فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {مَن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} يعني لما يحصل له من ثواب طاعته.
{ومَن ضلّ فإنما يضل عليها} يعني لما يحصل عليه من عقاب معصيته.
{ولا تزر وازِرةٌ وزر أخرى} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره.
الثاني: لا يجوز لأحد أن يعصى لمعصية غيره.
الثالث: لا يأثم أحد بإثم غيره.
ويحتمل رابعًا: أن لا يتحمل أحد ذنب غيره ويسقط مأثمه عن فاعله.
{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} فيه وجهان:
أحدهما: وما كنا معذبين على الشرائع الدينية حتى نبعث رسولًا مبينًا، وهذا قول من زعم أن العقل تقدم الشرع.
الثاني: وما كنا معذبين على شيء من المعاصي حتى نبعث رسولًا داعيًا، وهذا قول من زعم أن العقل والشرع جاءا معًا.
وفي العذاب وجهان:
أحدهما: عذاب الآخرة. وهو ظاهر قول قتادة.
الثاني: عذاب بالاستئصال في الدنيا، وهو قول مقاتل.
قوله عز وجل: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها..} الآية.
في قوله: {وإذا أردنا أن نهلك قرية} ثلاثة أقاويل:
أحدها: معناه إذا أردنا أن نحكم بهلاك قرية.
والثاني: معناه وإذا أهلكنا قرية، وقوله: {أردنا} صلة زائدة كهي في قوله تعالى: {جدارًا يريد أن ينقض} [الكهف: 77]
الثالث: أنه أراد بهلاك القرية فناء خيارها وبقاء شرارها.
{أمرنا مترفيها} الذي عليه الأئمة السبعة من القراء أن أمرنا مقصور مخفف، وفيه وجهان:
أحدهما: أمرنا متفريها بالطاعة، لأن الله تعالى لا يأمر إلا بها، {ففسقوا فيها} أي فعصوا بالمخالفة، قاله ابن عباس.
الثاني: معناه: بعثنا مستكبريها، قاله هارون، وهي في قراءة أبيِّ: بعثنا أكابر مجرميها.
وفي قراءة ثانية {أمّرنا مترفيها} بتشديد الميم، ومعناه جعلناهم أمراء مسلطين، قاله أبو عثمان النهدي.
وفي قراءة ثالثة {آمَرْنا مُترفيها} ممدود، ومعناه أكثرنا عددهم، من قولهم آمر القوم إذا كثروا، لأنهم مع الكثرة يحتاجون إلى أمير يأمرهم وينهاهم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير المال مهرة أو سُكة مأبورة» أي كثيرة النسل، وقال لبيد:
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمِروا ** يومًا يصيروا إلى الإهلاك والنكد

