فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن فارس: نهرتُ الرجُل وانتهرتُه، مثل: زجرتُه.
قال المفسرون: وإِنما نهى عن أذاهما في الكِبَر، وإِن كان منهيًا عنه على كلِّ حالة، لأن حالة الكِبَر يظهر فيها منهما ما يُضجِر ويؤذي، وتكثر خدمتهما.
قوله تعالى: {وقل لهما قولًا كريمًا} أي: ليِّنًا لطيفًا أحسن ما تجد.
وقال سعيد بن المسيّب: قولَ العبد المذنِب للسَّيد الفظّ.
قوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} أي: ألِنْ لهما جانبك متذللًا لهما من رحمتك إِياهما.
وخفضُ الجَناح قد شرحناه في [الحجر: 88].
قال عطاء: جناحك: يداك، فلا ترفعهما على والديك.
والجمهور يضمون الذال من {الذُّلّ}.
وقرأ أبو رزين، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعاصم الجحدري، وابن أبي عبلة: بكسر الذال.
قال الفراء: الذِّل: أن تتذلَّلَ لهما، من الذِّل، والذُّل: أن تتذلل ولست بذليل في الخدمة، والُّذل والذلة: مصدر الذليل، والذِّل، بالكسر: مصدر الذَّلول، مثل الدابة والأرض.
قال ابن الأنباري: من قرأ {الذّل}، بكسر الذال، جعله بمعنى الذُّل، بضم الذال، والذي عليه كُبَراء أهل اللغة أن الذُّل من الرجل: الذليل، والذِّل من الدابة: الذَّلول.
قوله تعالى: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا} أي: مثل رحمتهما إِياي في صغري حتى ربياني.
وقد ذهب قوم إِلى أن هذا الدعاء المطلق نُسخ منه الدعاء لأهل الشرك بقوله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} [التوبة: 113]، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومقاتل.
قال المصنف: ولا أرى هذا نسخًا عند الفقهاء، لأنه عامّ دخله التخصيص، وقد ذَكَرَ قريبًا مما قلتُه ابن جرير.
قوله تعالى: {ربكم أعلم بما في نفوسكم} أي: بما تُضمرون من اْلبِرِّ والعقوق، فمن بدرت منه بادرة وهو لا يُضمِر العقوق، غفر له ذلك، وهو قوله: {إِن تكونوا صالحين} أي: طائعين لله، [وقيل] بارِّين، وقيل: توَّابين، {فإنه كان للأوابين غفورًا} في الأوّاب عشرة أقوال:
أحدها: أنه المسلِم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: أنه التواب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وأبو عبيدة.
وقال ابن قتيبة: هو التائبُ مَرَّة بعد مَرَّة.
وقال الزجاج: هو التوَّاب المُقْلِع عن جميع ما نهاه الله عنه، يقال: قد آب يؤوب أَوْبًا: إِذا رجع.
والثالث: أنه المسبِّح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والرابع: أنه المطيع لله تعالى، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والخامس: أنه الذي يَذْكر ذَنْبه في الخلاء، فيستغفر اللهَ منه، قاله عُبيد بن عُمير.
والسادس: أنه المُقْبل إلى الله تعالى بقلبه وعمله، قاله الحسن.
والسابع: المصلِّي، قاله قتادة.
والثامن: هو الذي يصلِّي بين المغرب والعشاء، قاله ابن المنكدِر.
والتاسع: الذي يصلّي صلاة الضُّحى، قاله عَون العُقيلي.
والعاشر: أنه الذي يُذْنِب سِرًّا ويتوب سِرًّا، قاله السُّدِّي. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
فيه ست عشرة مسألة:
الأولى {وقضى} أي أمر وألزم وأوجب. قال ابن عباس والحسن وقتادة: وليس هذا قضاء حُكْم بل هو قضاء أمر. وفي مصحف ابن مسعود {ووصَّى} وهي قراءة أصحابه وقراءة ابن عباس أيضًا وعليّ وغيرهما، وكذلك عند أُبَيّ بن كعب.
قال ابن عباس: إنما هو {ووصى ربك} فالتصقت إحدى الواوين فقرئت {وقضى ربك} إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد. وقال الضحاك: تصحفت على قوم {وصى} ب {قضى} حين اختلطت الواو بالصاد وقت كَتْب المصحف.
وذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثلَ قول الضحاك. وقال عن ميمون بن مهْران أنه قال: إن على قول ابن عباس لنورا؛ قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحًا والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} ثم أبى أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك.
وقال: لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا، ثم قال علماؤنا المتكلمون وغيرهم القضاء يستعمل في اللغة على وجوه: فالقضاء بمعنى الأمر؛ كقوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} معناه أمر. والقضاء بمعنى الخلق؛ كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] يعني خلقهن. والقضاء بمعنى الحكم؛ كقوله تعالى: {فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ} [طه: 72] يعني احكم ما أنت تحكم. والقضاء بمعنى الفراغ؛ كقوله: {قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] أي فُرغ منه؛ ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200].
وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} [الجمعة: 10].
والقضاء بمعنى الإرادة؛ كقوله تعالى: {إِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47].
والقضاء بمعنى العهد؛ كقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} [القصص: 44].
فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعاني فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله؛ لأنه إن أريد به الأمر فلا خلاف أنه لا يجوز ذلك، لأن الله تعالى لم يأمر بها، فإنه لا يأمر بالفحشاء.
وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن فقال إنه طلّق امرأته ثلاثا.
فقال: إنك قد عصيت ربك وبانَتْ منك.
فقال الرجل: قضى الله ذلك علي فقال الحسن وكان فصيحًا: ما قضى الله ذلك! أي ما أمر الله به، وقرأ هذه الآية: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ}.
الثانية أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل برّ الوالدين مقرونًا بذلك، كما قَرَن شكرهما بشكره فقال: {وقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاّ إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا}.
وقال: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} [لقمان: 14].
وفي صحيح البخاريّ: عن عبد الله قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أيّ العمل أحبّ إلى الله عز وجل؟ قال: «الصلاة على وقتها» قال: ثم أيّ؟ قال: «ثم بِرُّ الوالدين» قال ثم أيّ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» فأخبر صلى الله عليه وسلم أن برّ الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام.
ورتّب ذلك ب «ثُمّ» التي تعطي الترتيب والمهلة.
الثالثة من البِرِّ بهما والإحسانِ إليهما ألاّ يتعرض لسَبّهما ولا يَعقُهُّما؛ فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف، وبذلك وردت السنة الثابتة؛ ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الكبائر شَتْمَ الرجلِ والديه قالوا: يا رسول الله، وهل يَشْتُم الرجل والديه؟ قال نعم يسبّ الرجلُ أبا الرجل فيَسُبّ أباه ويَسُبُّ أمَّه فيسب أمّه».
الرابعة عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما؛ كما أن بِرَّهما موافقتهما على أغراضهما.
وعلى هذا إذا أمرا أو أحدُهما ولدَهما بأمر وجبت طاعتهما فيه، إذا لم يكن ذلك الأمر معصية، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباح في أصله، كذلك إذا كان من قبيل المندوب.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن أَمَرَهما بالمباح يصيّره في حق الولد مندوبًا إليه وأمرُهما بالمندوب يزيده تأكيدًا في نَدْبيّته.
الخامسة روى الترمذي عن ابن عمر قال: كانت تحتي امرأة أحبّها، وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبَيْتُ، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عبد الله بن عمر طَلّق امرأتك» قال هذا حديث حسن صحيح.
السادسة روى الصحيح عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «مَن أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمُّك قال: ثم مَن؟ قال: ثم أمُّك قال: ثم من؟ قال: ثم أمك قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك» فهذا الحديث يدلّ على أن محبة الأم والشفقةَ عليها ينبغي أن تكون ثلاثةَ أمثال محبة الأب؛ لذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم الأمَّ ثلاث مرات وذِكْرِ الأب في الرابعة فقط.
وإذا توصّل هذا المعنى شهد له العِيان.
وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب؛ فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب.
ورُوي عن مالك أن رجلًا قال له: إن أبي في بلد السودان، وقد كتب إليّ أن أقدَم عليه، وأمِّي تمنعني من ذلك؛ فقال له: أطع أباك، ولا تَعْص أمك.
فدلّ قول مالك هذا أن بِرّهما متساوٍ عنده.
وقد سئل الليث عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم؛ وزعم أن لها ثلثي البر. وحديث أبي هريرة يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر