فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن أبي إسحاق وأبو رجاء وعيسى بن عمرو وعبد الله بن أبي زيد والكلبي {أَمْرُنَا} بالمد وكذلك جاء عن ابن عباس والحسن وقتادة وأبي العالية وابن هرمز وعاصم وابن كثير وأبي عمرو ونافع وهو اختيار يعقوب، ومعناه عند الجميع كثرنا وبذلك أيد التفسير السابق على القراءة المشهورة.
وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي، والسدي وزيد بن علي وأبو العالية {أَمْرُنَا} بالتشديد، وروي ذلك أيضًا عن علي والحسن والباقر رضي الله تعالى عنهم وعاصم وأبي عمرو، ومعناه على هذه القراءة قيل كثرنا أيضًا، وقيل: بمعنى وليناهم وجعلناهم أمراء واللازم من ذلك أمر بالضم إلحاقًا له بالسجايا أي صار أميرًا والمراد به من يؤمر ويؤتمر به سواء كان ملكًا أم لا على أنه لا محذور لو أريد به الملك أيضًا خلافًا للفارسي لأن القرية إذا ملك عليها مترف ففسق ثم آخر ففسق وهكذا كثر الفساد وتوالى الكفر ونزل بهم العذاب على الآخر من ملوكهم {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} أي كلمة العذاب السابق بحلوله أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم فيها {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} لا يكتنه كنهه ولا يوصف، والتدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء، والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه وإهلاك جميعهم لصدور الفسق منهم جميعًا فإن غير المترف يتبعه عادة لا سيما إذا كان المترف من علماء السوء، ومن هنا قيل: المعنى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها واتبعهم غيرهم فحق عليها القول الآية، وقيل: هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال سبحانه: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وصح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعًا يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها قالت زينب: قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال: نعم إذا كثر الخبث» هذا والظاهر أن {أَمْرُنَا} جواب إذا ولا تقديم ولا تأخير في الآية والإشكال المشهور فيها على هذا التقدير من أنها تدل على أنه سبحانه يريد إهلاك قوم ابتداءً فيتوسل إليه بأن يأمرهم فيفسقون فيهلكهم وإرادة ضرر الغير ابتداءً من غير استحقاق الإضرار كالإضرار كذلك مما ينزه عنه تعالى لمنافاته للحكمة قد مرت الإشارة إلى جوابه، وأجاب عنه بعضهم بأنه في الآية تقديمًا وتأخيرًا والأصل إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا إهلاكها فحق عليها القول، ونظيره على ما قيل قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ} [النساء: 102] وآخرون بأن قوله تعالى: {أَمْرُنَا} إلخ في موضع الصفة لقرية وجواب إذا محذوف للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه كما قيل في قوله تعالى: {حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها} إلى قوله سبحانه: {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} [الزمر: 73، 74] وقول الهذلي وهو آخر قصيدة:
حتى إذا اسلكوهم في قتائدة ** شلا كما تطرد الجمالة الشردا

وقيل في الجواب عن ذلك غير ذلك فتدبر.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا} أي كثيرًا ما أهلكنا {مّنَ القرون} تمييز لكم والقرن على ما قال الراغب القوم المقترنون في زمان واحد، وعن عبد الله بن أبي أوفى هو مدة مائة وعشرين سنة، وعن محمد بن القاسم المازني وروي مرفوعًا أنه مائة سنة، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم دعا لرجل فقال: عش قرنًا فعاش مائة سنة أو مائة وعشرين، وعن الكلبي أنه ثمانون سنة، وعن ابن سيرين أنه أربعون سنة {مِن بَعْدِ نُوحٍ} من بعد زمنه عليه السلام كعاد وثمود ومن بعدهم ممن قصت أحوالهم في القرآن العظيم ومن لم تقص، وخص نوح عليه السلام بالذكر ولم يقل من بعد آدم لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب ففيه تهديد وإنذار للمشركين ولظهور حال قومه لم ينظموا في القرون المهلكة على أن ذكره عليه السلام رمز إلى ذكرهم، ومن الأولى للتبيين لا زائدة والثانية لابتداء الغاية فلذا جاز اتحاد متعلقهما، وقال الحوفي: من الثانية بدل من الأولى وليس بجيد.
{وكفى بِرَبّكَ} أي كفى ربك وقد تقدم الكلام مفصلًا آنفًا في مثل هذا التركيب {بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا} محيطًا بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها، وتقديم الخبير لتقدم متعلقه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادىء الأعمال الظاهرة تقدمًا وجوديًا، وقيل تقدما رتبيًا لأن العبرة بما في القلب كما يدل عليه: «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم» و«إنما الأعمال بالنيات» و«نية المؤمن خير من عمله» إلى غير ذلك أو لعمومه من حيث يتعلق بغير المبصرات أيضًا، والجار والمجرور متعلق بخبيرًا بصيرًا على سبيل التنازع.
وقال الحوفي: متعلق بكفى وهو وهم، وفي تذييل ما تقدم بما ذكر إشارة على ما قيل إلى أن البعث والأمر وما يتلوهما هن قسقهم ليس لتحصيل العلم بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصل قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزام الحجة من كل وجه.
وفي الكشاف أنه سبحانه نبه بقوله تعالى: {وكفى بِرَبّكَ} إلخ على أن الذنوب هي الأسباب المهلكة لا غير، وبيانه كما في الكشف أنه جل شأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علمًا أتم دل على أنه تعالى جازاهم بها وإلا لم ينتظم الكلام، وأما الحصر فلأن غيرها لو كان له مدخل كان الظاهر ذكره في معرض الوعيد ثم لا يكون السبب تامًا ويكون الكلام ناقصًا عن أداء المقصود فلزم الحصر وهو المطلوب ولا أرى كلامه خاليًا عن دسيسة اعتزال تظهر بالتأمل ولعله لذلك لم يتعرض له العلامة البيضاوي. اهـ.

