فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأيهما أفضل إذن؟ لذلك الحق سبحانه يدعونا إلى التفكُّر والتعقُّل: {انظُرْ} أيَّ الصفقتين الرابحة، فتاجر فيها ولا ترضى بها بديلًا.
إذن: فالآخرة أعظم واكبر، ولا وجهَ للمقارنة بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. وأذكر أننا سافرنا مرة إلى سان فرانسيسكو فأدخلونا أحد الفنادق، لا للإقامة فيه، ولكن لمشاهدة ما فيه من روعة وجمال ومظاهر الرقي والرفاهية. وفعلًا كان هذا الفندق آية من آيات الإبداع والجمال، فرأيتُ رفاقي وكانوا من علية القوم مبهورين به، مأخوذين بروعته، فقلت لهم عبارة واحدة: هذا ما أعد البشر للبشر، فكيف بما أعدّه ربُّ البشر للبشر؟ فنعيم الدنيا ومظاهر الجمال فيها يجب أنْ تثير فينا الشوق لنعيم دائم في الجنة؛ لا أنْ يثير فينا الحقد والحسد، يجب أن نأخذ من مظاهر الترف والنعيم عند الآخرين وسيلة للإيمان بالله، وأن نُصعِّد هذا الإيمان بالفكر المستقيم، فإنْ كان ما نراه من ترف وتقدم ورُقيّ وعمارة في الدنيا من صُنْع مهندس أو عامل، فكيف الحال إنْ كان الصانع هو الخالق سبحانه وتعالى؟ ويجب ألًا نغفلَ الفرْق بين نعيم الدنيا الذي أعدّه البشر ونعيم الآخرة الذي أعدّه الله تعالى، فقصارى ما توصل إليه الناس في رفاهية الخدمة أن تضغط على زر فيأتي لك منه الشاي مثلًا، وتضغط على زر آخر فيأتي لك منه القهوة.
وهذه آلة تستجيب لك إنْ تفاعلتَ معها، لكن مهما ارتقى هؤلاء ومهما تقدَّمت صناعتهم فلن يصلوا إلى أنْ يقدموا لك الشيء بمجرد أن يخطر على بالك؛ لأن هذا من نعيم الجنة الذي أعده الخالق سبحانه لعباده الصالحين.
إذن: فما دام كذلك، وسلَّمنا بأن الآخرة افضل وأعظم، فما عليك إلاَّ أنْ تبادر وتأخذ الطريق القويم، وتسلك طريق ربك من أقصر اتجاه، وهو الاستقامة على منهج الله الواحد والالتزام به.
فيقول الحق سبحانه: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا}.
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}.
لأنه سبحانه أعطاك في الدنيا، وأمدّك بالأسباب، وبمقوّمات حياتك، أوجدك من عدم، وأمدك من عُدْمٍ، حتى وإنْ كنت كافرًا، ثم أعدَّ لك في الآخرة الدرجات العالية والنعيم المقيم الذي لا يَفْنى ولا يزول.
وهذه هي الحيثيات التي ينبغي عليك بعدها أن تعرفه سبحانه، وتتوجّه إليه، وتلتحم به وتكون في معيته، ولا تجعل معه سبحانه إلهًا آخر؛ لأنك إنْ فعلتَ فلن تجد من هذا النعيم شيئًا، لن تجد إلا المذمّة والخُذْلان في الدنيا والآخرة.
وسوف تُفَاجأ في القيامة بربك الذي دعاك للإيمان به فكفرْتَ.{وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ..} [النور: 39]
ساعتها ستندم حين لا ينفعك الندم، بعد أن ضاعت الفرصة من يديك.
ويقول تعالى: {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} [الإسراء: 22]
والقعود ليس أمرًا عاديًا هنا، بل هو أنكَى ما يصير إليه الإنسان؛ لأن الإنسان لا يقعد إلا إذا أصبح غيرَ قادر على القيام، ففيها ما يُشعر بإنهاك القوة، وكأنه سقط إلى الأرض، بعد أنْ أصبحتْ رِجلاه غير قادرتين على حَمْله، ولم تَعْد به قوة للحركة.
