فصل: محو آية الليل وإبقاء آية النهار مبصرة عند المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.محو آية الليل وإبقاء آية النهار مبصرة عند المفسرين:

في شرح معني هذه الآية الكريمة ذكر نفر من المفسرين أن آيتي الليل والنهار نيراهما، فآية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، وإذا كان الأمر كذلك فكيف محيت آية الليل، والقمر لا يزال قائما بدورانه حول الأرض ينير ليلها كلما ظهر؟، فقد روي عن عبدالله بن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما أنه قال: كان القمر يضئ كما تضئ الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار، وعلي ذلك فمعني قول الحق تبارك وتعالى: فمحونا آية الليل هو السواد الذي في القمر أي انطفاء جذوته، وأضاف: أن مدلول وجعلنا الليل والنهار آيتين أي ليلا ونهارا، وكذلك خلقهم الله عز وجل.
وتبع ابن عباس في ذلك قتادة يرحمه الله الذي قال: كنا نحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه، وجعلنا آية النهار مبصرة أي منيرة، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم.
وفي الكلام إشارة دقيقة إلي الفارق الذي حدده القرآن الكريم في آيات عديدة بين ضوء الشمس ونور القمر، والذي لم يدركه العلماء إلا متأخرا بأن الأول ينطلق من نجم ملتهب شديد الحرارة، مضئ بذاته بينما الثاني ينتج عن انعكاس أشعة الشمس علي سطح القمر البارد المعتم.
وقال نفر آخر من المفسرين إن آية الليل هي ظلمته، كما أن آية النهار هي نوره ووضاءته، فالله تعالي جعل من الظلام آية لليل، كما جعل من النور آية للنهار، فيعرف كل منهما بأيته، أي بعلامته الدالة عليه، ومن هؤلاء المفسرين ابن جريج يرحمه الله الذي نقل عن عبدالله بن كثير رحمة الله عليه قوله: آيتا الليل والنهار هما ظلمة الليل، وسرف النهار.
وهنا يتبادر إلي الذهن السؤال التالي: كيف يستقيم هذا الفهم مع قول الحق تبارك وتعالى: فمحونا آية الليل وظلمة الليل باقية مع بقاء نور النهار؟ وإذا كانت آية الليل هي ظلمته فكيف محيت تلك الظلمة وهي لاتزال باقية؟ وعلي الرغم من هذا التعارض فقد أيد عدد من المفسرين المعاصرين هذا الفهم بصورة أو أخري ومنهم صاحب الظلال يرحمه الله الذي كتب ما نصه.. والليل والنهار آيتان كونيتان كبيرتان تشيان بدقة الناموس الذي لايصيبه الخلل مرة واحدة، ولايدركه التعطل مرة واحدة، ولا يني يعمل دائبا بالليل والنهار، فما المحو المقصود هنا وآية الليل باقية كآية النهار؟ يبدو- والله أعلم- أن المقصود به- ظلمة الليل التي تخفي فيها الأشياء، وتسكن فيها الحركات والأشباح..، فكأن الليل محو إذا قيس إلي ضوء النهار، وحركة الأحياء فيه والأشياء، وكأنما النهار ذاته مبصر بالضوء بالنور الذي يكشف كل شيء فيه للأبصار.
من هذا الاستعراض يتضح اختلاف آراء المفسرين- قدامي ومعاصرين- في اجتهادهم لفهم دلالة الآية القرآنية الكريمة التي نحن بصددها الآية الثانية عشرة من سورة الإسراء فمنهم من قال بأن آية النهار هي نوره الوضاء، أو هي الشمس مصدر ذلك الضياء، بينما آية الليل هي ظلمته، أو هي القمر المتميز بظلمة سطحه الذي لا ينير إلا بسقوط أشعة الشمس عليه، وانعكاسها من ذلك السطح المعتم المظلم، وقد دفع ذلك ببعض المفسرين إلي القول بإحتمال كون القمر في بدء خلقه ملتهبا، شديد الحرارة، مشتعلا، مضيئا بذاته تماما كالشمس، ثم انطفأت جذوته وخبت، فمحي ضوءه الأصلي، ولم يعد له نور إلا مايسقط علي سطحه من أشعة الشمس، وهذا الاحتمال لاتدعمه الملاحظات العلمية الدقيقة في صفحه الكون، وفي تاريخ الأرض القديم، فكتلة القمر المقدرة بحوالي 735 مليون مليون مليون طن البالغة حوالي 80/1 من كتلة الأرض لا تمكنه من أن يكون نجما ملتهبا بذاته فالحد الأدني لكتلة الجرم السماوي كي يكون نجما لاتقل عن 8% من كتلة الشمس المقدرة بألفي مليون مليون مليون مليون طن، أي لا يجوز للنجم أن تقل كتلته عن 160 مليون مليون مليون مليون طن وهو أكثر من مائتي ضعف كتلة القمر، ولو افترضنا جدلا امكانية أن يكون القمر نجما لأحرق لهيبه الأرض لقربه منها 380000 كيلو متر في المتوسط، ولأدي إلي خلخلة غلافها الغازي، وإلي تبخير مياهها، وإلي تركها جرداء قاحلة لا أثر للحياة فيها علي الإطلاق...!!! إضاءة السماء في ظلمة الليل كانت آية الليل، ومحوها هو حجبها عنا.
