فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{كَلاَّ} التنوين عوضٌ عن المضاف إليه أي كلَّ واحد من الفريقين لا الفريقِ الأخير المريد للخير الحقيقِ بالإسعاف فقط {نُّمِدُّ} أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنِفُ مددًا للسالف، وما به الإمدادُ ما عُجّل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلةِ المشارِ إليها بمشكورية السعي، وإنما لم يصرحْ به تعويلًا على ما سبق تصريحًا وتلويحًا واتكالًا على ما لحِق عبارةً وإشارة كما ستقف عليه، وقوله تعالى: {هَؤُلاء} بدل من كلًا {وَهَؤُلاء} عطف عليه أي نُمد هؤلاء المعجَّلَ لهم وهؤلاءِ المشكورَ سعيُهم، فإن الإشارةَ متعرّضةٌ لذات المشارِ إليه بما له من العنوان لا للذات فقط كالإضمار، ففيه تذكيرٌ لما به الإمدادُ وتعيينٌ للمضاف إليه المحذوفِ دفعًا لتوهّم كونِه أفرادَ الفريقِ الأخير، وتأكيدٌ للقصر المستفادِ من تقديم المفعول وقوله تعالى: {مِنْ عَطَاء رَبّكَ} أي من العطاء الواسعِ الذي لا تناهيَ له متعلقٌ بنُمد، ومغْنٍ عن ذكر ما به الإمدادُ ومنبِّهٌ على أن الإمدادَ المذكورَ ليس بطريق الاستيجابِ بالسعي والعمل بل بمحض التفضل {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ} أي دنيويًا كان أو أخرويًا، وإنما أُظهر إظهارًا لمزيد الاعتناءِ بشأنه وإشعارًا بعلّيته للحكم {مَحْظُورًا} ممنوعًا ممن يريده بل هو فائضٌ على مَن قُدّر له بموجب المشيئةِ المبنيةِ على الحكمة وإن وُجد منه ما يقتضي الحظرَ كالكافر وهو في معنى التعليل لشمول الأمدادِ للفريقين، والتعرضُ لعنوان الربوبية في الموضعين للإشعار بمبدئيتها لما ذُكر من الإمداد وعدم الحظر.
{انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}
كيف في محل النصبِ بفضّلنا على الحالية والمرادُ توضيحُ ما مر من الإمداد وعدمِ محظوريةِ العطاء بالتنبيه على استحضار مراتبِ أحد العطاءين والاستدلالِ بها على مراتب الآخر، أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضَهم على بعض فيما أمددناهم به من العطايا العاجلة، فمِنْ وضيع ورفيع وضَالعٍ وضليع ومالكٍ ومملوكٍ ومُوسرٍ وصُعلوكٍ تعرِفْ بذلك مراتبَ العطايا الآجلةِ ودرجاتِ تفاضل أهلِها على طريقة الاستشهاد بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى: {وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ} أي هي وما فيها أكبرُ من الدنيا، وقرئ أكثرُ {درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} لأن التفاوتَ فيها بالجنة ودرجاتِها العالية التي لا يقادر قدرُها ولا يُكتنه كُنهُها، كيف لا وقد عُبّر عنه بما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطَر على قلب بشر. هذا ويجوز أن يراد بما به الإمدادُ العطايا العاجلةُ فقط ويُحمل القصرُ المذكورُ على دفع توهم اختصاصِها بالفريق الأول، فإن تخصيصَ إرادتهم لها ووصولَهم إليها بالذكر من غير تعرض لبيان النسبةِ بينها وبين الفريق الثاني إرادةً ووصولًا مما يُوهم اختصاصَها بالأولين، فالمعنى كلُّ واحد من الفريقين نُمِد بالعطايا العاجلة لا مَنْ ذكرنا إرادتَه لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسعِ وما كان عطاؤُه الدنيويُّ محظورًا من أحد ممن يريده وممن يريد غيره، انظر كيف فضلنا في ذلك العطاءِ بعضَ كلَ من الفريقين على بعض آخرَ منهما وللآخِرةُ.. الآية. واعتبارُ عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأولِ تحقيقًا لشمول الإمدادِ له كما فعله الجمهور حيث قالوا: لا يمنعه مِن عاصٍ لعصيانه يقتضي كونَ القصر لدفع توهم اختصاصِ الإمداد الدنيويِّ بالفريق الثاني مع أنه لم يسبِقْ في الكلام ما يوهم ثبوتَه له فضلًا عن إيهام اختصاصِه.
{لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها} الخطابُ للرسول عليه الصلاة والسلام والمرادُ به أمتُه وهو من باب التهييجِ والإلهاب، أو كلِّ أحد ممن يصلح للخطاب {ءاخَرَ فَتَقْعُدَ} بالنصب جوابًا للنهي، والقعودُ بمعنى الصيرورة من قولهم: شحذ الشفرةَ حتى قعَدتْ كأنها خَرِبة، أو بمعنى العجز، مِن قعد عنه أي عجز عنه {مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} خبران أو حالان أي جامعًا على نفسك الذمَّ من الملائكة والمؤمنين والخِذلانَ من الله تعالى، وفيه إشعارٌ بأن الموحِّدَ جامعٌ بين المدح والنُّصرة. اهـ.

.قال الألوسي:

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ} أي بعلمه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك: {العاجلة} فقط من غير أن يريد معها الآخرة كما ينبيء عنه الاستمرار المستفاد من زيادة {كان} هنا مع الاقتصار على مطلق الإرادة في قسيمه وقيل لو لم يقيد صدق على مريد العاجلة والآخرة والقسمة تنافي الشركة ودلالة الإرادة على ذلك لأنها عقد القلب بالشيء وخلوص همه فيه ليس بذاك والمراد بالعاجلة الدار الدنيا كما روى الضحاك أيضا وبإرادتها إرادة ما فيها من فنون مطالبها كقوله تعالى: {من كان يريد حرث الدنيا} وجوز أن يراد الحياة العاجلة كقوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها} ورجح الأول بأنه أنسب بقوله تعالى: {عجلنا له فيها} أي في تلك العاجلة فإن تلك الحياة واستمرارها من جملة ما عجل فالأنسب في ذلك كلمة من كما في قوله عز وجل: {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها} {ما نشاء} أي ما نشاء تعجيله له من نعيمها لا كل ما يريد {لمن نريد} تعجيل ما نشاء له وقال أبو إسحاق الفزاري أي لمن نريد هلكته ولا يدل عليه لفظ في الآية والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور السابق أعني له فلا يحتاج إلى رابط لأنه في بدل المفردات أو المجرور بدل من الضمير المجرور بإعادة العامل وتقديره لمن نريد تعجيله له منهم والضمير راجع إلى من وهي موصولة أو شرطية وعلى التقديرين هي منبئة عن الكثرة فهو بدل بعض من كل وعن نافع أنه قرأ: {ما يشاء} بالياء فقيل الضمير فيه لله تعالى فيتطابق القراءتان وقيل هو لمن فيكون مخصوصا بمن أراد الله تعالى به ذلك كشمروذ وفرعون ممن ساعده الله تعالى على ما أراده استدراجا له واستظهر هذا بأنه يلزم أن يكون على الأول التفات ووقوع الالتفات في جملة واحدة إن لم يكن ممنوعا فغير مستحسن كما فصله في عروس الأفراح وتقييد المعجل ولمعجل له بما ذكر من المشيئة والارادة لما أن الحكمة التي يدور عليها فلك التكوين ولا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه ولا استيفاء كل واصل لما يطلبه بتمامه وليس المراد بأعمالهم في قوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} أعمال كلهم ولا كل أعمالهم وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر وذكر المشيئه في أحدهما والارادة في الآخر إن قيل بترادفهما تفنن {ثم جعلنا له} مكان ما عجلنا له {جهنم يصليها} يقاسي حرها كما قال الخليل أو يدخلها كما قيل والجملة كما قال أبو البقاء حال من الهاء في {له} وقال أبو حيان إنها حال من {جهنم} وهي مفعول أول لجعلناه و{له} الثاني.
وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وقال صاحب الغينان مفعول جعلنا الثاني محذوف والتقدير مصيرا أو جزاء ولا حاجة إلى ذلك {مذموما} حال من فاعل يصلى وهو من الذم ضد المدح وفعله ذم وذمته ذيما ودأمته دأما بمعناه {مدحورا} أي مطرودا مبعدا من رحمة الله تعالى قال الإمام إن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن المنفعة فقوله تعالى: {جعلنا له جهنم يصلاها} إشارة إلى البعد والطرد من رحمته تعالى فيفيد ذلك أن تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص. اهـ.
ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الآية تدل على الخلود وحينئذ يتعين عندنا أن يكون ذلك المريد من الكفرة وفي إرشاد العقل السليم من كان يريد أي بأعماله التي يعملها سواء كان ترتب المراد عليها بطريق الجزاء كأعمال البر أو بطريق ترتب المعلولات على العلل كالأسباب أو بأعمال الآخرة فالمراد بالمريد على الأول الكفرة وأكثر الفسقة وعلى الثاني أهل الرياء والنفاق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة وأنت تعلم أن إدراج الفاسق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة إذا كان مؤمنا في التمثيل على القول بدلالة الآية على الخلود مما لا يستقيم على أصولنا نعم يصح على أصول المعتزلة وقد أدرج الزمخشري الفاسق في ذلك ودسائس الاعتزال منه عامله الله تعالى بعدله أكثر من أن تحصى وظاهر كلام أبي حيان اختيار كون المريد من الكفرة حيث قال العاجلة هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة ولابد من تقدير محذوف دل عليه المقابل في قوله تعالى: {ومن أراد الآخرة} إلخ أي من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وقيل المراد من كان يريد العاجلة بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمجاهد للغنيمة والذكر والمهاجر للدنيا إلى آخر ما قال فحكى غير القول الأول والذي يكون يتعين عليه كون المريد من الكفرة بعد أن قدمه بقيل ويؤيده تفسير كثير من كان يريد العاجلة بمن كان همه مقصورا عليها لا يريد غيرها أصلا فإن ذلك مما لا يكاد يصدق على مؤمن فاسق فإنه لو لم يكن له إرادة للآخرة ما آمن بها وعلى القول بدخول الفاسق ونحوه ممن لا يحكم له عندنا بالخلود يمنع القول بدلالة الآية على الخلود ويقال لمن أدخل النار مبعد من رحمة الله تعالى ما دام فيها فيصدق على الفاسق مادام فيها كما يصدق على الكافر المخلد وزعم بعضهم أن المريد هو المنافق الذي يغزو مع المسلمين للغنيمة لا للثواب فإن الآية نزلت فيه وفيه أنه يأبى ذلك ما سبق من أن السورة مكية غير آيات معينة ليست هذه منها على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فافهم {وَمَنْ أَرَادَ} الظاهر على طبق ما مر عن الضحاك أن يراد بعمله أيضًا {الآخرة} أي الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم {وسعى لَهَا سَعْيَهَا} أي الذي يحق ويليق بها كما تنبىء عنه الإضافة الاختصاصية سواء كان السعي مفعولًا به على أن المعنى عمل عملها أو مصدرًا مفعولًا مطلقًا ويتحقق ذلك بالإتيان بما أمر الله تعالى والانتهاء عما نهى سبحانه عنه فيخرج من يتعبد من الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها وفائدة اللام سواء كانت للأجل أو للاختصاص اعتبار النية والإخلاص لله تعالى في العمل، واختار بعضهم ولا يخلو عن حسن أنه لا حاجة إلى ما اعتبره الضحاك بل الأولى عدم اعتباره لمكان {وسعى لَهَا سَعْيَهَا} وحينئذٍ لا يعتبر فيما سبق أيضًا ويكون في الآية على هذا من تحقير أمر الدنيا وتعظيم شأن الآخرة ما لا يخفى على من تأمل.