.قال القاسمي:

قوله تعالى: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ}.
قال أبو السعود: فذلكة لما تقدم من بيان كون القرآن هاديًا لأقوم الطرائق، ولزوم الأعمال لأصحابها. أي: من اهتدى بهدايته، وعمل بما فيه تضاعيفه من الأحكام، وانتهى عما نهاه عنه، فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه، لا تتخطاه إلى غيره ممن لا يهتدي: {وَمَن ضَلَّ} أي: عن الطريقة التي يهديه إليها: {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: وبال ضلاله عليها، لا على من عداه ممن لم يباشره. فقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} مؤكد لما قبله للاهتمام به.

.قال أبو السعود:

أي: لا تحمل نفسه حاملة للوزر، وزر نفس أخرى، حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها. ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم. بل إنما تحمل كل منهما وزرها. وهذا تحقيق لمعنى قوله عز وجل: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} وأما ما يدل عليه قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85]، وقوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] من حمل الغير وزر الغير، وانتفاعه بحسنته، وتضرره بسيئته، فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه، وتضرر بسيئته. فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له. وإنما الذي يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته، لا جزاء أصل الحسنة والسيئة، وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين. وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال.
وإنما خصَّ التأكيد بالجملة الثانية قطعًا للأطماع الفارغة. حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق، فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم. انتهى.
وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} بيان للعناية الربانية، إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها، وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته، وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها. أي: وما صح وما استقام منا، بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة، أن نعذب قومًا حتى نبعث إليهم رسولًا يهديهم إلى الحق، ويردعهم عن الضلال؛ لإقامة الحجة وقطعًا للعذر. والعذاب أعم من الدنيوي والأخروي، لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134] وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8- 9]، وكذا قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]، وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى لا يعذب قومًا عذاب استئصال، ولا يدخل أحدًا النار إلا بعد إرسال الرسل. قال قتادة: إن الله تعالى لا يعذب أحدًا حتى يتقدم إليه بخبر أو بينة. ولا يعذب أحدًا إلا بذنبه.
وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} بيان لوقوع التعذيب بعد الرسالة. وأنه إنما كان للتمرد على الرسل والتنكب عن منهجهم. وقد تدل الآية على أن التعذيب المتقدم مراد به الهلاك الدنيوي لانحصارها فيه. والمعنى: إذا أردنا أن نعذب قومًا عذاب استئصال: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} يعني متنعميها، بالطاعة على لسان الرسول المبعوث إليهم: {فَفَسَقُواْ فِيهَا} بمخالفة أمره تعالى والخروج عن طاعته: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} فوجب عليها، بمعصيتهم وفسقهم وطغيانهم، وعيد الله الذي أوعد من كفر به وخالف رسله، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج: {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} أي: فخربناها تخريبًا لا يكتنه كنهه ولا يوصف. وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكًا هائلًا، كما جرى لبيت المقدس، لما انحرف اليهود عن شرعتهم، على ما قدمنا بيانه. وإنما خص المترفين، وهم الجبارون والملوك والرؤساء بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل؛ لأنهم الأصل في الخطاب والباقي تبع لهم. ولأن توجه الأمر إليهم آكد. وإنما حذف مفعول: {أَمَرْنَا} لظهور أن المراد به الحق والخير. لا سيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدي إليه. وفي إيثار {القرية} على أهلها زيادة تهويل وتفظيع، إشارة إلى التنكيل بهم بهدم صروحهم ودورهم، وطمس أثرهم، وهو أوجع للقلب وأنكى للعدو. ولذلك أتى إثره بالمصدر المؤكد فقال: {تَدْمِيرًا} أي: كليًا بحيث لم يبق لهم زرع أو ضرع.
