فصل: نَسْخ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَذِكْرُ وُجُوهِ النَّسْخِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.نَسْخ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَذِكْرُ وُجُوهِ النَّسْخِ:

قال الجصاص:
بَابُ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَذِكْرُ وُجُوهِ النَّسْخِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} قَالَ قَائِلُونَ: النَّسْخُ هُوَ الْإِزَالَةُ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْإِبْدَالُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أَيْ يُزِيلُهُ وَيُبْطِلُهُ وَيُبَدِّلُ مَكَانَهُ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ.
وَقِيلَ: هُوَ النَّقْلُ، مِنْ قَوْلِهِ: {إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي مَوْضُوعِهِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَمَهْمَا كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ فِي إطْلَاقِ الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ، وَالنَّسْخُ قَدْ يَكُونُ فِي التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَيَكُونُ فِي الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ التِّلَاوَةِ دُونَ غَيْرِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي شَرِيعَةِ نَبِيّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ النَّسْخِ فَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ نَسْخُ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَالسَّبْتِ وَالصَّلَاةِ إلَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ؛ قَالَ: لِأَنَّ نَبِيَّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَشَرِيعَتَهُ ثَابِتَةٌ بَاقِيَةٌ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.
وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ ذَا حَظٍّ مِنْ الْبَلَاغَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ، غَيْرَ مَحْظُوظٍ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَكَانَ سَلِيمَ الِاعْتِقَادِ غَيْرَ مَظْنُونٍ بِهِ غَيْرَ ظَاهِرٍ أَمْرُهُ؛ وَلَكِنَّهُ بَعُدَ مِنْ التَّوْفِيقِ بِإِظْهَارِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ؛ إذْ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهَا أَحَدٌ، بَلْ قَدْ عَقَلَتْ الْأُمَّةُ سَلَفَهَا وَخَلَفَهَا مِنْ دِينِ اللَّهِ وَشَرِيعَتِهِ نَسْخَ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِهِ وَنُقِلَ ذَلِكَ إلَيْنَا نَقْلًا لَا يَرْتَابُونَ بِهِ وَلَا يُجِيزُونَ فِيهِ التَّأْوِيلَ كَمَا قَدْ عَقَلَتْ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ عَامًّا وَخَاصًّا وَمُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، فَكَانَ دَافِعُ وُجُودِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ كَدَافِعِ خَاصِّهِ وَعَامِّهِ وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ؛ إذْ كَانَ وُرُودُ الْجَمِيعِ وَنَقْلُهُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَارْتَكَبَ هَذَا الرَّجُلُ فِي الْآيِ الْمَنْسُوخَةِ وَالنَّاسِخَةِ وَفِي أَحْكَامِهَا أُمُورًا خَرَجَ بِهَا عَنْ أَقَاوِيلِ الْأُمَّةِ مَعَ تَعَسُّفِ الْمَعَانِي وَاسْتِكْرَاهِهَا وَمَا أَدْرِي مَا الَّذِي أَلْجَأَهُ إلَى ذَلِكَ.
