فصل: من فوائد ابن عطية في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
وقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها} الآية، النسخ في كلام العرب على وجهين: أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر، والثاني الإزلة، فأما الأول فلا مدخل له في هذه الآية، وورد في كتاب الله تعالى في قوله تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} [الجاثية: 29]، وأما الثاني الذي هو الإزالة فهو الذي في هذه الآية، وهو منقسم في اللغة على ضربين: أحدهما يثبت الناسخ بعد المنسوخ كقولهم نسخت الشمس الظل، والآخر لا يثبت كقولهم نسخت الريح الأثر، وورد النسخ في الشرع حسب هذين الضربين، والناسخ حقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخًا إذ به يقع النسخ، وحد الناسخ عند حذاق أهل السنة: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت، بالخطاب المتقدم على وجهٍ لولاه لكان ثابتًا مع تراخيه عنه.
والنسخ جائز على الله تعالى عقلًا لأنه ليس يلزم عنه محال ولا تغيير صفة من صفاته تعالى، وليست الأوامر متعلقة بالإرادة فيلزم من النسخ أن الإرادة تغيرت، ولا النسخ لطروّ علم، بل الله تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم الأول ويعلم نسخه بالثاني. والبداء لا يجوز على الله تعالى لأنه لا يكونه إلا لطروّ علم أو لتغير إرادة، وذلك محال في جهة الله تعالى، وجعلت اليهود النسخ والبداء واحدًا، ولذلك لم يجوزوه فضلُّوا.
والمنسوخ عند أئمتنا: الحكم الثابت نفسه: لا ما ذهبت إليه المعتزلة، من أنه مثل الحكم الثابت فيما يستقبل، والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة، وأن الحسن صفة نفسية للحسن، ومراد الله تعالى حسن، وقد قامت الأدلة على أن الأوامر لا ترتبط بالإرادة، وعلى أن الحسن القبح في الأحكام إنما هو من جهة الشرع لا بصفة نفسية.
والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به، لأن المخصص لم يتناوله العموم قط، ولو ثبت قطعًا تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخًا لا تخصيصًا. والنسخ لا يجوز في الإخبار، وإنما هو مختص بالأومر والنواهي، وردّ بعض المعترضين الأمر خبرًا بأن قال: أليس معناه: واجب عليكم أن تفعلوا كذا؟ فهذا خبر، والجواب أن يقال: إن في ضمن المعنى إلا أن أنسخه عنكم وأرفعه، فكما تضمن لفظ الأمر ذلك الإخبار كذلك تضمن هذا الاستثناء.
وصور النسخ تختلف، فقد ينسخ الأثقل إلى الأخف كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين، وقد ينسخ الأخف إلى الأثقل كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان، وقد ينسخ المثل بمثلة ثقلًا وخفة كالقبلة، وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى، والنسخ التام أن تنسخ التلاوة والحكم وذلك كثير، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم، وقد ينسخ الحكم دون التلاوة كصدقة النجوى، وكقوله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} [الممتحنة: 11]، والتلاوة والحكم حكمان، فجائز نسخ أحدهما دون الآخر.
وينسخ القرآن بالقرآن، والسنة بالسنة، وهذه العبارة يراد بها الخير المتواتر القطعي، وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد، وهذا كله متفق عليه، وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث» وهو ظاهر مسائل مالك رحمه الله، وأبى ذلك الشافعي رحمه الله، والحجة عليه من قوله إسقاطه الجلد في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم، فإنه لا مسقط لذلك إلا السنة. فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حذاق الأئمة على أن السنة تنسخ بالقرآن، وذلك موجود في القبلة فإن الصلاة إلى الشام لم تكن قط في كتاب الله، وفي قوله تعالى: {فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10]، فإن رجوعهن إنما كان يصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلًا، واختلفوا هل وقع شرعًا، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء في التحول إلى القبلة، وأبى ذلك قوم، ولا يصح نسخ نص بقياس إذ من شروط القياس أن لا يخالف نصًا، وهذا كله في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته واستقرار الشرع فأجمعت أنه لا نسخ.
ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد النبي صلى عليه وسلم، فإذا وجدنا إجماعًا يخالف نصًا فنعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن.
