فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبهذا التحقيق تعلم: أن ما زعمه الزمخشري في كشافه من أن معنى {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي أمرناهم بالفسق ففسقوا. وأن هذا مجاز تنزيلًا لإسباغ النعم عليهم الموجب لبطرهم وكفرهم منزلة الأمر بذلك- كلام كله ظاهر السقوط والبطلان. وقد اوضح إبطاله أبو حيان في البحر، والرازي في تفسيره، مع أنه لا يشك منف عارف في بطلانه.
وهذا القول الصحيح في الآية جار على الأسلوب العربي المالوف، من قولهم: أمرته فعصاني. أي أمرته بالطاعة فعصى. وليس المعنى: امرته بالعصيات كما لا يخفى.
القول الثاني في الآية: هو أن الأمر في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} امر كوني قدري، أي قدرنا عليهم ذلك وسخرناهم له. لأن كلًا ميسر لما خلق له. والأمر الكوني القدري كقوله: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} [القمر: 50]، وقوله: {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166]، وقوله: {أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} [يونس: 24]، وقوله: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
القول الثالث في الآية- أن {أمَرْنَا} بمعنى أكثرنا. أي أكثرنا مترفيها ففسقوا، وقال أبو عبيدة {أمرنا} بمعنى أكثرنا لغة فصيحة كآمرنا بالمد.
ويدل لذلك الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن سويد بن هبيرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير مال امرىء مهوة مأمورة، أو سكة مأبورة».
قال ابن كثير: قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الغريب: المأمورة: كثيرة النسل. والسكة: الطريقة المصطفة من النخل. والمأبورة: من التابير، وهو تعليق طلع الذكر على النخلة لئلا يسقط ثمرها. ومعلوم إن إتيان المأمورة على وزن المعفول يدل على أن أمر بفتح الميم مجردا عن الزوائد، متعد بنفسه إلى المفعول. فيتضح كون أمره بمعنى أكثر. وأنكر غير واحد تعدى أمر الثلاثي بمعنى الإكثار إلى المفعول وقالوا: حديث سويد بن هيبرة المذكور من قبيل الأزدواج، كقولهم: الغدايا والعشايا، وكحديث: «ارجعن مأزورا غير مأجورات» أن الغدايا لا يجوز، وإنما ساغ للازدواج مع العشايا، وكذلك مازورات بالهمز فهو على غير الأصل. لأن المادة من الوزر بالواو. غلا أن الهمز في قوله: «مأزورات» للازدواج مع «مأجورات».
والازدواج يجوز فيه ما لا يجوز في غيره كما هو معلوم. وعليه فقوله: «مأمورة» إتباع لقوله: «مأبورة» وإن كان مذكورًا قبله للمناسبة بين اللفظين.
قال الشيخ أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تعالى: {أمرنا} قرأ أو عثمان النهدي، وأبو رجاء، وأبو العالية، والربيع، ومجاهد، والحسن: {أمرنا} بالتشديد. وهي قراءة علي رضي الله عنه. أي سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم.
وقال أبو عثمان النهدي {أمَّرنا} بتشديد الميم: جعلناهم أمراء مسلطين.
وقاله ابن عزيز: وتأمر عليهم تسلط عليهم. وقرأ الحسن أيضًا، وقتادة، ووأبو حيوة الشامي، ويعقوب وخارجة عن نافع، وحماد بن سلمة عن أبن كثير وعلي وابن عباس باختلاف عنهما {آمرنا} بالمد والتخفي. أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها. قاله الكسائي.
وقال أبو عبيدة: {آمرته} بالماد و{أمرته} لغتان بمعنى أكثرته. ومنه الحديث: «خير المَال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة» أي كثيرة النتاج والنسل. وكذلك قال ابن عزيز: أمرنا وأمرنا بمعنى واحد. أي أكثرنا.
وعن الحسن ايضًا، ويحيى بن يعمر: امرنا- بالقصر وكسر الميم- على فعلنا، ورويت عن ابن عباس. قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا، وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد. وأنكره الكسائي وقال: لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد، وأصلها أأمرنا فخفف- حكاه المهدوي.