وَأَكْثَرُ ظَنِّي فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا أَتَى بِهِ مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِنَقْلِ النَّاقِلِينَ لِذَلِكَ وَاسْتِعْمَالِ رَأْيِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُ بِمَا قَدْ قَالَ السَّلَفُ فِيهِ وَنَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ وَكَانَ مِمَّنْ رُوِيَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ» وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فِي وُجُوهِ النَّسْخِ وَمَا يَجُوزُ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ بِمَا يُغْنِي وَيَكْفِي، وَأَمَّا: {أَوْ نُنْسِهَا} قِيلَ إنَّهُ مِنْ النِّسْيَانِ، و{نَنْسَأهَا} مِنْ التَّأْخِيرِ، يُقَالُ: نَسَأَت الشَّيْءَ: أَخَّرْته، وَالنَّسِيئَةُ: الدَّيْنُ الْمُتَأَخِّرُ.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} يَعْنِي تَأْخِيرَ الشُّهُورِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ النِّسْيَانُ، فَإِنَّمَا هُوَ أَنْ يُنْسِيَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى التِّلَاوَةَ حَتَّى لَا يَقْرَءُوا ذَلِكَ، وَيَكُونُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يُؤْمَرُوا بِتَرْكِ تِلَاوَتِهِ فَيُنْسَوْهُ عَلَى الْأَيَّامِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَنْسَوْهُ دَفْعَةً وَيَرْفَعَ مِنْ أَوْهَامِهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَأَمَّا مَعْنَى قِرَاءَةِ {أَوْ نَنْسَأْهَا} فَإِنَّمَا هُوَ بِأَنْ يُؤَخِّرَهَا فَلَا يُنَزِّلُهَا وَيُنَزِّلُ بَدَلًا مِنْهَا مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْمُصْلِحَةِ أَوْ يَكُونُ أَصْلَحَ لِلْعِبَادِ مِنْهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤَخِّرَ إنْزَالَهَا إلَى وَقْتٍ يَأْتِي فَيَأْتِي بَدَلًا مِنْهَا لَوْ أَنْزَلَهَا فِي الْوَقْتِ الْمُتَقَدِّمِ فَيَقُومَ مَقَامَهَا فِي الْمُصْلِحَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: {بِخَيْرٍ مِنْهَا} لَكُمْ فِي التَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ كَالْأَمْرِ بِأَنْ لَا يُوَلَّى وَاحِدٌ مِنْ عَشْرَةٍ فِي الْقِتَالِ ثُمَّ قَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} أَوْ مِثْلِهَا كَالْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَمَا كَانَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي الْوَقْتِ فِي كَثْرَةِ الصَّلَاحِ أَوْ مِثْلِهَا.
فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ أَنَّ الْمُرَادَ خَيْرٌ لَكُمْ إمَّا فِي التَّخْفِيفِ أَوْ فِي الْمَصْلَحَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: خَيْرٌ مِنْهَا فِي التِّلَاوَةِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ إنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِنْ بَعْضٍ فِي مَعْنَى التِّلَاوَة وَالنَّظْمِ؛ إذْ جَمِيعُهُ مُعْجِزٌ كَلَامُ اللَّهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسَّنَةِ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَتْ لَا تَكُونُ خَيْرًا مِنْ الْقُرْآنِ وَهَذَا إغْفَالٌ مِنْ قَائِلِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي التِّلَاوَةِ وَالنَّظْمِ لِاسْتِوَاءِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي إعْجَازِ النَّظْمِ وَالْآخِرُ اتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ النَّظْمَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ إمَّا التَّخْفِيفُ أَوْ الْمَصْلَحَةِ.
وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَكُونُ بِالْقُرْآنِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ أَرَادَ التِّلَاوَةَ، فَدَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِهِ بِهَا وَأَيْضًا فَإِنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ إنَّمَا تَقْتَضِي نَسْخَ التِّلَاوَةِ، وَلَيْسَ لِلْحُكْمِ فِي الْآيَةِ ذِكْرٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} وَالْآيَةُ إنَّمَا هِيَ اسْمٌ لِلتِّلَاوَةِ، وَلَيْسَ فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ الْحُكْمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ تِلَاوَةِ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ مِنْ مُحْكَمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ أَوْ غَيْرِهَا.
وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، فَمَنْ أَرَادَهَا فَلْيَطْلُبْهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. اهـ.
قال صاحب الفتوحات: النسخ في اللغة الإزالة والنقل. يقال: نسخت الريح الأثر أي أزالته، ونسخت الكتاب أي نقلته.
ونسخ الآية: بيان انتهاء التعد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بهما معًا. اهـ.
وقيل: من النسيان على بابه الذي هو عدم الذكر على معنى أو ننسكها يا محمد، فلا تذكرها. اهـ.
وقال السمعاني: وقرأ أبو عمرو وابن كثير {أو ننسأها} على الفتح والهمز، وحكى أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي نعيم القاريء أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقرأت عليه بحرف أبي عمرو، فغير عليّ شيئين فقوله: {وأرنا} فقال: قل: أرنا بكسر الراء، قال أبو عبيد: وأحسبه قال: الحرف الثاني: قوله: أو ننسأها: فقال: قل: {أو ننسها}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}.
