فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أن هذا هو النوع الثاني من طعن اليهود في الإسلام، فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولًا وغدًا يرجع عنه، فنزلت هذه الآية. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{ما ننسخ} بضم النون وكسر السين: ابن ذكوان {ننسأها} مهموزًا: ابن كثير وأبو عمرو غير أوقية، وروى أوقية بغير همز، الباقون: ننسها من الإنساء {نأت بخير} بغير همز: أبو عمرو غير إبراهيم بن حماد ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف، الباقون وإبراهيم بن حماد بالهمزة لأنه جواب الشرط، ومن شرطه أن يهمز كل ما كان نسقًا أي عطفًا على المجزوم أو جوابًا للمجزوم كل القرآن مثل قوله عز وجل: {إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم} وقوله: {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها} وأشباه ذلك {فقد ضل} بالإظهار: حجازي غير ورش وعاصم غير الأعشى، وكذلك يظهرون الدال عند الذال والظاء حيث وقعتا مثل قوله تعالى: {فقد ظلم} {ولقد ذرأنا} وأشباه ذلك.

.الوقوف:

{واسمعوا} ط {أليم} o {من ربكم} ط {من يشاء} ط {العظيم} o {أو مثلها} ط {قدير} o {والأرض} ط {ولا نصير} o ربع الجزء {ومن قبل} ط {السبيل} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا}:

.قال الفخر:

قرأ ابن عامر: {ما ننسخ} بضم النون وكسر السين والباقون بفتحهما، أما قراءة ابن عامر ففيها وجهان.
أحدهما: أن يكون نسخ وأنسخ بمعنى واحد.
والثاني: أنسخته جعتله ذا نسخ كما قال قوم للحجاج وقد صلب رجلًا.
أقبروا فلانًا، أي اجعلوه ذا قبر، قال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21]، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {ننسأها} بفتح النون والهمزة وهو جزم بالشرط ولا يدع أبو عمرو الهمزة في مثل هذا، لأن سكونها علامة للجزم وهو من النسء وهو التأخير.
ومنه: {إِنَّمَا النسئ زِيَادَةٌ في الكفر} [التوبة: 37] ومنه سمي بيع الأجل نسيئة، وقال أهل اللغة: أنسأ الله أجله ونسأ في أجله، أي أخر وزاد، وقال عليه الصلاة والسلام: «من سره النسء في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه» والباقون بضم النون وكسر السين وهو من النسيان، ثم الأكثرون حملوه على النسيان الذي هو ضد الذكر، ومنهم من حمل النسيان على الترك على حد قوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 155] أي فترك وقال: {فاليوم ننساهم كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا} [الأعراف: 51] أي نتركهم كما تركوا، والأظهر أن حمل النسيان على الترك مجاز، لأن المنسي يكون متروكًا، فلما كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم وقرئ: {ننسها} وننسها بالتشديد، وتنسها وتنسها على خطاب الرسول، وقرأ عبد الله: ما ننسك من آية أو ننسخها، وقرأ حذيفة: ما ننسخ من آية أو ننسكها. اهـ.

.فصل في أصل النسخ في اللغة:

قال الفخر:
النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشيء، وقال القفال: إنه للنقل والتحويل لنا أنه يقال: نسخت الريح آثار القوم إذا عدمت، ونسخت الشمس الظل إذا عدم، لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه، وقال تعالى: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان} [الحج: 52] أي يزيله ويبطله، والأصل في الكلام الحقيقة.
وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب أن لا يكون حقيقة في النقل دفعًا للاشتراك.
فإن قيل: وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار، والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز، لأن المزيل للآثار والظل هو الله تعالى، وإذا كان ذلك مجازًا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول: بل النسخ هو النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر كأنه ينقله إليه أو ينقل حكايته، ومنه تناسخ الأرواح وتناسخ القرون قرنًا بعد قرن، وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلًا عن الأول، وقال تعالى: {هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإبطال دفعًا للاشتراك، والجواب عن الأول من وجهين.
أحدهما: أنه لا يمتنع أن يكون الله هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل الشمس والريح المؤثرتين في تلك الإزالة ويكونان أيضًا ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير.
والثاني: أن أهل اللغة إنما أخطأوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح، فهب أنه كذلك، لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لاسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس، وعن الثاني: أن النقل أخص من الإبطال لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة وحصل عقيبها صفة أخرى، فإن مطلق العدم أهم من عدم يحصل عقيبه شيء آخر، وإذا دار اللفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى. والله أعلم. اهـ.
وقال صاحب الفتوحات:
النسخ في اللغة الإزالة والنقل. يقال: نسخت الريح الأثر أي أزالته، ونسخت الكتاب أي نقلته.
ونسخ الآية: بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بهما معًا. اهـ.