وفي الصحاح: قال أبو الحسن: أمر ماله- بالكسر- أي كثر. وأمر القوم: أي أكثروا. قال الشاعر وهو الأعشى:
طرفون ولادون كل مبارك ** أمرون لا يرثون شهو القعدد

وآمر الله ماله- بالمد. الثعلبي: ويقال للشيء الكثير أمر. والفعل منه أمر القوم يأمرون أمرًا: إذا كثروا.
قال بان مسعود: كنا نقول في الجاهلية لحي إذا كثروا: أمر أمر بني فلان: قال لبيد:
كل بني حرة مصيرهم ** قل وإن أكثرت من العدد

إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ** يومًا يصيروا للهكل والنكد

قلت: وفي حديث هرقل الحديث الصحيح. لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر. أي كثر. وكهلا غير متعد، ولذلك أنكره الكسائي. والله أعلم.
قال المهدوي: ومن قرأ أمر فهي لغة. ووجه تعدية أمر أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة. فعدى كما عدى عمر- إلى أن قال: وقيل أمرناهم جعلناهم أمراء. لأن العرب تقول: أمير غير مأمور، أي غير مؤمر. وقيل معناه: بعثنا مستكبريها. قال هارون: وهي قراءة أبي: {بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا فيها} ذكره الماوردي.
وحكى النحاس: وقال هارون في قراءة أبي: {وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول}. اهـ محل الغرض من كلام القرطبي.
وقد علمت أن التحقيق الذي دل عليه القرآن أن معنى الآية: أمرنا مترفيها بالطاعة فعصوا أمرنا. فوجب عليهم الوعيد فأهلكناهم كما تقدم إيضاحه.
تنبيه:
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: إن الله اسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيره في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} [الإسراء: 16] مع لأأنه ذكر عموم الهلاك للجميع المترفين وغيرهم في قوله: {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] يعني القرية، ولم يستثن منها غير المترفين؟
والجواب م وجهين:
الأول: أن غير المترفين تبع لهم. وإنما خص بالذكر المترفين الذين هلم سادتهم وكبراؤهم. لأن غيرهم تبع لهم. كما قال تعالى: {وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67]، وكقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [البقرة: 166] الآية، وقوله: {حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا} [الأعراف: 38] الآية، وقوله تعالى: {وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْء} [إبراهيم: 21]. الآية، وقوله: {وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النار فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النار} [غافر: 47] إلى غير ذلك من الآيات.
الوجه الثاني:
- أن بعضهم إن عصى الله وبغى وطغى ولم ينههم الآخرون فإن الهلاك يعم الجميع. كماقال تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25]، وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: أنها لما سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍّ قد اقتربْ، فتح اليوم من ردم ياجوج ومأجود مثل، هذه» وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها قالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث» وقد قدمنا هذا المبحث موضحًا في سورة المائدة.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أهلك كثيرًا من القرون من بعد نوح. لأن لفظة {كم} في قوله: {وكم أهلكنا} خبرية، معناها الإخبار بعدد كثير. وأنه جل وعلا خبير بصير بذنوب عباده. وأكد ذلك بقوله: {وكفى بِرَبِّكَ} الآية.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة أوضحته آيات آخر من أربع جهات:
الأولى: أن في الآية تهديدًا لكفار مكة، وتخويفًا لهم من أن ينزل بهم ما نزل بغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها. أي أهلكنا قرونًا من بعد نوح بسبب تكذيبهم الرسل، فلا تكذبوا رسولنا لئلا نفعل بكم مثل ما فعلنا بهم.
والآيات التي أوضحت هذا المعنى كثيرة. كقوله في قوم لوط {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137-138]، وكقوله فيهم أيضًا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} [الحجر: 75-76]، وقوله فيهم ايضًا: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 35]، وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، وقوله بعد ذكره جل وعلا إهلاكه لقوم نوحنوقم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب في سورة الشعراء: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 8]، وقوله في قوم موسى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى} [النازعات: 26]، وقوله: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} [هود: 103] الآية، وقوله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ} [الدخان: 37] الآية، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على تخويفهم بما وقع لمن قبلهم.