وهذا قول الحسن وقتادة.
وفي {مترفيها} ثلاثة تأويلات:
أحدها جباروها، قاله السن.
الثاني: رؤساؤها، قاله علي بن عيسى.
الثالث: فساقها، قاله مجاهد.
قوله عز وجل: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نُوح} واختلفوا في مدة القرن على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه مائة وعشرون سنة، قاله عبد الله بن أبي أوفى.
الثاني: أنه مائة سنة، قاله عبد الله بن بُسْر المازني. الثالث: أنه أربعون سنة، روى ذلك محمد بن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}
معنى هذه الآية أن كل أحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره، وروي أن سببها أن الوليد بن المغيرة المخزومي قال لأهل مكة: اكفروا بمحمد وإثمكم علي، فنزلت هذه الآية، أي إن الوليد لا يحمل إثمكم وإنما إثم كل واحد عليه، وقالت فرقة نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسد، والإشارة بالضلال إلى الوليد بن المغيرة، و{وزر} معاه حمل، والوزر الثقل، ومنه وزير السلطان أي يحمل ثقل دولته، وبهذه الآية نزعت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الرد على من قال: إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه، ونكتة ذلك المعنى إنما هي أن التعذيب إنما يعنّ إذا كان البكاء من سنة الميت، وسببه كما كانت العرب تفعل وقوله: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} قالت فرقة هي الجمهور: هذا في حكم الدنيا، أي إن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار، وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة.
قال القاضي أبو محمد: وتلخيص هذا المعنى: أن مقصد الآية في هذا الموضع الإعلام بعادة الله مع الأمم في الدنيا، وبهذا يقرب الوعيد من كفار مكة، ويؤيد ما يجيء بعد من وصفه ما يكون عند إرادته إهلاك قرية، ومن إعلامه بكثرة ما أهلك من القرون ومع هذا فالظاهر من كتاب الله في غير هذا الموضع ومن النظر أن الله تعالى لا يعذب في الآخرة إلا بعد بعثة الرسل، كقوله تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى} [الملك: 8-9]، وظاهر {كلما} [الملك: 8] الحصر، وكقوله تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر: 24]، وأما من جهة النظر فإن بعثة آدم عليه السلام بالتوحيد وبَثِ المعتقدات في نبيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر يوجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في مدة نوح عليه السلام بعد غرق الكفار، وهذه الآية أيضًا يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا، ويجوز مع الفرض وجود قوم لم تصلهم رسالة وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم، وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح ولا يقتضيه ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليس دار تكليف، وقوله: {وإذا أردنا أن نهلك قرية} الآية، في مصحف أبي: {بعثنا أكابر مجرميها}، و{القرية}، المدينة المجتمعة مأخوذ من قريت الماء في الحوض إذا جمعته وليست من قرأ الذي هو مهموز، وإن كان فيها جمعًا معنى الجمع، وقرأ الجمهور: {أمَرنا} على صيغة الماضي من أمر ضد نهي، وقرأ نافع، وابن كثير في بعض ما روي عنهما، {آمرنا} بمد الهمزة بمعنى كثرنا، ورويت عن الحسن، وهي قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس بخلاف عنه وعن الأعرج، وقرأ بها ابن إسحاق، تقول العرب: أمر القوم إذا كثروا، وآمرهم الله بتعدي الهمزة وقرأ أبو عمرو بخلاف: {أمّرنا} بتشديد الميم، وهي قراءة أبي عثمان النهدي وأبي العالية وابن عباس، ورويت عن علي بن أبي طالب، وقال الطبري،: القراءة الأولى معناها أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها وهو قول ابن عباس وابن جبير، والثانية معناها كثرناهم، والثالثة هي من الإمارة أي ملكناهم على الناس، قال القاضي أبو محمد: قال أبو علي الفارسي: الجيد في {آمرنا} أن تكون بمعنى كثرنا فتعدي الفعل بلفظه غير متعد كما تقول رجع ورجعته وشتر عينه وشترتها فتقول آمر القوم وآمرهم الله أي كثرهم، قال {وآمرنا} مبالغة في {أمرنا} بالهمزة، و{أمّرنا} مبالغة فيه بالتضعيف، ولا وجه لكون {أمّرنا} من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلا واحدًا بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم.
قال القاضي أبو محمد: وينفصل عن هذا الذي قاله أبو علي بأن الأمر وإن كان يعم المترف وغيره فخص المترف بالذكر إذ فسقه هو المؤثر في فساد القرية وهم عظم الضلالة، وسواهم تبع لهم وأما {أمّرنا} من الإمارة فمتوجه على وجهين، أحدهما أن لا يريد إمارة الملك بل كونهم يأمرون ويؤتمر لهم، فإن العرب تقول لمن يأمر الإنسان وإن لم يكن ملكًا هو أميره، ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
إذا كان هادي الفتى في البلاد ** صدر القناة أطاع الأميرا