.فائدة في معنى {ما} في الآية:

قال الفخر:
{ما} في هذه الآية جزائية كقولك: ما تصنع أصنع وعملها الجزم في الشرط والجزاء إذا كانا مضارعين فقوله: {ننسخ} شرط وقوله: {نأت} جزاء وكلاهما مجزومان. اهـ.

.فصل في تعريف التناسخ في اصطلاح العلماء:

قال الفخر:
اعلم أن التناسخ في اصطلاح العلماء عبارة عن طريق شرعي يدل على أن الحكم الذي كان ثابتًا بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتًا، فقولنا: طريق شرعي نعني به القدر المشترك بين القول الصادر عن الله تعالى وعن رسوله، والفعل المنقول عنهما، ويخرج عنه إجماع الأمة على أحد القولين، لأن ذلك ليس بطريق شرعي على هذا التفسير، ولا يلزم أن يكون الشرع ناسخًا لحكم العقل، لأن العقل ليس طريقًا شرعيًا.
ولا يلزم أن يكون المعجز ناسخًا للحكم الشرعي لأن المعجز ليس طريقًا شرعيًا ولا يلزم تقيد الحكم بغاية أو شرط أو استثناء، لأن ذلك غير متراخ، ولا يلزم ما إذا أمرنا الله بفعل واحد ثم نهانا عن مثله لأنه لو لم يكن مثل هذا النهي ناسخًا لم يكن مثل حكم الأمر ثابتًا. اهـ.

.قال البغوى:

روي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أن قوما من الصحابة رضي الله عنهم قاموا ليلة ليقرءوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك سورة رفعت تلاوتها وأحكامها» وقيل: كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة، فرفع أكثرها تلاوة وحكما، ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه، كما أن القبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة، والوصية للأقارب نسخت بالميراث وعدة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، ومصابرة الواحد العشر في القتال نسخت بمصابرة الإثنين، ومنها ما يرفع ولا يقام غيره مقامه، كامتحان النساء. والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار. اهـ.

.قال الفخر:

النسخ عندنا جائز عقلًا واقع سمعًا خلافًا لليهود، فإن منهم من أنكره عقلًا ومنهم من جوزه عقلًا، لكنه منع منه سمعًا، ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ، واحتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه، لأن الدلائل دلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله، فوجب القطع بالنسخ، وأيضًا قلنا: على اليهود إلزامان.
الأول: جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من الفلك: «إني جعلت كل دابة مأكلًا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه»، ثم إنه تعالى حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرًا من الحيوان، الثاني: كان آدم عليه السلام يزوج الأخت من الأخ وقد حرمه بعد ذلك على موسى عليه السلام.
قال منكرو النسخ: لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلا مع القول بالنسخ لأن من الجائز أن يقال: إن موسى وعيسى عليهما السلام أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك أمر الناس باتباع محمد عليه الصلاة والسلام فعند ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زال التكليف بشرعهما وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة والسلام، لكنه لا يكون ذلك نسخًا، بل جاريًا مجرى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] والمسلمون الذين أنكروا وقوع النسخ أصلًا بنوا مذهبهم على هذا الحرف وقالوا: قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما السلام قد بشرا في التوراة والإنجيل بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام، وأن عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه، وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بوقوع النسخ وهذا هو الاعتراض على الإلزامين المذكورين، واحتج منكروا النسخ بأن قالوا: إن الله تعالى لما بين شرع عيسى عليه السلام، فاللفظ الدال على تلك الشريعة، إما أن يقال: إنها دالة على دوامها أو لا على دوامها أو ما كان فيها دلالة على الدوام ولا على اللادوام، فإن بين فيها ثبوتها على الدوام، ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذبًا وإنه غير جائز على الشرع، وأيضًا، فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخًا، لأن أقصى ما في الباب أن يقول الشرع: هذه الشريعة دائمة ولا تصير منسوخة قط ألبتة، ولكنا إذا رأينا مثل هذا الكلام حاصلًا في شرع موسى وعيسى عليهما السلام مع أنهما لم يدوما زال الوثوق عنه في كل الصور.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: ذكر اللفظ الدال على الدوام، ثم قرن به ما يدل على أنه سينسخه أو ما قرن به إلا أنه نص على ذلك إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة؟ قلنا: هذا ضعيف لوجوه:
أحدها: أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جمع بين كلامين متناقضين، وإنه سفه وعبث، وثانيها: على هذا التقدير قد بين الله تعالى أن شرعهما سيصير منسوخًا، فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضًا، لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضًا، وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر فيها الدواعي على نقله، وما كان كذلك وجب اشتهاره وبلوغه إلى حد التواتر، وإلا فلعل القرآن عورض، ولم تنقل معارضته ولعل محمدًا صلى الله عليه وسلم غير هذا الشرع عن هذا الوضع ولم ينقل، وإذا ثبت وجوب أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر فنقول: لو أن الله تعالى نص في زمان موسى وعيسى عليهما السلام على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهورًا لأهل التواتر، ومعلومًا لهم بالضرورة، ولو كان كذلك لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه، فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمنا أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخين.
وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: إن الله تعالى نص على شرع موسى عليه السلام وقرن به ما يدل به على أنه منقطع غير دائم.
فهذا باطل لما ثبت أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذلك معلومًا بالضرورة لأهل التواتر، وأيضًا فبتقدير صحته لا يكون ذلك نسخًا، بل يكون ذلك انتهاء للغاية.
وأما القسم الثالث: وهو أنه تعالى نص على شرع موسى عليه السلام ولم يبين فيه كونه دائمًا أو كونه غير دائم فنقول: قد ثبت في أصول الفقه أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار وإنما يفيد المرة الواحدة، فإذا أتى المكلف بالمرة الواحدة فقد خرج عن عهدة الأمر، فورود أمر آخر بعد ذلك لا يكون نسخًا للأمر الأول، فثبت بهذا التقسيم أن القول بالنسخ محال.
واعلم أنا بعد أن قررنا هذه الجملة في كتاب المحصول في أصول الفقه تمسكنا في وقوع النسخ بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، والاستدلال به أيضًا ضعيف، لأن {ما} هاهنا تفيد الشرط والجزاء، وكما أن قولك: من جاءك فأكرمه لا يدل على حصول المجيء، بل على أنه متى جاء وجب الإكرام، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ، بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه، فالأقوى أن نعول في الإثبات على قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ} [النحل: 101] وقوله: {يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39]. والله تعالى أعلم. اهـ.