ونلاحظ في تعبير القرآن عن هذا الذي خارتْ قواه، وانتهت تمامًا، أنه يختار له وَضْع القعود خاصة، ولم يَقُلْ مثلًا: تنام، لأن العذاب لا يكون مع النوم، ففي النوم يفقد الإنسان الوعي فلا يشعر بالعذاب، بل قال {فتقعد} هكذا شاخص يقاسي العذاب؛ لأن العذاب ليس للجوارح والمادة، بل للنفس الواعية التي تُحِسّ وتألم. ولذلك يلجأ الأطباء إلى تخدير المريض قبل إجراء العمليات الجراحية؛ لأن التخدير يُفقِده الوعي فلا يشعر بالألم.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95]
وقال: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا..} [النور: 60]
فالقعود يدل على عدم القدرة، وفي الوقت نفسه لا يرتاح بالنوم، فهو في عذاب مستمر.
وفي مجال الذم قال الشاعر:
دَعِ المكَارِمَ لاَ ترحَلِ لِبُغْيِتهَا ** وَاقْعُدْ فإنكَ أنتَ الطَّاعِمُ الكَاسي

وقوله: {مَذْمُومًا..} [الإسراء: 22] لأنه أتى بعمل يذمه الناس عليه.
{مَّخْذُولًا..} [الإسراء: 22] من الخذلان، وهو عدم النُّصْرة، فالأبعد في موقف لا ينصره فيه أحد، ولا يدافع عنه أحد، لذلك يقول تعالى لهؤلاء: {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 25-26]. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}.
قال ابن عباس في قوله تعالى: {سُبْحَانَ} يقول: عجبٌ من أمر الله الذي أسرى. ويقال: تنزيه لله تعالى. وروى موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبحان. فقال: «نَزَّهَ الله نَفْسَهُ عَنِ السُّوءِ».
وروي عن عليّ بن أبي طالب، أن ابن أبي الْكَوَّاءَ سأله عن سبحان، فقال عليّ: كلمة الله لنفسه.
ويقال: معناه سبحوا الله {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} أي: أدلج برسوله صلى الله عليه وسلم {لَيْلًا} أي: في ليلة.
ويقال: {أسرى} يعني: سار بعبده ليلًا {مّنَ المسجد الحرام} أي: مكة. وقال ابن عباس: من بيت أم هانىء {إلى المسجد الاقصى} يعني: إلى بيت المقدس. قال الفقيه: أخبرني الثقة بإسناده عن أبي سعيد الخدري. قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن الليلة التي أسرى به فيها، فقال: «أوتِيتُ بِدَابَّةٍ هِيَ أَشْبَهُ الدَّوَابِّ بِالبَغْلِ وَهُوَ البُرَاقُ، وَهُوَ الَّذِي كَان يَرْكَبُهُ الأَنْبِيَاءِ».
قال: «فَانْطَلَقَ بِي يَضَعُ يَدَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ، فَسَمِعْتُ نِداءً عَنْ يَمِيني: يا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ.
فَمَضَيْتُ وَلَمَّا أعَرِّجْ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَمِعْتُ نِداءً عَنْ شِمَالِي فَمَضَيْتُ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينةٍ، فَمَدَّتْ يدَيْهَا، وَقَالَتْ: عَلَى رِسْلِكَ فَمَضَيْتُ. وَلَمْ أَلْتَفِتْ إلَيْهَا. ثُمَّ أَتَيْتُ البَيْتَ المَقْدِسَ.
أوْ قَالَ المَسْجِدَ فَنَزَلْتُ وَأَوْثَقْتَهُ بِالحَلقَةِ الَّتِي كَانَتِ الأنْبِياءُ يُوثِقُونَ بِهَا، ثُمَّ دَخَلْتُ، المَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ، فَقُلْتُ: يا جِبْرِيلُ سَمِعْتُ نِداءً عَنْ يَمينِي، فَقَالَ: ذاكَ داعِي اليَهُودِيَّةِ، أما إنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَهَوَّدَتْ أُمَّتُكَ. فَقُلْتُ: وَسَمِعْتُ نِداءً عَنْ شِمَالِي. قالَ: كانَ ذلك دَاعِيَ النَّصَارَى، أمَا إنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَنَصَّرَتْ أُمَّتُكَ وَأمَّا المَرْأَةُ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزَيَّنَتْ لَكَ. أمَا إنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهَا لاخْتَارَتْ أمَّتُكَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ. قالَ: ثُمَّ أوتِيتَ بِإنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيهِ لَبَنٌ، وَالآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ.