وقال بعض المتكلمين: النسخ الثابت متقرر في جهة كل أحد علم الناسخ أو لم يعلمه، والذي عليه الحذاق أنه من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول، فإذا بلغه الناسخ طرأ عليه حكم النسخ، والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في كتاب الله تعالى في قصة الذبيح.
وقرأ جمهور الناس {ما نَنْسخ} بفتح النون، من نسخ، وقرأت طائفة {نُنسخ}، بضم النون من أنسخ، وبها قرأ ابن عامر وحده من السبعة، قال أبو علي الفارسي: ليست لغة لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى، لا هي لتعدية لأن المعنى يجيء ما نكتب من آية أي ما ننزل فيجيء القرآن كله على هذا منسوخًا، وليس الأمر كذلك، فلم يبق إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخًا، كما تقول: أحمدت الرجل وأبخلته بمعنى وجدته محمودًا أو بخيلًا، قال أبو علي: وليس نجده منسوخًا إلا بأن ننسخه فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وقد خرج قرأة هذه القرءاة المعنى على وجهين أحدهما أن يكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله، فيجيء الضميران في {منها} و{مثلها} عائدين على الضمير في {ننسها}، والمعنى الآخر أن يكون {ننسخ} من النسخ بمعنى الإزالة ويكون التقدير ما ننسخك أي نبيح لك نسخه، كأنه لما نسخها الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ، فسمى تلك الإباحة إنساخًا، و{ما} شرطية وهي مفعولة ب {ننسخ}، و{ننسخ} جزم بالشرط.
واختلف القراء في قراءة قوله: {ننسها}، فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر وجمهور من الناس {نُنْسِها} بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين وترك الهمزة، وهذه من أنسى المنقول من نسي، وقرأت ذلك فرقة كما تقدم إلا أنها همزت بعد السين، فهذه بمعنى التأخير، تقول العرب أنسأت الدين وغيره أنسؤه إنساء إذا أخرته، وقرأت طائفة {أو نَنْسَها} بفتح النون الأولى وسكون الثانية وفتح السين، وهذه بمعنى الترك، ذكرها مكي ولم ينسبها، وذكرها أبو عبيد البكري في كتاب اللآلي عن سعد بن أبي وقاص، وأراه وهمَ، وقرأ سعد بن أبي وقاص {أو تَنْسَها} على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ونون بعدها ساكنة وفتح السين، هكذا قال أبو الفتح وأبو عمرو الداني، فقيل لسعد إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال: إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب، وتلا {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6]، {واذكر ربك إذا نسيت} [الكهف: 24]، وقرأ سعيد بن المسيب فيما ذكر عنه أيضًا {أو تُنْسَها} بضم التاء أولًا وفتح السين وسكون النون بينهما، وهذه من النسيان، وقرأ الضحاك بن مزاحم وأبو رجاء {نُنَسِّها} بضم النون الأولى وفتح الثانية وسين مكسورة مشددة، وهذه أيضًا من النسيان.
وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس وإبراهيم النخغي وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعبيد ابن عمير وابن كثير وأبو عمرو {نَنْسَأها} بنون مفتوحة وأخرى بعدها ساكنة وسين مفتوحة وألف بعدها مهموزة، وهذه من التأخير، تقول العرب: نسأت الإبل عن الحوض أَنْسَؤُها نَسْأَ أي أخرتها، وكذلك يقال: أنسأ الإبل إذا زاد في ظمئها يومًا أو يومين أو أكثر من ذلك بمعنى أخرها عن الورد، وقرأت فرقة مثل هذه القراءة إلا أنها بتاء مفتوحة أولًا على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وإسناد الفعل إليه، وقرأ أبو حيوة مثل ذلك إلا أنه ضم التاء أولًا، وقرأ أبي بن كعب {أو نُنْسِك} بضم النون الأولى وسكون الثانية وسين مكسورة وكاف مخاطبة، وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة {أو ننسكها} مثل قراءة أبيّ إلا أنه زاد ضمير الآية.
وقرأ الأعمش {ما ننسك من آية أو ننسخها نجئ بمثلها} وهكذا ثبتت في مصحف عبد الله بن مسعود.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه القراءات لا تخلو كل واحدة منها أن تكون من النسء أو الإنساء بمعنى التأخير، أو تكون من النسيان.