الجهة الثانية- ان هذه القرون تعرضت لبيانها آيات أخر. فبينت كيفية إهلاك قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه من قوم موسى، وذلك مذكور في مواضع متعددة معلومة من كتاب الله تعالى. وبين أن تلك القرون كثيرة في قوله: {وَعَادًا وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38] وبين في موضع آخر: ان منها ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وذلك في قوله في سورة إبراهيم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} [إبراهيم: 9] الآية. وبين في موضعين آخرين ان رسلهم منهم من قص خبره على نبينا صلى الله عليه وسلم، ومنهم من لم يقصصه عليه. وهما قوله في سورة النساء: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وقوله في سورة المؤمن: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [غافر: 78].
الجهة الثالثة- ان قوله: {مِن بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء: 17] يدل على أن القرون التي كانت بين آدم ونو أنها على الإسلام.
كما قال ابن عباس: كانت بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام- نقله عنه ابن كثير في تفسير هذه الآية.
وهذا المعنى تدل عليه آيات أخر. كقوله: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة: 213] الاية، وقوله. {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا} [يونس: 19] الآية. لأن معنى ذلك على أصح الأقوال أنهم كانوا على طريق الإسلام، حتى وقع ما وقع من قوم نوح من الكفر. فبعث الله النَّبيين ينهون عن ذلك الكفر، مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار. وأولهم في ذلك نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ويدل على هذا قوله: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ} [النساء: 163] الآية. وفي أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح وغيرها أنهم يقولون لنوح: إنه أول رسلو بعثه الله لأهل الأرض كما قدمنا ذلك في سورة البقرة.
الجهة الرابعة- أن قوله: {وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا} [الإسراء: 17] فيه أعظم زجر عن ارتكاب ما لا يرضي الله تعالى.
والآيات الموضحة لذلك كثيرة جدًا. كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] وقوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [هود: 5]، وقوله: {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فاحذروه} [البقرة: 235] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا هذا المبحث موضحًا في أول سورة هود. ولفظة {كم} في هذه الآية الكريمة في محل نصب مفعول به {لإهلكنا} و{من} في قوله: {من القرون} بيان لقوله: {كم} وتمييز له كما يميز العدد بالجنس. وأما لفظة «من» في قوله: {مِن بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء: 17] فالظاهر أنها للبتداء الغاية، وهو الذي اختاره أبو حيان في البحر. وزعم الحوفي أن {من} الثانية بدل من الأولى، ورده عليه أبو حيان. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

قوله تعالى: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ..} [الإسراء: 15]
لأن الحق سبحانه لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، وهو سبحانه الغنيّ عن عباده، وبصفات كماله وضع منهج الهداية للإنسان الذي جعله خليفة له في أرضه، وقبل أنْ يخلقه أعدَّ له مُقوّمات الحياة كلها من أرض وسماء، وشمس وقمر، وهواء وجبال ومياه.
فصفات الكمال ثابتة له سبحانه قبل أن يخلق الخَلْق، إذن: فطاعتهم لن تزيده سبحانه شيئًا، كما أن معصيتهم لن تضره سبحانه في شيء.
وهنا قد يسأل سائل: فلماذا التكليفات إذن؟
نقول: إن التكليف من الله لعباده من أجلهم وفي صالحهم، لكي تستمر حركة حياتهم، وتتساند ولا تتعاند؛ لذلك جعل لنا الخالق سبحانه منهجًا نسير عليه، وهو منهج واجب التنفيذ لأنه من الله، من الخالق الذي يعلم من خلق، ويعلم ما يصلحهم ويُنظم حياتهم، فلو كان منهج بشر لبشر لكان لك أنْ تتأبّى عليه، أما منهج الله فلا ينبغي الخروج عليه.
لذلك نسمع في الأمثال الدارجة عند أهل الريف يقولون: الأصبع الذي يقطعه الشرع لا ينزف، والمعنى أن الشرع هو الذي أمر بذلك، فلا اعتراض عليه، ولو كان هذا بأمر البشر لقامت الدنيا ولم تقعُدْ.