على الرغم من الظلام الشامل للكون، والذي لم يدركه الإنسان إلا بعد ريادة الفضاء منذ مطلع الستينات من القرن العشرين، وعلي الرغم من محدودية الحزام الرقيق الذي يري فيه نور النهار بسمك؛ لايتعدي المائتي كيلو متر فوق مستوي سطح البحر في نصف الكرة الأرضية المواجهة للشمس حتي أن الانسان في انطلاقه من الأرض إلي فسحة الكون في أثناء النهار فإنه يفاجأ بتلك الظلمة الكونية الشاملة التي يري فيها الشمس قرصا أزرق في صفحة حالكة السواد، لايقطع من شدة سوادها إلا أعداد من النقاط المتناثرة، الباهته الضوء التي تحدد مواقع النجوم. علي الرغم من كل ذلك فإن العلماء قد لاحظوا في سماء الأرض عددا من الظواهر المنيرة في ظلمة الليل الحالك نعرف منها:
(1) ظاهرة توهج الهواء في طبقات الجو العليا:
Airglowin the upperatmosphere:
وهي عبارة عن نور باهت متغير ينتج عن عدد من التفاعلات الكيميائية في نطاق التأين Ionosphere المحيط بالأرض من ارتفاع 90 إلي 1000 كيلومتر فوق مستوي سطح البحر، وهو نطاق مشحون بالإلكترونات مما يساعد علي رجع الموجات الراديوية إلي الأرض.
(2) ظاهرة أنوار مناطق البروج Zodiacal Lights وتظهر علي هيئة مخروط من النور الباهت الرقيق الذي يري في جهة الغرب بمجرد غروب الشمس، كما يري في جهة الشرق قبل طلوعها بقليل، وتفسر تلك الأنوار بانعكاس وتشتت ضوء الشمس غير المباشر علي بعض الأجرام الكونية التي تعترض سبيله في أثناء تحركها متباعدة عن الأرض أو مقتربة منها.
(3) ظاهرة أضواء النجوم Stellar Lights وتصدر من النجوم في مواقعها المختلفة، ثم تتشتت في المسافات الفاصلة بينها حتي تصل إلي غلاف الأرض الغازي.
(4) ظاهرة أضواء المجرات Galactic Lights:
وتصدر من نجوم مجرة من المجرات القريبة منا، والتي تتشتت أضواؤها في داخل المجرة الواحدة، ثم يعاد تشتتها في المسافات الفاصلة بين المجرات حتي تصل إلي الغلاف الغازي المحيط بالأرض.
(5) ظاهرة الفجر القطبي وأطيافه:
Aurora and Auroralspectra:
وتعرف هذه الظاهرة أيضا بإسم الأضواء القطبية Polar Lights أو بإسم فجر الليل القطبي Polar Nights Dawn وهي ظاهرة نورانية تري بالليل في سماء كل من المناطق القطبية وحول القطبية Polarand Subpolar Regions وتتركز أساسا في المنطقتين الواقعتين بين كل من قطبي الأرض المغناطيسيتين وخطي العرض المغناطيسيين 67 درجة شمالا، 67 درجة جنوبا، وقد تمتد أحيانا لتشمل مساحات أوسع من ذلك.