فَقَالَ لِي: اشْرَبْ أيَّهُمَا شِئْتَ فأَخَذْتُ اللَّبَنَ وَشَربْتُ. فَقَالَ أَصَبْتَ الفِطْرَةَ، أَيْ أُعْطِيَتْ أُمَّتُكَ الإسْلاَم. أَمَا إنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الخَمْرَةَ لَغَوَتْ أمَّتُكَ. ثُمَّ جِيءَ بِالمِعْرَاجِ الْذِي تَعْرُجُ فِيهِ أرْوَاحُ بَنِي آدَمَ. فَإذا هُوَ أَحْسَنُ ما رَأَيْتُ فَعُرِجَ بِنَا فيهِ»
.
وذكر قصة طويلة فنزل {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم من أول الليل من المسجد الحرام. يقول: من الحرم من بيت أم هانىء بنت أبي طالب، إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى أي: الأبعد. يعني: إلى مسجد إيلياء وهو بيت المقدس {الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ} بالماء، والأشجار، وهو المدائن التي حوله مثل دمشق، والأردن، وفلسطين. {لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا} أي: لكي نريه من آياتنا. أراه الله تعالى في تلك الليلة من عجائب السموات والأرض. {إِنَّهُ هُوَ السميع} لمقالة أهل مكة وإنكارهم {البصير} أي: العليم بهم. وذلك أنه لما أخبرهم عن قصة تلك الليلة، أنكروا.
وروى الزهري عن عروة قال: إنه لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، فأخبر الناس بذلك، فارتد ناس كثير ممن كان صدقه، وفتنوا بذلك، وكذبوا به، وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر، فقالوا له: هذا صاحبك يزعم أنه قد أُسري به الليلة إلى بيت المقدس، ثم رجع من ليلته. فقال أبو بكر: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فإني أشهد إن كان قال ذلك أنه قد صدق. فقالوا: أتصدقه بأنه جاء إلى الشام في ليلة واحدة: ورجع قبل أن يصبح. فقال أبو بكر: نعم إني أصدقه في أبعد من ذلك. أصدقه بخبر السماء غدوة وعشية. فبذلك سمي أبا بكر الصديق.
قال الزهري: أخبرني أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم فرضت عليه الصلاة ليلة أسري به خمسين، ثم نقصت إلى خمس، ثم نودي يا محمد ما يبدل القول لدي، وإن لك بالخمس خمسين.
{وَءاتَيْنَآ مُوسَى الكتاب} أي التوراة جملةً واحدةً {وجعلناه} أي: الكتاب {هُدًى لّبَنِى إسراءيل} أي: بيانًا لهم من الضلالة.
أي: دللناهم به على الهدى {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلًا} يعني: ألاَّ تعبدوا من دوني ربًّا.
قوله: {ذُرّيَّةِ} يعني: بالذرية {مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} في السفينة، في أصلاب الرجال، وأرحام النساء. ويقال: معناه ألاّ تعبدوا ذُريةً من حملنا مع نوح مثل عيسى وعزير. قرأ أبو عمرو: {يَتَّخِذُواْ} بالياء على معنى المغايبة. والخبر عنهم أي: أعطيناك الكتاب لكيلا يتخذوا إلها غيري.
وقرأ الباقون: بالتاء على معنى المخاطبة أي: قل لهم لا تتخذوا إلها غيري.
ثم أثنى على نوح فقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} أي: كان يحمد الله إذا شرب، وأكل، واكتسى. ويقال: الشكور هو المبالغ في الشكر. أي: كان شاكرًا في الأحوال كلها. قوله: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل} يقول: أعلمنا وبينّا كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} أي: أعلمناه، وبينّاه {فِى الكتاب} يعني: أخبرناهم في التوراة {لَتُفْسِدُنَّ} أي: لتعصن {فِى الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} والعلو العتو على الله تعالى، والجرأة. وهذا قول ابن عباس.
وقال مقاتل: يعني: لتهلكن في الأرض مرتين {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} يعني: لتقهرن قهرًا شديدًا.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة أنه قال: أما المرة الأولى فسلط الله عليهم جالوت، حتى بعث الله طالوت، ومعه داود، فقتله داود. ثم رُدَّت الكرة لبني إسرائيل، ثم جاء وعد الآخرة من المرتين {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لًانفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7] أي: يقبحوا وجوهكم، وليدمروا تدميرًا، وهو بُخْتَنَصَّر.
