عمله.
الثاني: أن المراد بالطائر ماسبق له في علم الله من شقاوة أوسعادة. والقولان متلازمان. لأن ما يطير له من العمل هو سبب ما يؤول إليه من الشقاوة أو السعادة.
فإذا عرفت الوجهين المذكورين فاعلم- أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية قد يكون فيها للعلماء قولان أو أقوال، وكلها حق، ويشهد له قرآن- فنذكر جميع الأقوال وأدلتها من القرآن. لأنها كلها حق، والوجهان المذكوران في تفسير هذه الآية الكريمة كلاهما يشهد له قرآن.
أما على القول الأول بأن المراد بطائره عمله- فالآيات الدالة على أن عمل الإنسان لازم له كثيرة جدًا. كقوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] الآية، وقوله: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16]، وقوله تعالى: {يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} [الانشقاق: 6]، وقوله: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]، وقوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7و8]. والآيات بمثل هذا كثيرة جدًا.
وأما على القول بأن المراد بطائره نصيبه الذي طار له في الأزل من الشقاوة أو السعادة- فالآيات الدالة على ذلك ايضًا كثيرة، كقوله: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، وقوله: {ولذلك خَلَقَهُم} [هود: 119] أي للاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم. وقوله: {فَرِيقًا هدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} [الأعراف: 30]، وقوله: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} [الشورى: 7]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {في عنقه} أي جعلنا عمله او ما سبق من شقاوة في عنقه. أي لازمًا له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه. ومنه قول العرب: تقلدها طوق الحمامة. وقولهم: الموت في الرقاب. وهذا الأمر ربقة في رقبته. ومنه قول الشاعر:
اذهب بها اذهب بها ** طوقتها طوق الحمامه

فالمعنى في ذلك كله: اللزوم وعدم الانفكاك.
وقوله جلًّ وعلا في هذه الآية الكريمة: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} ذكر جلَّ زعلا في هذه الآية الكريمة: أن ذلك العلمل الذي ألزم الإنسان إياه يخرجه له يوم القيامة مكتوبًا ي كتاب يلقاه منشورًا، أي مفتوحًا يقرؤه هو وغيره.
وبين أشياء من صفات هذا الكتاب الذي يلقاه منشورًا في آيات أخر. فبين أن من صفاته: ان المجرمين مشفقون أي خائفون مما فيه، وأنه لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنهم يجدون فيه جميع ما عملوا حاضرًا ليس منه شيء غائبًا، وأن الله جلَّ وعلا لا يظلمهم في الجزاء عليه شيئًا.
وذلك في قوله جلَّ وعلا: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا ويلتنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ ُصَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
وبين في موضع آخر: أن بعض الناس يؤتي هذا الكتاب بيمينه- جعلنا الله وإخواننا المسلمين منهم. وأن من أوتيه بيمينه يحاسب حسابًا يسيرًا، ويرجع إلى أهله مسرورًا، وأنه في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 7-9]، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 19-23].
وبين في موضع آخر: أن من أوتيه بشماله يتمنى أنه لم يؤتهن وأنه يؤمر به فيصلى الجحيم، ويسلك في سلسلة من سلاسل النار ذرعها سبعون ذراعًا. وذلك في قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ياليتها كَانَتِ القاضية مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 25-32] أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من النار، ومما قرب إليها من قوله وعمل.
وبين في موضع آخر: أن من أوتي كتابخ وراء ظهره يصلى السعير، ويدعو الثبور. وذلك في قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ويصلى سَعِيرًا} [الانشقاق: 10-12]، وقوله تعالى: {اقرأ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] يعني أن نفسه تعلم أنه لم يظلم، ولم يكتب عله إلا ما عمل. لأنه في ذلك الوقت يتذكر كل ما عمل في الدنيا من أول عمره إلى آخره. كما قال تعالى: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13].
وقد بين تعالى في مواضع أخر: أنه إن أنكر شيئًا من عمله شهدت عليه جوارحه. كقوله تعالى: {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، وقوله: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين} [فصلت: 31-32]، وقوله جلَّ وعلا {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14-15]، وسيأتي اله لهذا زيادة إيضاح في سورة القيامة.
تنبيه:
لفظة {كفى} تستعمل في القرآن واللغة العربية استعمالين:
تستعمل متعدية، وهي تتعدى غالبًا إلى مفعولين، وفاعل هذه المتعدية لا يجر بالباء كقوله: {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} [الأحزاب: 25]، وكقوله: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] الآية، وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137] الآية، ونحو ذلك من الآيات.
وتستعمل لازمة، ويطرد جر فاعلها بالباء المزيدة لتوكيد الكفاية. كقَوْله في هذه الآية الكريمة {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]، وقوله تعالى: {وكفى بالله وَكِيلًا} [الأحزاب: 3و48]، وقوله: {وكفى بالله حَسِيبًا} [النساء: 6] ونحو ذلك.
ويكثر إتيان التمييز بعد فاعلها المجرور بالباء. وزعم بعض علماء العربية: أن جر فاعليها بالباء لازم. والحق أنه يجوز عدم جه بها، ومنه قول الشاعر:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا ** كفى السيب والإسلام للمرء ناهيا