وتبدو ظاهرة الفجر القطبي عادة علي هيئة أنوار زاهية متألقة جميلة، تختلف باختلاف الارتفاع الذي تري عنده ويغلب عليها اللون الأخضر والأحمر والأبيض المشوب بزرقه والبنفسجي والبرتقالي وهي تتوهج وتخبو أي تزداد شدة ولمعانا ثم تهدأ بطريقة دورية كل عدة ثوان قد تمتد إلي عدة دقائق، وتتباين ألوان الشفق القطبي في أجزائه المختلفة تباينا كبيرا، وإن تناقصت شدة نورها إلي أعلي بصفة عامة، حيث تتدلي تلك الأنوار من السماء إلي مستوي قد يصل إلي 80 كيلومترا فوق مستوي سطح البحر، وتمتد أفقيا إلي مئات الكيلومترات لتملأ مساحات شاسعة في صفحة السماء، علي هيئة هالات حلقية أو قوسية متموجة، تكون عددا من الستائر النورانية المطوية المتدلية من السماء، والتي يشبه نورها النور المصاحب لبزوغ الفجر الحقيقي.
ويفسر العلماء حدوث ظاهرة الفجر القطبي بارتطام الأشعة الكونية الأولية بالغلاف الغازي للأرض مما يؤدي إلي تأينه أي شحنة بالكهرباء، وإصدار أشعة كونية ثانوية، ثم تصادم الأشعات الكونية وهي تحمل شحنات كهربية مختلفة مع بعضها البعض، ومع غيرها من الشحنات الكهربية الموجودة في الغلاف الغازي للأرض مما يؤدي إلي تفريغها، وتوهجها، وتكثر الشحنات الكهربائية في الغلاف الغازي للأرض في كل من أحزمة الإشعاع Radiation Belts المعروفة باسم أحزمة فان ألن Van Allens Belts والموجودة في داخل نطق التأين المحيطة بالأرض Ionos phere Zones وفي نطق التأين ذاتها. والأشعة الكونية الأولية Primary Cosmic Rays تملأ فسحة الكون علي هيئة الجسيمات الأولية المكونة للذرات Elementaryorsubatomic particles وهي جسيمات متناهية في الدقة، ومشحونة بشحنات كهربائية عالية، وتتحرك بسرعات تقترب من سرعة الضوء، وتنطلق الأشعة الكونية الأولية من الشمس، وإن كان أغلبها يصلنا من خارج المجموعة الشمسية، ولم تكتشف تلك الأشعة الكونية إلا في سنة 1936م.
وتتسرب الأشعة الكونية الأولية إلي الأرض عبر قطبيها المغناطيسيين لتصل إلي أحزمة الإشعاع ونطق التأين في الغلاف الغازي للأرض مما يؤدي إلي تكون الأشعة الكونية الثانوية Secondary cosmicrays التي قد يصل بعضها إلي سطح الأرض فيخترق صخورها، أما الأشعة الكونية الأولية فلا يكاد يصل منها إلي سطح الأرض قدر يمكن قياسه.
والأشعة الكونية بأنواعها المختلفة تتحرك بمحاذاة خطوط المجال المغناطيسي للأرض، والتي تنحني لتصب في قطبي الأرض المغناطيسيين ساحبة معها موجات الأشعة الكونية، وذلك لعجزها عن عبور مجال الأرض المغناطيسي، وحينما تنفذ تلك الأشعة من قطبي الأرض المغناطيسيين فإنها تؤدي إلي زيادة تأين الغلاف الغازي للأرض في منطقتي قطبيها المغناطيسيين، ويؤدي اصطدام الشحنات المختلفة إلي تفريغها من شحناتها الكهربائية، ومن ثم إلي توهج الغلاف الغازي للأرض في كل من المنطقتين القطبيتين في ظاهرة تعرف بظاهرة الوهج القطبي أو الشفق القطبي أو الأضواء القطبية أو فجر الليل القطبي وهي ظاهرة تري بوضوح في ظلمة الليل الحالك حول القطبين المغناطيسيين للأرض، خاصة في أوقات الثورات الشمسية العنيفة حين يتزايد اندفاع الأشعة الكونية الأولية من الشمس، فتصل كميات مضاعفة منها في اتجاه الأرض. ويتزايد الإشعاع في الطبقات العليا من الغلاف الغازي للأرض إلي نسب مهلكة مدمرة خاصة في نطق التأين التي تحتوي علي تركيز عال من البروتونات الموجبة والإليكترونات السالبة، ويحتبس المجال المغناطيسي للأرض الغالبية العظمي من تلك الإشعاعات، ويوجهها إلي قطبيها المغناطيسيين في حركة لولبية موازية لخطوط المجال المغناطيسي والتي تنحني من القطب الشمالي إلي القطب الجنوبي وبالعكس، وعندما يقترب الجسم المشحون بالكهرباء من جسيمات الأشعة الكونية تلك من أحد قطبي الأرض المغناطيسيين فإنه يرده إلي الآخر وهكذا تحدد خطوط الحقل المغناطيسي للأرض اتجاهات تحرك الأشعة الكونية وتركزها حول قطبي الأرض المغناطيسيين.