النسخُ الإزالة أي ما ينقلك من حال إلى ما هي فوقها وأعلى منها، فغُصنُ وَصْلِك أبدًا ناضر، ونجمُ عِزِّكَ أبدًا ظاهر، فلا ننسخُ من آثار العبادةِ شيئًا إلا وأبدلنا عنه أشياء من أنوار العبودية، ولا نسخنا من أنوار العبودية أشياء إلا أقمنا مكانها أشياء من أقمار العبودةِ.
فأبدًا سِرُّك في الترقي، وقدرك في الزيادة بحسن التَوَلِّي.
وقيل ما رقَّاكَ عن محل العبودية إلا سَلكَكَ بساحات الحرية، وما رَفَعَ شيئًا من صفات البشرية إلا أقامك بشاهدٍ من شواهد الألوهية. اهـ.

.قال صاحب الميزان:

قوله تعالى: {أو ننسها} قرأ بضم النون وكسر السين من الإنساء بمعنى الذهاب عن العلم والذكر وقد مر توضيحه، وهو كلام مطلق أو عام غير مختص برسول الله صلى الله عليه وسلم بل غير شامل له أصلًا لقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} [الأعلى: 7] وهي آية مكية، وآية النسخ مدنية، فلا يجوز عليه النسيان بعد قوله تعالى: {فلا تنسى} وأما اشتماله على الاستثناء بقوله: {إلا ما شاء الله} فهو على حد الاستثناء الواقع في قوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} [هود: 108] جيء بها لإثبات بقاء القدرة مع الفعل على تغيير الأمر ولو كان الاستثناء مسوقًا لبيان الوقوع في الخارج لم يكن للامتنان بقوله: {فلا تنسى} معنى، إذ كل ذي ذكر وحفظ من الإنسان وسائر الحيوان كذلك يذكر وينسى، وذكره ونسيانه كلاهما منه تعالى وبمشيئته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك قبل هذا الإقراء الامتناني الموعود بقوله: {سنقرئك} يذكر بمشيئة الله تعالى، فليس معنى الاستثناء إلا إثبات إطلاق القدرة، أي سنقرئك فلا تنسى أبدًا، والله مع ذلك قادر على إنسائك هذا. اهـ.

.قال صاحب تفسير المنار:

إن السيوطى روى في أسباب النزول أن الآية كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ليلا فينساها نهارا، فحزن لذلك فنزلت الآية. قال الأستاذ الإمام: ولا شك عندى في أن هذه الرواية مكذوبة وأن مثل هذا النسيان محال على الأنبياء عليهم السلام؛ لأنهم معصومون في التبليغ، والآيات الكريمة ناطقة بذلك كقوله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه} وقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقد قال المحدثون والأصوليون: إن من علامة وضع الحديث مخالفته للدليل القاطع عقليا كان أو نقليا كأصول الاعتقاد وهذه المسألة منها فإن هذا النسيان ينافى العصمة المجمع عليها. اهـ.

.فائدة في باب الخير:

قال ابن الجوزي:
الخير يذكر ويراد به القرآن قال تعالى: {أن ينزل عليكم من خير من ربكم} [البقرة: 105] ويراد به الأنفع قال تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [البقرة: 106].
ويراد به المال. قال تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} ويراد به ضد الشر قال تعالى: {بيدك الخير} [آل عمران: 26].
ويراد به الإصلاح قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} ويراد به الولد الصالح قال تعالى: {فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} [النساء: 19].
ويراد به العافية قال تعالى: {وإن يمسسك بخير} [الأنعام: 17].
ويكون بمعنى النافع قال تعالى: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير} [الأعراف: 188].
وبمعنى الإيمان قال تعالى: {ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم} [الأنفال: 23].
وبمعنى رخص الأسعار قال تعالى على لسان شعيب عليه السلام مخاطبًا قومه {إني أراكم بخير} [هود: 84].
وبمعنى النوافل قال تعالى: {وأوحينا إليهم فعل الخيرات} [الأنبياء: 73].
وبمعنى الأجر قال تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير} [الحج: 36].