.فصل في وقوع النسخ في القرآن:

قال الفخر:
اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن، وقال أبو مسلم بن بحر: إنه لم يقع، واحتج الجمهور على وقوعه في القرآن بوجوه:
أحدها: هذه الآية وهي قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، أجاب أبو مسلم عنه بوجوه:
الأول: أن المراد من الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل، كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله تعالى عنا وتعبدنا بغيره، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية.
الوجه الثاني: المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب وهو كما يقال نسخت الكتاب.
الوجه الثالث: أنا بينا أن هذه الآية لا تدل على وقوع النسخ، بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير منه، ومن الناس من أجاب عن الاعتراض الأول بأن الآيات إذا أطلقت فالمراد بها آيات القرآن لأنه هو المعهود عندنا، وعن الثاني: بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختص ببعض القرآن وهذا النسخ مختص ببعضه، ولقائل أن يقول على الأول: لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن، بل هو عام في جميع الدلائل، وعلى الثاني: لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن، بل التقدير والله أعلم ما ننسخ من اللوح المحفوظ فإنا نأتي بعده بما هو خير منه.
الحجة الثانية للقائلين بوقوع النسخ في القرآن: أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولًا كاملًا وذلك في قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم متاعا إِلَى الحول} [البقرة: 240] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] قال أبو مسلم: الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملًا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولًا كاملًا، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصًا لا ناسخًا، والجواب: أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر فجعل السنة العدة يكون زائلًا بالكلية.
الحجة الثالثة: أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صَدَقَةً} [المجادلة: 12] ثم نسخ ذلك، قال أبو مسلم: إنما زال ذلك لزوال سببه لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون من حيث لا يتصدقون عن المؤمنين، فلما حصل هذا الغرض سقط التعبد.
والجواب: لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقًا وهو باطل لأنه روي أنه لم يتصدق غير علي رضي الله عنه ويدل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13].
الحجة الرابعة: أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى: {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} [الأنفال: 65 66].
الحجة الخامسة: قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهاء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] ثم إنه تعالى أزالهم عنها بقوله: {فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144].
قال أبو مسلم: حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليها عند الإشكال أو مع العلم إذا كان هناك عذر.
الجواب: أن على ما ذكرته لا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات، فالخصوصية التي بها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد زالت بالكلية فكان نسخًا.
الحجة السادسة: قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101] والتبديل يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم، فكيف كان فهو رفع ونسخ، وإنما أطنبنا في هذه الدلائل لأن كل واحد منها يدل على وقوع النسخ في الجملة واحتج أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل.
والجواب: أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ولا يأتيه من بعده أيضًا ما يبطله. اهـ.