والنسيان في كلام العرب يجيء في الإغلب ضد الذكر، وقد يجيء بمعنى الترك، فالمعاني الثلاثة مقولة في هذه القراءات، فما كان منها يترتب في لفظة النسيان الذي هو ضد الذكر.
فمعنى الآية: ما ننسخ من آية أو نقدر نسيانك لها فتنساها حتى ترتفع جملة وتذهب فإنا نأتي بما هو خير منها لكم أو مثله في المنفعة.
وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى الترك فإن الآية معه تترتب فيها أربعة معان:
أحدها: ما ننسخ على وجوه النسخ أو نترك غير منزل عليك فإنا لابد أن ننزل رفقًا بكم خيرًا من ذلك أو مثله حتى لا ينقص الدين عن حد كماله.
والمعنى الثاني أو نترك تلاوته وإن رفعنا حكمه فيجيء النسخ على هذا رفع التلاوة والحكم.
والمعنى الثالث أو نترك حكمه وإن رفعنا تلاوته فالنسخ أيضًا، على هذا رفع التلاوة والحكم.
والمعنى الرابع أو نتركها غير منسوخة الحكم ولا التلاوة، فالنسخ على هذا المعنى هو على جميع وجوهه، ويجيء الضميران في {منها أو مثلها} عائدين على المنسوخة فقط، وكان الكلام إن نسخنا أو أبقينا فإنا نأتي بخير من المنسوخة أو مثلها.
وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى التأخير فإن الآية معه تترتب فيها المعاني الأربعة التي في الترك، أولها ما ننسخ أو نؤخر إنزاله، والثاني ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر حكمه وإن أبقينا تلاوته، والثالث ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر تلاوته وإن أبقينا حكمه، والرابع ما ننسخ أو نؤخره مثبتًا لا ننسخه، ويعود الضميران كما ذكرنا في الترك، وبعض هذه المعاني أقوى من بعض، لكن ذكرنا جميعها لأنها تحتمل، وقد قال: جميعها العلماء إما نصًا وإما إشارة فكملناها.
وقال الزجاج: إن القراءة {أو نُنْسِها} بضم النون وسكون الثانية وكسر السين لا يتوجه فيها معنى الترك لأنه لا يقال أنسأ بمعنى ترك، وقال أبو علي وغيره: ذلك متجه لأنه بمعنى نجعلك تتركها، وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر، وقال: إن هذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا نسي قرآنًا، وقال أبو علي وغيره: ذلك جائز وقد وقع ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بتنسئة، واحتج الزجاج بقوله تعالى: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} [الإسراء: 86]، أي لم نفعل، قال أبو علي معناه لم نذهب بالجميع.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: على معنى إزالة النعمة كما توعد، وقد حكى الطبري القول عن أقدم من الزجاج، ورد عليه، والصحيح في هذا أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله، تعالى أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآنًا جائز.
فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من أصحابه، وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه الحديث حين أسقط آية، فلما فرغ من الصلاة قال: أفي القوم أبيّ؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: فلم لم تذكرني؟ قال: حسبت أنها رفعت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم ترفع ولكني نسيتها.
ولفظة خير في الآية صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية، وقال قوم خير في الآية مصدر ومن لابتداء الغاية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويقلق هذا القول لقوله تعالى: {أو مثلها} إلا أن يعطف المثل على الضمير في {منها} دون إعادة حرف الجر، وذلك معترض.
وقوله تعالى: {ألم تعلم أن} ظاهره الاستفهام ومعناه التقرير، والتقرير محتاج إلى معادل كالاستفهام المحض، فالمعادل هنا على قول جماعة {أم تريدون} [البقرة: 18]، وقال قوم {أم} هنا منقطعة، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره أم علمتم، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة أمته، وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل محذوف لا غير، وكلا القولين مروي.
ومعنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء ويفعل في أحكامه ما يشاء، هو قدير على ذلك وعلى كل شيء، وهذا لإنكار اليهود النسخ.
وقوله تعالى: {على كل شيء} لفظ عموم معناه الخصوص، إذ لم تدخل فيه الصفات القديمة بدلالة العقل ولا المحالات لأنها ليست بأشياء، والشيء في كلام الموجود، و{قدير} اسم فاعل على المبالغة من قَدَر بفتح العين يقدِر بكسرها. ومن العرب من يقول قَدِرَ بكسر العين يقدَر بفتحها. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}.