وإن عدتم عدنا.
فعادوا، فبعث الله عليهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهم يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: وَعْدُ أُولاهُمَا جاءتهم فارس معهم بختنصر، ثم رجعت فارس يعني: أهل فارس ولم يكن قتال، ونصرت بنو إسرائيل عليهم.
فذلك وعد الأولى.
فإذا جاء وَعْدُ الآخرة، جاءهم بختنصر، ودمر عليهم.
وروى أسباط عن السدي، أن وعد الأولى كان ملك النبط، فجاسوا خلال الديار.
ثم إن بني إسرائيل تجهزوا، وغزوا النبط، فأصابوا منهم، واستنقذوا ما في أيديهم، فردت الكرة عليهم.
وكان بختنصر في ذلك الوقت يتيمًا في ذلك العسكر، وخرج ليسأل شيئًا.
فلما رأى كبر جمع الجيوش، وجاء بهم، وخوفهم، وخرب البلدة.
قال القتبي: إن بختنصر غزاهم، فرغبوا إلى الله، وتابوا، فردَّ الله عنهم بعد أن فتحوا المدينة، وجالوا في أسواقها، ثم أحدثوا، فبعث الله إليهم أرميا النبي عليه السلام فقام فيهم بوحي الله، فضربوه، وقيدوه، وحبسوه، فبعث الله تعالى إليهم عند ذلك بختنصر، ففعل ما فعل.
وقال الكلبي: لما عصوا الله، وهو أول الفسادين، سلط الله عليهم بختنصر، خرج من بابل فأتاهم بالشام، وظهر على بيت المقدس، فقتل منهم أربعين ألفًا ممن كان يقرأ التوراة، وأدخل بقيتهم أرضه.
فمكثوا كذلك سبعين سنة حتى مات ثم إن رجلًا من أهل همدان يقال له: كورش غزا أهل بابل، فظهر عليهم، وسكن الدار، وتزوج امرأة من بني إسرائيل، وطلبت إلى زوجها أن يرد قومها إلى أرضهم، ففعل، فردهم إلى أرض بيت المقدس، فمكثوا فيها، فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه.
ثم عادوا فعصوا المرة الثانية، فسلط الله عليهم ملكًا من ملوك الروم يقال له: إسبسيانوس، فحاصرهم سنين ثم مات.
فبعث الله عليهم ابنه ططيوس بن إسبسيانوس، فحاصرهم سنين.
ثم فتحها بعد ذلك، فقتل منهم مائة ألف، وثمانين ألفًا حتى قتل يحيى بن زكريا، وحبس منهم مثل ذلك، وخرب بيت المقدس فلم يزل خرابًا حتى بناه المؤمنون في زمن عمر رضي الله عنه.
فذلك قوله: {فَإِذَا جَآء وَعْدُ أولاهما} يقول: أول الفسادين {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ} أي: سلطنا عليكم {عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} يعني: ذوي قتال شديد {فَجَاسُواْ خلال الديار} يقول: قتلوكم وسط الأزقة.
وقال القتبي {فَجَاسُواْ} أي: عاثوا، وأفسدوا.
ويكون جاسوا بمعنى دخلوا بالفساد {وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا} يعني: كائنًا لئن فعلتم، لأفعلن بكم.
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} يقول: أعطيناكم الدولة.
ويقال: الرجعة عليهم.
قوله: {وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ وجعلناكم أَكْثَرَ نَفِيرًا} يعني: أكثر رجالًا وعددًا.
وقال القتبي: أصله من نفر، ينفر مع الرجل من عشيرته، وأهل بيته، والنفير والنافر مثل القدير والقادر.
قوله: {إِنْ أَحْسَنتُمْ} يقول: إن وحدتم الله وأطعتموه {أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ} أي: يثاب لكم الجنة {وَإِنْ أَسَأْتُمْ} أي: أشركتم بالله {فَلَهَا} ويقال: في الآية مضمر.
ومعناه: وإن أسأتم فلها رب يغفر لها {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخرة} أي: آخر الفسادين {لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ} أخذ من السوء أي: بعثناهم إليكم، ليقبحوا وجوهكم بالقتل، والسبي.
قرأ حمزة، وابن عامر، وعاصم، في رواية أبي بكر: {لِيَسُوءَ} بالياء، وفتح الهمزة.
يعني: الوعد.