وقول الآخر:
ويخبرني عن غائب المرء هديه ** كفى الهدى عما غيب المرء مخبرا

وعلى قراءة من قرأ {يلَقَّاه} بضم الياء وتشديد القاف مبنيًا للمفعول- فالمعنى: ان الله يلقيه ذلك الكتاب يوم القيامة. فحذف الفاعل فبني الفعل للمفعول.
وقراءة من قرأ {يَخْرج} بفتح الياء وضم الراءمضارع خرج مبينًا للفاعل- فالفاعل ضير يعود إلى الطائر بمعنى العمل وقوله: {كتابًا} حال من ضمير الفاعل. أي ويوم القيامة يخرج هو أي العمل المعبر عنه بالطائر في حال كونه كتابًا منشورًا. وكذلك على قراءة {يخرج} بضم الياء وفتح الراء مبنيًا للمفعول، فالضمير النائب عن الفاعل راجع أيضًا إلى الطائر الذي هو العمل. أي يخرج له هو أي طائه بمعنى عمله، في حال كونه كتابًا.
وعلى قراءة {يخرج} بضم الياء وكسر الراء مبنيًا للفاعل، فالفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى، وقوله: {كتابًا} مفعول به. أي ويوم القيامة يخرج هو أي الله له كتابًا يلقاه منشورًا.
وعلى قراءة الجمهور منهم السبعة- فالنون في {نخرج} نون العظمة لمطابقة قوله: {ألزمناه} و{كتابًا} مفعول به لنخرج كما هو واضح. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}
الحق سبحانه وتعالى جعل الزمن ليلًا ونهارًا ظرفًا للأحداث، وجعل لكل منهما مهمة لا تتأتّى مع الآخر، فهما متقابلان لا متضادان، فليس الليل ضد النهار أو النهار ضد الليل؛ لأن لكل منهما مهمة، والتقابل يجعلهما متكاملين.
ولذلك أراد الله تعالى أن يُنظِّر بالليل والنهار في جنس الإنسان من الذكورة والأنوثة، فهما أيضًا متكاملان لا متضادان، حتى لا تقوم عداوة بين ذكورة وأنوثة، كما نرى البعض من الجنسين يتعصَّب لجنسه تعصبًُّا أعمى خاليًا من فَهْم طبيعة العلاقة بين الذكر والأنثى.
فالليل والنهار كجنس واحد لهما مهمة، أما من حيث النوع فلكل منهما مهمة خاصة به، وإياك أن تخلط بين هذه وهذه.
وتأمل قول الحق سبحانه: {وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 1-4]
فلا تجعل الليل ضِدًا للنهار، ولا النهار ضدًا لليل، وكذلك لا تجعل الذكورة ضِدًا للأنوثة، ولا الأنوثة ضدًا للذكورة.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا الَّيلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ..} [الإسراء: 12]
جعلنا: بمعنى خلقنا، والليل والنهار هما المعروفان لنا بالمعايشة والمشاهدة، ومعرفتنا هذه أوضح من أنْ نعرِّفهما، فنقول مثلًا: الليل هو مَغِيب الشمس عن نصف الكرة الأرضية، والنهار هو شروق الشمس على نصف الكرة الأرضية.
إذن: قد يكون الشي أوضح من تعريفه.
والحق سبحانه خلق لنا الليل والنهار، وجعل لكل منهما حكمة ومهمة، وحينما يتحدّث عنهما، يقول تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1-2]
ويقول: {وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1-2] فبدأ بالليل.
ومرة يتحدث عن اللازم لهما، فيقول: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]
لأن الحكمة من الليل تكمن في ظُلْمته، والحكمة من النهار تكمُن في نوره، فالظُّلْمة سكَنٌ واستقرار وراحة. وفي الليل تهدأ الأعصاب من الأشعة والضوء، ويأخذ البدن راحته؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «أطفئوا المصابيح إذا رقدتم».
في حين نرى الكثيرين يظنون أن الأضواء المبهرة التي نراها الآن مظهر حضاري، وهم غافلون عن الحكمة من الليل، وهي ظلمته.
والنور للحركة والعمل والسَّعْي، فمَن ارتاح في الليل يُصبح نشيطًا للعمل، ولا يعمل الإنسان إلا إذا أخذ طاقة جديدة، وارتاحت أعضاؤه، ساعتها تستطيع أن تطلب منه أن يعمل.
لذلك قال الحق سبحانه: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيلَ وَالنَّهَارَ..} [القصص: 73] لماذا؟ {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ..} [القصص: 73] أي: في الليل.{وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ..} [القصص: 73] أي: في النهار.
إذن: لليل مهمة، وللنهار مهمة، وإياك أنْ تخلط هذه بهذه، وإذا ما وُجد عمل لا يُؤدِّي إلا بالليل كالحراسة مثلًا، نجد الحق سبحانه يفتح لنا بابًا لنخرج من هذه القاعدة العامة.
فيقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ..} [الروم: 23]
فجعل النهار أيضًا محلًا للنوم، فأعطانا فُسْحة ورُخْصة، ولكن في أضيق نطاق، فَمَنْ لا يقومون بأعمالهم إلا في الليل، وهي نسبة ضئيلة لا تخرق القاعدة العامة التي ارتضاها الحق سبحانه لتنظيم حركة حياتنا.
فإذا خرج الإنسان عن هذه القاعدة، وتمرَّد على هذا النظام الإلهي، فإن الحق سبحانه يَردعه بما يكبح جماحه، ويحميه من إسرافه على نفسه، وهذا من لُطْفه تعالى ورحمته بخَلْقه.