فيه خمس عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} {نُنْسِها} عطف على {ننسخ}، وحذفت الياء للجزم.
ومن قرأ {نَنْسَأْها} حذف الضمة من الهمزة للجزم؛ وسيأتي معناه.
{نَأْتِ} جواب الشرط، وهذه آية عظمى في الأحكام.
وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجّه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك، وقالوا: إن محمدًا يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه؛ فما كان هذا القرآن إلا من جهته، ولهذا يناقض بعضه بعضًا؛ فأنزل الله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] وأنزل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}.
الثانية: معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء؛ لما يترتّب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام.
روى أبو البَخْتَرِيّ قال: دخل عليّ رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوّف الناس؛ فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يُذكّر الناس؛ فقال: ليس برجل يذكّر الناس! لكنه يقول أنا فلان ابن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ا فقال: لا؛ قال: فاخرج من مسجدنا ولا تُذكّر فيه.
وفي رواية أُخرى: أعلمتَ الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا؛ قال: هلكتَ وأهلكت.
ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الثالثة: النسخ في كلام العرب على وجهين:
أحدهما: النقل؛ كنقل كتاب من آخر.
وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخًا؛ أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العِزّة في السماء الدنيا؛ وهذا لا مدخل له في هذه الآية؛ ومنه قوله تعالى: {إِنّاَ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] أي نأمر بنسخه وإثباته.
الثاني: الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا؛ وهو منقسم في اللغة على ضربين:
أحدهما: إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه؛ ومنه نسخَتِ الشمسُ الظلَّ إذا أذهبته وحلّت محله؛ وهو معنى قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا}.
وفي صحيح مسلم: «لم تكن نبوّة قطّ إلا تناسخت» أي تحوّلت من حال إلى حال؛ يعني أمر الأمّة.
قال ابن فارس: النّسخ نسخ الكتاب، والنّسخ أن تزيل أمرًا كان من قبل يُعمل به ثم تنسخه بحاديث غيره؛ كالآية تنزل بأمر ثم ينسخ بأخرى.
وكلّ شيء خلف شيئًا فقد انتسخه؛ يقال: انتسخت الشمسُ الظلَّ، والشيبُ الشبابَ.
وتناسُخِ الورثة: أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم؛ وكذلك تناسُخِ الأزمنة والقرون.
الثاني: إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه؛ كقولهم: نسخت الريح الأثر؛ ومن هذا المعنى قوله تعالى: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} [الحج: 52] أي يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بدله.
وزعم أبو عبيد أن هذا النسخ الثاني قد كان ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم السورة فتُرفع فلا تُتلى ولا تُكتب.
قلت: ومنه ما روي عن أُبيّ بن كعب وعائشة رضي الله عنهما أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول؛ على ما يأتي مبيّنًا هناك إن شاء الله تعالى.
ومما يدل على هذا ما ذكره أبو بكر الأنباري حدّثنا أبي حدّثنا نصر بن داود حدّثنا أبو عبيد حدّثنا عبد اللَّه بن صالح عن اللّيث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب قال: حدّثني أبو أمامة بن سهل ابن حُنيف في مجلس سعيد بن المسيّب أن رجلًا قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن فلم يقدر على شيء منها، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها؛ فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: قمتُ الليلة يا رسول الله لأقرأ سورة من القرآن فلم أقدر على شيء منها؛ فقام الآخر فقال: وأنا والله كذلك يا رسول الله؛ فقام الآخر فقال: وأنا والله كذلك يا رسول الله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها مما نَسخ الله البارحة» وفي إحدى الروايات: وسعيد بن المسيّب يسمع ما يحدّث به أبو أمامة فلا ينكره.
الرابعة: أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه؛ وهم محجوجون بإجماع السَّلف السابق على وقوعه في الشريعة.
وأنكرته أيضًا طوائف من اليهود؛ وهم محجوجون بما جاء في توراتهم بزعمهم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة: إني قد جعلت كل دابة مأْكَلًا لك ولذريّتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العُشْب، ما خلا الدّم فلا تأكلوه.
ثم قد حرّم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرًا من الحيوان؛ وبما كان آدم عليه السلام يزوّج الأخ من الأخت؛ وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره، وبأن إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه ثم قال له: لا تذبحه؛ وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عَبَد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم؛ وبأن نبوّته غير متعبَّد بها قبل بعثه؛ ثم تُعبّد بها بعد ذلك، إلى غير ذلك.