ومنه قول معاوية لعمر رضي الله عنه حين أمره بالاستقادة من لطمة عمرو بن العاص، إن علي أميرًا لا أقطع أمرًا دونه، أراد معاوية رضي الله عنه أباه وأراد الأعشى أنه إذا شاخ الإنسان وعمي واهتدى بالعصا أطاع كل من يأمره، ومنه قول الآخر: [الكامل]
والناس يلحون الأمير إذ هم ** خطئوا الصواب ولا يلام المرشد

وأيضًا فلو أراد إمارة الملك في الآية لحسن المعنى، لأن الأمة إذا ملك الله عليها مترفًا ففسق ثم ولي مثله بعده، ثم كذلك عظم الفساد وتوالى الكفر واستحقوا العذاب فنزل بهم على الرجل الأخير من ملوكهم، وقرأ الحسن ويحيى بن عمر: {أمِرنا} بكسر الميم وحكاها النحاس عن ابن عباس، ولا أتحقق وجهًا لهذه القراءة إلا إن كان أمر القوم يتعدى بلفظه، فإن العرب تقول آمر بنو فلان إذا كثروا، ومنه قول لبيد:
إن يغبُطوا يهبطوا وإن أمروا ** يومًا يصيروا للقل والنفد

ومنه: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، ورد القراء هذه القراءة، وقد حكي أمر متعديًا عن أبي زيد الأنصاري، و{المترف} الغني من المال المتنعم، والترفة النعمة، وفي مصحف أبي بن كعب: {قرية بعثنا أكابر مجرميها فمكروا فيها}، وقوله: {فحق عليها القول} أي وعيد الله لها الذي قاله رسولهم، والتدمير الإهلاك، مع طمس الآثار وهدم البناء، ومنه قول الفرزدق: [المتقارب]
وكان لهمْ ككبرِ ثمود لمّا ** رغا دهرًا فدمرهم دمارا

وقوله: {وكم أهلكنا} الآية {كم} في موضع نصب بـ {أهلكنا} وهذا الذكر لكثرة من أهلك الله {من القرون} مثال لقريش ووعيد، أي لستم ببعيد مما حصلوا فيه من العذاب إذا أنتم كذبتم نبيكم، واختلف الناس في القرن، فقال ابن سيرين: عن النبي عليه السلام أربعون، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وقال عبد الله بن أبي أوفى القرن مائة وعشرون سنة، وقالت طائفة القرن مائة سنة، وهذا هو الأصح الذي يعضده الحديث في قوله عليه السلام: «خير الناس قرني»، وروى محمد بن القاسم في ختنه عبد الله بن يسر، قال وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي، وقال سيعيش هذا الغلام قرنًا قلت: كم القرن؟ قال مائة سنة، قال محمد بن القاسم، فما زلنا نعد له حتى أكمل مائة سنة ومات رحمه الله، والباء في قوله: {بربك} زائدة التقدير وكفى بربك، وهذه الباء إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم وكأنها تعطي معنى اكتف بربك أي ما أكفاه في هذا، وقد تجيء {كفى} دون باء كقول الشاعر: [الطويل]
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

وكقول الآخر: [الطويل]
ويخبرني عن غائب الأمر هديه ** كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا

اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} أي: له ثواب اهتدائه، وعليه عقاب ضلاله.
قوله تعالى: {ولا تزرُ وازرةٌ} أي: نفس وازرة {وزر أخرى} قال ابن عباس: إِن الوليد بن المغيرة قال: اتبَّعوني وأنا أحمل أوزاركم، فقال الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، قال أبو عبيدة: والمعنى: ولا تَأثَمْ آثمة إِثم أخرى.
قال الزجاج: يقال: وزَر، يَزِرُ، فهو وازِر، وَزرًا، ووِزرًا، ووِزْرةً، ومعناه: أثِم إِثمًا.
وفي تأويل هذه الآية وجهان.
أحدهما: أن الآثم لا يؤخذ بذنب غيره.
والثاني: أنه لا ينبغي أن يعمل الإِنسان بالإِثم، لأن غيرَه عَمِلَه كما قال الكفار: {إِنّا وجدنا آباءنا على أمة} [الزخرف: 22].
ومعنى {حتى نبعثَ رسولًا} أي: حتى نُبيّنَ ما به نعذِّب، وما من أجله نُدخلُ الجنة.
فصل:
قال القاضي أبو يعلى: في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا، وإِنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإِنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار.
قال: وقيل معناه: أنه لا يعذِّب في ما طريقه السمع إِلاَّ بقيام حجة السمع من جهة الرسول، ولهذا قالوا: لو أسلم بعض أهل الحرب في دار الحرب ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها، لم يلزمه قضاء شيء منها، لأنها لم تلزمه إِلاَّ بعد قيام حجة السمع، والأصل فيه قصة أهل قُباء حين استداروا إِلى الكعبة ولم يستأنفوا، ولو أسلم في دار الإِسلام ولم يعلم بفرض الصلاة، فالواجب عليه القضاء، لأنه قد رأى الناس يصلُّون في المساجد بأذان وإِقامة، وذلك دعاء إِليها.
قوله تعالى: {وإِذا أردنا أن نُهلِك قرية}
في سبب إِرادته لذلك قولان.
أحدهما: ما سبق لهم في قضائه من الشقاء.
والثاني: عنادهم الأنبياء وتكذيبهم إِياهم.
قوله تعالى: {أمرنا مترفيها} قرأ الأكثرون: {أَمرْنَا} مخففة، على وزن فَعَلْنا، وفيها ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه من الأمر، وفي الكلام إِضمار، تقديره: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا، هذا مذهب سعيد بن جبير.
قال الزجاج: ومثله في الكلام: أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر.
والثاني: كثَّرنا يقال: أمرت الشيء وآمرته، أي: كثَّرته، ومنه قولهم: مُهرَةٌ مأمورةٌ، أي: كثيرة النِّتاج، يقال: أَمِر بنو فلان يأمَرون أمرًا: إِذا كثروا، هذا قول أبي عبيدة، وابن قتيبة.
والثالث: أن معنى {أَمَرْنَا}: أمَّرْنا، يقال: أَمرت الرجل، بمعنى: أمَّرته، والمعنى: سلَّطنا مترفيها بالإِمارة، ذكره ابن الأنباري.
وروى خارجة عن نافع: {آمرنا} ممدودة، مثل آمنّا، وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثير، وهي قراءة ابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي رزين، والحسن، والضحاك، ويعقوب.
قال ابن قتيبة: وهي اللغة العالية المشهورة، ومعناه: كثَّرنا، أيضًا.
وروى ابن مجاهد أن أبا عمرو قرأ: {أمَّرْنَا} مشددة الميم، وهي رواية أبان عن عاصم، وهي قراءة أبي العالية، والنخعي والجحدري.
قال ابن قتيبة: المعنى: جعلناهم أُمراءَ.
وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر: {أَمِرْنا} بفتح الهمزة مكسورة الميم مخففة.
فأما المترَفون، فهم المتنعّمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسَعة العيش، والمفسرون يقولون: هم الجبَّارون والمسلَّطون والملوك، وإِنما خص المترَفين بالذكر، لأنهم الرؤساء، ومَن عداهم تبع لهم.
قوله تعالى: {ففسقوا فيها} أي: تمردوا في كفرهم، لأن الفسق في الكفر: الخروج إِلى أفحشه.
وقد شرحنا معنى الفسق في [البقرة: 26، 197].
قوله تعالى: {فحق عليها القول} قال مقاتل: وجب عليها العذاب.
وقد ذكرنا معنى التدمير في [الأعراف: 137].
قوله تعالى: {وكم أهلكنا من القرون} وهو جمع قَرن.
وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه في [الأنعام: 6]، وشرحنا معنى الخبير والبصير في البقرة.
قال مقاتل: وهذه الآية تخويف لأهل مكة. اهـ.