ومن الثابت علميا أن نطق الحماية المتعددة الموجودة في الغلاف الغازي للأرض ومنها نطاق الأوزون، نطق التأين المتعددة، أحزمة الإشعاع، والنطاق المغناطيسي للأرض، لم تكن موجودة في بدء خلق الأرض، ولم تتكون إلا علي مراحل متطاولة من بداية خلق الأرض الابتدائية:
Proto-Earth وعلي ذلك فقد كانت الأشعة الكونية وباقي صور النور المتعددة في صفحة الكون تصل بكميات هائلة إلي المستويات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض ككل، فتؤدي إلي إنارتها وتوهجها ليلا بمثل ظاهرة الشفق القطبي، توهج الهواء، أضواء النجوم، أضواء المجرات وغيرها مما نشاهد اليوم، ولكن بمعدلات أشد وأقوي، وكان هذا التوهج وتلك الإنارة يشملان كل أرجاء الأرض فتنير ليلها إنارة تقضي علي ظلمة الليل.
وبعد تكون نطق الحماية المختلفة للأرض أخذت هذه الظواهر في التضاؤل التدريجي حتي اقتصرت علي بقايا رقيقة جدا وفي مناطق محددة جدا مثل منطقتي قطبي الأرض المغناطيسيين، لتبقي شاهدة علي حقيقة أن ليل الأرض في المراحل الأولي لخلقها كان يضاء بوهج لايقل في شدته عن نور الفجر الصادق، وشاهدة علي رحمة الله بنا أن جعل للأرض هذا العدد الهائل من نطق الحماية المتعددة والتي بدونها تستحيل الحياة علي الأرض، وشاهدة علي حاجتنا إلي رحمة الله تعالي ورعايته في كل وقت وفي كل حين من الأخطار المحيطة بنا من كل جانب، وشاهدة علي صدق تلك الإشارة القرآنية المعجزة.
وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا.
وهي حقيقة لم يدركها العلم المكتسب إلا في السنوات المتأخرة من القرن العشرين، ولم يكن لأحد من البشر إدراك لها وقت تنزل القرآن الكريم ولا لعدد من القرون بعد ذلك..!!
وانطلاقا من هذه الحقيقة يمن علينا ربنا تبارك وتعالى بتبادل الليل والنهار فيقول عز من قائل: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلي يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلي يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون. ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} ]القصص:71- 73].
وجاء ذكر الليل في القرآن الكريم اثنتين وتسعين (92) مرة، منها ثلاثة وسبعون (73) مرة بلفظة الليل، ومرة واحدة بلفظة ليل، وثماني (8) مرات بلفظة ليلة، وخمسة (5) مرات بلفظة ليلا، وثلاث (3) مرات بلفظة ليال، ومرة واحدة بكل من اللفظين ليلها وليالي.
كذلك ورد ذكر النهار في القرآن الكريم سبعا وخمسين (57) مرة، منها أربعة وخمسون (54) مرة بلفظ النهار، وثلاث (3) مرات بلفظ نهارا، كما وردت ألفاظ الصبح، والإصباح والفلق ومشتقاتها بمدلول النهار في آيات أخري كثيرة، كذلك وردت كلمة اليوم أحيانا بمعني النهار.
ونعمة الله تعالي علي أهل الأرض جميعا بمحو إنارة الليل، وإبقاء إنارة النهار نعمة مابعدها نعمة، لأنه لولا ذلك ما استقامت الحياة علي الأرض، ولا استطاع الانسان الإحساس بالزمن، ولا التأريخ للأحداث بغير تبادل ظلام الليل مع نور النهار، ولتلاشت الحياة، ومن هنا جاءت إشارة القرآن الكريم إلي تلك الحقيقة سبقا لكافة المعارف الإنسانية.