وليس هذا من باب البداء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم؛ لضربٍ من المصلحة، إظهارًا لحكمته وكمال مملكته.
ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قُصد بها مصالح الخلق الدّينية والدنيويّة؛ وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالمًا بمآل الأمور؛ وأما العالم بذلك فإنما تتبدّل خطاباته بحسب تبدّل المصالح؛ كالطبيب المراعي أحوال العليل؛ فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو؛ فخطابه يتبدّل، وعلمه وإرادته لا تتغيّر، فإن ذلك محال في جهة الله تعالى.
وجعلت اليهود النسخ والبداء شيئًا واحدًا؛ ولذلك لم يجوّزوه فضَلُّوا.
قال النحاس: والفرق بين النسخ والبداء أن النسخ تحويل العبادة من شيء إلى شيء قد كان حلالًا فيحرّم، أو كان حرامًا فيُحلَّل.
وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه؛ كقولك: امض إلى فلان اليوم؛ ثم تقول لا تمض إليه؛ فيبدو لك العدول عن القول الأوّل؛ وهذا يلحق البشر لنقصانهم.
وكذلك إن قلت: ازرع كذا في هذه السنة؛ ثم قلت: لا تفعل؛ فهو البداء.
الخامسة: اعلم أن الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى، ويسمَّى الخطاب الشرعي ناسخًا تجوّزًا، إذ به يقع النسخ، كما قد يتجوّز فيسمّى المحكوم فيه ناسخًا، فيقال: صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء؛ فالمنسوخ هو المزال، والمنسوخ عنه هو المتعبَّد بالعبادة المزالة، وهو المكلَّف.
السادسة: اختلفت عبارات أئمتنا في حدّ الناسخ؛ فالذي عليه الحُذَّاق من أهل السُّنة أنه إزالة ما قد استقرّ من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخيًا؛ هكذا حدّه القاضي عبد الوهاب والقاضي أبو بكر، وزادا: لولاه لكان السابق ثابتًا؛ فحافظا على معنى النسخ اللغوي، إذ هو بمعنى الرفع والإزالة، وتحرّزًا من الحكم العقلي، وذكر الخطاب ليعم وجوه الدلالة من النص والظاهر والمفهوم وغيره؛ وليخرج القياس والإجماع، إذ لا يتصوّر النسخ فيهما ولا بهما.
وقيّدا بالتراخي؛ لأنه لو اتصل به لكان بيانًا لغاية الحكم لا ناسخًا، أو يكون آخر الكلام يرفع أوّله؛ كقولك: قم لا تقم.
السابعة: المنسوخ عند أئمتنا أهل السُّنة هو الحكم الثابت نفسه لا مثله؛ كما تقوله المعتزلة بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت فيما يستقبل بالنص المتقدّم زائل.
والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة، وأن الحس صفة نفسيّة للحسن، ومراد الله حَسَن؛ وهذا قد أبطله علماؤنا في كتبهم.
الثامنة: اختلف علماؤنا في الأخبار هل يدخلها النسخ؛ فالجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى.
وقيل: إن الخبر إذا تضمّن حكمًا شرعيًا جاز نسخه؛ كقوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: 67].
وهناك يأتي القول فيه إن شاء الله تعالى.
التاسعة: التخصيص من العموم يُوهِم أنه نسخ وليس به؛ لأن المخصّص لم يتناوله العموم قطّ، ولو ثبت تناول العموم لشيء مّا ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخًا لا تخصيصًا؛ والمتقدّمون يطلقون على التخصيص نسخًا تَوَسُّعًا ومجازًا.
العاشرة: اعلم أنه قد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الإطلاق والاستغراق؛ ويرِد تقييدها في موضع آخر فيرتفع ذلك الإطلاق؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
فهذا الحكم ظاهره خبر عن إجابة كل داعٍ على كل حال؛ لكن قد جاء ما قيّده في موضع آخر؛ كقوله: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41].
فقد يظنّ من لا بصيرة عنده أن هذا من باب النسخ في الأخبار وليس كذلك، بل هو من باب الإطلاق والتقييد.
وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في موضعها إن شاء الله تعالى.
الحادية عشرة: قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: جائز نسخ الأثقل إلى الأخف؛ كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين.