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إيمانًا صحيحًا لا يخالطه قادح، وإيراد الإيمان بالجملة الحالية للدلالة على اشتراط مقارنته لما ذكر في حيز {مِنْ} فلا تنفع إرادة ولا سعى بدونه وفي الحقيقة هو الناشىء عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب، وعن بعض المتقدمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب وتلا هذه الآية {فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى {مِنْ} بعنوان اتصافه بما تقدم، وما في ذلك من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم، والجمعية لمراعاة جانب المعنى إيماءً إلى أن الإثابة المفهومة من الخبر تقع على وجه الاجتماع أي فأولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدة أعني إرادة الآخرة والسعي الجميل لها والإيمان {كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} مثابًا عليه مقبولًا عنده تعالى بحسن القبول، وفسر بعضهم السعي ههنا بالعمل الذي يعبر عنه بفعل فيشمل جميع ما تقدم وهذا غير السعي السابق، وقال بعضهم: هو هو؛ وعلق المشكورية به دون قرينيه إشعارًا بأنه العمدة فيها، وأصل السعي كما قال الراغب المشي السريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيرًا كان أو شرًا وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة قال الشاعر:
إن أجز علقمة بن سعد سعيه ** لا أجزه ببلاء يوم واحد

{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)}.
{كَلاَّ} التنوين فيه على المشهور عند النحاة عوض عن المضاف إليه لا تنوين تمكين أي كل الفريقين وهو مفعول {نُّمِدُّ} مقدم عليه أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنف مددًا للسالف وما به الإمداد ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها بمشكورية السعي وإنما لم يصرح به تعويلًا على ما سبق تصريحًا وتلويحًا واتكالًا على ما لحق عبارة وإشارة، وقوله تعالى: {هَؤُلاء وَهَؤُلاء} بدل من {كَلاَّ} بدل كل على جهة التفصيل أي نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم فإن الإشارة متعرضة لذات المشار إليه بما له من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ففيه تذكير لما به الإمداد وتعيين للمضاف إليه المحذوف دفعًا لتوهم كونه أفراد الفريق الأخير المريد للخير الحقيق بالإسعاف فقط وتأكيد للقصر المستفاد من تقديم المفعول، وقوله تعالى: {مِنْ عَطَاء رَبّكَ} أي من معطاه الواسع الذي لا تناهي له فهو اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول متعلق بنمد مغن عن ذكر ما به الإمداد ومنبه على أن الإمداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعي والعمل به بمحض التفضل كما قيل: {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ} أي دنيويًا كان أو أخرويًا.
والإظهار في موضع الإضمار لمزيد الاعتناء بشأنه والإشعار بعليته للحكم {مَحْظُورًا} ممنوعًا عمن يريده بل هو فائض على من قدر له بموجب المشيئة المبنية على الحكمة وإن وجد فيه ما يقتضي الحظر كالكفر، وهذا في معنى التعليل لشمول الإمداد للفريقين، والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بمبدئيتها لكل من الإمداد وعدم الحظر.
{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}
كيف في محل النصب بفضلنا على الحال وليست مضافة للجملة كما توهم، والجملة بتمامها في محل نصب بانظر وهو معلق هنا، والمراد كما قال شيخ الإسلام توضيح ما مر من الإمداد وعدم محظورية العطاء بالتنبيه على استحضار مراتب أحد العطاءين والاستدلال بها على مراتب الآخر أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضهم على بعض فيما أمددناهم من العطايا العاجلة فمن وضيع ورفيع وظالع وضليع ومالك ومملوك وموسر وصعلوك تعرف بذلك مراتب العطايا الآجلة وتفاوت أهلها على طريقة الاستدلال بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى: {وَلَلاْخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} أي أكبر من درجات الدنيا وتفضيلها لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها العالية لا يقادر قدرها ولا يكتنه كنهها.
وفي بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله تعالى الجميع فما يغبط أحد أحدا» وعن الضحاك الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه والأسفل لا يرى أن فوقه أحدًا، وصح أن الله تعالى أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وروى ابن عبد البر في الاستيعاب عن الحسن قال: حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله تعالى عنه وفيهم سهيل بن عمرو وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا فقال سهيل: وكان أعقلهم أيها القوم أني والله قد أرى الذي في وجوهكم فإن كنتم غضابًا فاغضبوا على أنفسكم دعى القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتًا من باب هذا الذي تنافسون عليه.