وبمعنى الأفضل قال تعالى: {وأنت أرحم الراحمين}.
وبمعنى العفة قال تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا} [النور: 12].
وبمعنى الصلاح قال تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} [النور: 33].
وبمعنى الطعام قال تعالى: {فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} [القصص: 24].
وبمعنى الظفر قال تعالى: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا} [الأحزاب: 25].
وبمعنى الخيل قال تعالى على لسان سليمان عليه السلام {فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب} [ص: 32].
وبمعنى القوة قال تعالى: {أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم} [الدخان: 37].
وبمعنى حسن الأدب قال تعالى: {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم} [الحجرات: 5].
وبمعنى حب الدنيا قال تعالى: {وإنه لحب الخير لشديد} [العاديات: 8]. اهـ. بتصرف يسير.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا}.
تكلم ابن عطية هنا كلاما حسنا من جملته أن قال: المنسوخ عند أيمتنا هو الحكم الثابت نفسه لا ما ذهبت إليه المعتزلة من أنه مثل الحكم الثابت فيما يستقبل، وقادهم إلى ذلك مذهبهم من أن الأوامر مرادة، ثم قال: والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به لأن المخصص لا يتناوله العموم فقط.
قال ابن عرفة: قالوا: وليس معناه أنه لم يكن مرادا لئلا يلزم عليه كون الأمر غير الإرادة، وإنما معناه أنه لم يكن متعلق الحكم، ومنهم من قال: رفع الحكم إن كان قبل العمل به فهو تخصيص وإن كان بعد العمل به فهو نسخ.
قال ابن عطية: وقد ينسخ الأثقل بالأخف كنسخ قتال الواحد للعشرة.
قال ابن عرفة: والثقل والخفة باعتبار المصالح، فقد يكون متعلق هذه المصلحة أرجح من متعلق المصلحة الأخرى أو مساويا لها.
ولا شك أن وقوف الواحد للعشرة ثوابه يكون أعظم من ثواب ما هو أخف منه لكنه نادر، وليس بأكثري الوقوع فنسخ بما هو أخف منه وأقل ثوابا لكونه أكثري الوقوع، فيتعدد ثوابه ويكثر بتعدد وقوعه، والأخف بالأثقل كنسخ صوم عاشوراء بصيام رمضان.
قال: وأجمعوا على جواز نسخ القرآن بخبر الواحد.
قال أبو المعالي؛ إنه واقع في مسجد قباء لأنهم كانوا يصلون فيه العصر إلى بيت المقدس، فمر بهم بعض الصحابة، فأخبرهم أن القبلة حولت إلى مكة، فتحولوا في الصلاة.
ومنع ذلك قوم، وقالوا: إنما نسخ بالقرآن.
قال: ولا يصح نسخ النص بالقياس.
وقال ابن عرفة: لأن النص المقيس عليه إما أن يكون موافقا لذلك النص المنسوخ أو مخالفا فإن كان موافقا فلا نسخ، وإن كان مخالفا فهو النّاسخ لا القياس.
ولا ينسخ النص بالإجماع لأنه إنما يكون في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم والإجماع إنما هو بعد وفاته.
فيل لابن عرفة: قد حكى الأصوليون عن أبي مسلم أنه أنكر وقوع النسخ من أصله؟
فقال ابن عرفة: إنما ذلك في الفروع والأحكام الظنية، وأما باعتبار الملة فلا خلاف بين المسلمين في وقوعه وأنّه تنسخ ملة بملة.
وإنما الكلام فيه باعتبار الشخص الواحد هل يصح نسخ الحكم في ملته بحكم آخر أم لا قولان.
قوله تعالى؛ {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}.
الخير باعتبار المصالح الشرعية، فقد يكون متعلق الحكم يستلزم مصلحة أرجح من مصلحة أو مثلها ومعنى {نُنسِها} أي نؤخرها فتعجيل نسخها أو تأخير نزولها إنما هو لتعجيل الإتيان بما مصلحته أرجح.
وفيه تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
واحتج الفخر الرازي في المحصول بهذه الآية على جواز النسخ ووقوعه.