قال القاشانِيِّ: إن لكل شيء في الدنيا زوالًا. وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك. وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال، وحصول انحراف يبعده عن بقائه وثباته؛ فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها من الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام. فإذا جاء وقت إهلاك قرية، فلابد من استحقاقها للإهلاك. وذلك بالفسق والخروج عن طاعة الله. فلما تعلقت إرادته بإهلاكها، تقدمه أولًا بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والتنعم بطرًا وأشرًا بنعمة الله، واستعمالًا لها فيما لا ينبغي. وذلك بأمر من الله وقدر منه، لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم. وحينئذ وجب إهلاكهم.
وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ} أي: وكثيرًا ما أهلكنا من الأمم الكافرة من بعد زمن نوح، كعاد وثمود وفرعون. ممن قُصَّتْ أنباؤهم في القرآن العظيم ومن لم تقص. و: {الْقُرُونِ} جمع قرن يطلق على الزمن المعين وعلى أهله المقترنين فيه، وعلى كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد. وخص: {نُوحِ} ولم يقل: من بعد آدم لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب. ففيه تهديد وإنذار للمشركين. {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي: لا يخفى عليه شيء منها، فيدرك سرها وعلنها وسيجازي عليها.
والآية تدل- كما قال الزمخشري-: على أن الذنوب هي أسباب الهلكة، وذلك لأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتَمَّ، دل على أنه جازاهم بها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}
هذه الجملة بيان أو بدل اشتمال من جملة {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} مع توابعها.
وفيه تبيين اختلاف الطائر بين نافع وضار، فطائر الهداية نفع لصاحبه وطائر الضلال ضر لصاحبه.
ولكون الجملة كذلك فصلت ولم تعطف على التي قبلها.
وجملة {ولا تزر وازرة وزر أخرى} واقعة موقع التعليل لمضمون جملة {ومن ضل فإنما يضل عليها} لما في هذه من عموم الحكم فإن عَمل أحد لا يُلحق نفعُه ولا ضَره بغيره.
ولما كان مضمون هذه الجملة معنى مهما اعتبر إفادة أنفًا للسامع، فلذلك عطفت الجملة ولم تُفصل.
وقد روعي فيها إبطال أوهام قوم يظنون أن أوزارهم يحملها عنهم غيرهم.
وقد روي أن الوليد بن المغيرة وهو من أئمة الكفر كان يقول لقريش: اكفروا بمحمد وعلي أوزاركم، أي تبعاتكم ومؤاخذتكم بتكذيبه إن كان فيه تبعة.
ولعله قال ذلك لما رأى ترددهم في أمر الإسلام وميلهم إلى النظر في أدلة القرآن خشية الجزاء يوم البعث، فأراد التمويه عليهم بأنه يتحمل ذنوبهم إن تبين أن محمدًا على حق، وكان ذلك قد يروج على دهمائهم لأنهم اعتادوا بالحملات والكفالات والرهائن، فبين الله للناس إبطال ذلك إنقاذًا لهم من الاغترار به الذي يهوي بهم إلى المهالك مع ما في هذا البيان من تعليم أصل عظيم في الدين وهو {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.
فكانت هذه الآية أصلًا عظيمًا في الشّريعة، وتفرع عنها أحكام كثيرة.
ولمّا روى ابن عمر عن النّبيء صلى الله عليه وسلم: «أنّ الميت ليعذّب ببكاء أهله عليْه» قالت عائشة رضي الله عنها: يرحم الله أبا عبد الرحمان، ما قال رسول الله ذلك والله يقول: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.
ولما مُرّ برسول الله جنازةُ يهودية يبكي عليها أهلها فقال: «إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب».
والمعنى أن وزر أحد لا يحمله غيره فإذا كان قد تسبب بوزره في إيقاع غيره في الوِزر حُمل عليْه وزر بوزر غيره لأنه متسبب فيه، وليس ذلك بحمل وزر الغير عليه ولكنه حمل وزر نفسه عليها وهو وزر التسبب في الأوزار.