ويجوز نسخ الأخف إلى الأثقل؛ كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان؛ على ما يأتي بيانه في آية الصيام.
ويُنْسَخ المِثْل بمثْله ثِقلًا وخِفة، كالقِبلة.
ويُنسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النَّجْوَى.
ويُنسخ القرآن بالقرآن.
والسُّنةُ بالعِبارة؛ وهذه العِبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي.
ويُنسخ خبر الواحد بخبر الواحد.
وحُذّاق الأئمة على أن القرآن يُنسخ بالسُّنة، وذلك موجود في قوله عليه السلام: «لا وصية لوارث» وهو ظاهر مسائل مالك.
وأَبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي؛ والأوّل أصح، بدليل أن الكل حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء.
وأيضًا فإن الجلد ساقط في حدّ الزنى عن الثيّب الذي يُرجم، ولا مسقط لذلك إلا السُّنة فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا بيّن.
والحذّاق أيضًا على أن السُّنة تنسخ بالقرآن وذلك موجود في القِبلة، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى.
وفي قوله تعالى: {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} [الممتحنة: 10] فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبيّ صلى الله عليه وسلم لقريش.
والحذّاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلًا، واختلفوا هل وقع شرعًا؛ فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قُبَاء، على ما يأتي بيانه؛ وأبى ذلك قوم.
ولا يصح نسخ نصّ بقياس؛ إذ من شروط القياس ألا يخالِف نصًّا.
وهذا كله في مدّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمّة أنه لا نسخ؛ ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا يُنسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي؛ فإذا وجدنا إجماعًا يخالف نصًا فيُعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن، وأن ذلك النصّ المخالف متروك العمل به، وأن مقتضاه نُسخ وبقي سنة يُقرأ ويُروى؛ كما آية عدّة السَّنة في القرآن تُتْلَى؛ فتأمّل هذا فإنه نفيس، ويكون من باب نسخ الحكم دون التلاوة؛ ومثله صدقة النَّجْوَى.
وقد تُنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم.
وقد تُنسخ التلاوة والحكم معًا؛ ومنه قول الصدّيق رضي الله عنه: كنا نقرأ «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر» ومثله كثير.
والذي عليه الحُذّاق أن من لم يبلغه الناسخ فهو متعبّد بالحكم الأوّل؛ كما يأتي بيانه في تحويل القبلة.
والحُذّاق على جواز نسخ الحُكم قبل فعله، وهو موجود في قصة الذبيح، وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس؛ على ما يأتي بيانه في الإسراء والصافات، إن شاء الله تعالى.
الثانية عشرة: لمعرفة الناسخ طُرُق؛ منها: أن يكون في اللفظ ما يدل عليه؛ كقوله عليه السلام: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأَدم فاشربوا في كل وعاء غير ألاّ تشربوا مُسْكِرًا» ونحوه.
ومنها أن يذكر الراوي التاريخ؛ مثل أن يقول: سمعت عام الخَنْدق، وكان المنسوخ معلومًا قبله.
أو يقول: نُسخ حكم كذا بكذا.
ومنها أن تجمع الأمة على حُكم أنه منسوخ وأن ناسخه متقدّم.
وهذا الباب مبسوط في أصول الفقه، نبّهنا منه على ما فيه لمن اقتصر كفاية، والله الموفّق للهداية.
الثالثة عشرة: قرأ الجمهور {مَا نَنْسَخ} بفتح النون، من نَسَخ، وهو الظاهر المستعمل على معنى: ما نرفع من حكم آية ونُبقي تلاوتها؛ كما تقدّم.
ويحتمل أن يكون المعنى: ما نرفع من حكم آية وتلاوتها؛ على ما ذكرناه.
وقرأ ابن عامر {نُنسخ} بضم النون، من أنسخت الكتاب؛ على معنى وجدته منسوخًا.
قال أبو حاتم: هو غلط.
وقال الفارسي أبو عليّ: ليست لغة؛ لأنه لا يقال: نَسَخ وأنسخ بمعنًى، إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخًا؛ كما تقول: أحمدت الرجل وأبخلته، بمعنى وجدته محمودًا وبخيلًا.
قال أبو عليّ: وليس نجده منسوخًا إلا بأن ننسخه، فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ.