ورد عليه السراج في التحصيل بأنها قضية شرطية لا تدل على وقوع ولا على إمكان الوقوع كقوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} وأجاب عنه ابن الخطيب شمس الدين الجزري بأن الآية خرجت مخرج المدح، والمدح لا يكون إلا بما هو واقع بالفعل لأن الله تعالى قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
فقد أثنى على نفسه جل وعلا بذلك.
قال ابن عرفة: والتحقيق في هذا أن المدح دال على جواز النسخ وإمكانه لا وقوعه كما تقول: فلان قادر على أن يعطي ألف درهم وإن لم يعطها بالفعل، فالمدح بذلك دال على أن إعطاءه غير محال بل هو ممكن سواء وقع بالفعل أم لم يقع.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
قال ابن عطية: الهمزة للتقرير.
قال ابن عرفة: التقرير في حق المرضي عنه ليس كالتقرير في حق غيره.
قال: فإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم فالمعادل محذوف تقديره: أم علمت ذلك، وضعفه ابن عرفة وأبو حيان بأن المعادلة إنما يحتاج إليها إذا كان الاستفهام عن أمرين يكون المتكلم شاكا في أحدهما فيطلب تعيينه.
وأما إذا كان الإستفهام للتقرير فليس على هو حقيقته فلا يحتاج إلى المعادلة بوجه.
قال ابن عطية: وهو مخصوص بالقديم والمحال.
قال ابن عرفة: أما القديم فظاهر لأن القدرة لا تتعلق به، وأما المحال فلا يتناوله اللّفظ بوجه، لأنه ليس بشيء ولاسيما المحال عقلا.
ونقل بعض الطلبة عن شرح الأسماء الحسنى لابن الدهاق قولا بجواز تعلق القدرة بالمحال العقلي.
ورده ابن عرفة بقول الإرشاد: العقل علوم ضرورية لجواز الجائزات واستحالة المستحيلات قال: فيلزم سقوط هذا القسم ولا قائل به.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا في الختمة الأخرى في الآية سؤال، وهو أن النسخ تبديل آية بآية أو حكم شرعي بحكم شرعي، والحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، وخطابه كلامه القديم الأزلي، فهو راجع إلى الكلام القديم، والقدرة لا تتعلق بالقديم بوجه، وإنما تتعلق بالحادث فكيف حسن بعده أن يقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؟ وأجيب بأنه نسخ ما ثبت وتقرر في الأذهان على سبيل اعتقاد الدّوام، وقد تقرر في الأذهان دوام الحكم الشرعي الذي هو مضمون الكلام القديم، فالنّسخ عبارة عن ارتفاعه.
وردّه ابن عرفة بأنّ ذلك الذي أنكر النسخ لم ينكره من حيث كونه تبديل اعتقاد باعتقاد، وإنّما أنكره لكونه يلزم عليه البداء لأن الحكم الأول كان مرادا لله فيصير غير مراد له وهو باطل.
قال ابن عرفة: وإنّما عادتهم يجيبون عن السّؤال بأنه لما كان المتبادر للذهن أنّ الشيء لا يرتفع إلا بثبوت نقيضه، فإذا نسخ الحكم الشرعي المتضمن المصلحة إنما ينسخه حكم آخر يتضمن مفسدة فأخبر أن الله تعالى قادر على أن يصير الحكم الشرعي المتضمن للمصلحة، متضمنا لمفسدة باعتبار الأزمان فيكون الحكم في زمن متضمنا للمصلحة ثم يعود في زمن آخر متضمنا للمفسدة، فحينئذ ينسخه الله تعالى بحكم شرعي يتضمن مصلحة إما مثل الأولى أو أرجح منها.
قال ابن عرفة: وجاء الترتيب في الآية على أحسن وجه، فبين أولا جواز تعلق القدرة بكل شيء، ثم بين وقوع ذلك الجائز بقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} ثم بين بعده أن ذلك خاص لا يشاركه فيه غيره بوجه.
وقال ابن عرفة: والملك عبارة عن أهلية التصرف العام في جميع الأمور من المتملك، فمالك العبد ليس مالكا له حقيقة لأنه ليس له قتله ولا أن يضربه الضرب المبرح، فحقيقة الملك إنما هو لله تعالى. اهـ.