وقيل: {ما ننسخ} ما نجعل لك نسخه؛ يقال: نسخت الكتاب إذا كتبته، وانتسخته غيري إذا جعلت نسخة له.
قال مَكيّ: ولا يجوز أن تكون الهمزة للتعدّي؛ لأن المعنى يتغيّر، ويصير المعنى ما ننسخك من آية يا محمد؛ وإنساخه إياها إنزالها عليه، فيصير المعنى ما ننزل عليك من آية أو ننسِها نأت بخير منها أو مثلها، فيؤول المعنى إلى أن كل آية أنزلت أتى بخير منها؛ فيصير القرآن كله منسوخًا وهذا لا يمكن؛ لأنه لم يُنسخ إلا اليسير من القرآن.
فلما امتنع أن يكون أفعل وفَعَل بمعنًى إذ لم يسمع، وامتنع أن تكون الهمزة للتعدّي لفساد المعنى، لم يبق ممكن إلا أن يكون من باب أحمدته وأبخلته إذا وجدته محمودًا أو بخيلًا.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {أَوْ نُنسِهَا} قرأ أبو عمرو وابن كَثير بفتح النون والسين والهمز، وبه قرأ عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وأُبَيّ بن كعب وعبيد بن عُمير والنَّخعِيّ وابن مُحَيْصِن، من التأخير؛ أي نؤخّر نسخ لفظها، أي نتركه في آخر أم الكتاب فلا يكون.
وهذا قول عطاء.
وقال غير عطاء: معنى أو ننسأها: نؤخرها عن النسخ إلى وقت معلوم؛ من قولهم: نسأت هذا الأمر إذا أخرته؛ ومن ذلك قولهم: بعثه نَسْأً إذا أخّرته.
قال ابن فارس: ويقولون: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك.
وقد انتسأ القوم إذا تأخّروا وتباعدوا، ونسأتهم أنا أخرتهم.
فالمعنى نؤخّر نزولها أو نسخها على ما ذكرنا.
وقيل: نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ولا تذكر.
وقرأ الباقون {ننسها} بضم النون، من النسيان الذي بمعنى الترك، أي نتركها فلا نبدّلها ولا ننسخها؛ قاله ابن عباس والسُّدى؛ ومنه قوله تعالى: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب.
واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، قال أبو عبيد: سمعت أبا نُعيم القارئ يقول: قرأت على النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام بقراءة أبي عمرو فلم يغيّر عليّ إلا حرفين؛ قال: قرأت عليه {أَرْنا} فقال: أَرِنا؛ فقال أبو عبيد: وأحسب الحرف الآخر {أو ننسأها} فقال: {أو ننسها}.
وحكى الأزهري {ننسها} نأمر بتركها؛ يقال: أنسيته الشيء أي أمرت بتركه؛ ونسيته تركته؛ قال الشاعر:
إن عليّ عُقْبة أقضِيها ** لستُ بناسِيها ولا مُنْسِيها

أي ولا آمر بتركها.
وقال الزجاج: إن القراءة بضم النون لا يتوجّه فيها معنى الترك؛ لا يقال: أنسى بمعنى ترك، وما روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس {أو ننسها} قال: نتركها لانبدّلها؛ فلا يصح.
ولعل ابن عباس قال: نتركها؛ فلم يضبط.
والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى {أو ننسها} نبح لكم تركها؛ من نسى إذا ترك، ثم تعدّيه.
وقال أبو عليّ وغيره: ذلك مُتّجه؛ لأنه بمعنى نجعلك تتركها.
وقيل: من النسيان على بابه الذي هو عدم الذكر، على معنى أو ننسكها يا محمد فلا تذكرها؛ نقل بالهمز فتعدّى الفعل إلى مفعولين: وهما النبيّ والهاء، لكن اسم النبيّ محذوف.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} لفظة {بخير} هنا صفة تفضيل؛ والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجلٍ إن كانت الناسخة أخف، وفي آجلٍ إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية.
وقال مالك: مُحْكَمة مكان منسوخة.
وقيل: ليس المراد بأخير التفضيل؛ لأن كلام الله لا يتفاضل، وإنما هو مثل قوله: {مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} [النمل: 89] أي فله منها خير، أي نفع وأجر، لا الخير الذي هو بمعنى الأفضل، ويدلّ على القول الأوّل قوله: {أو مِثلِها}. اهـ.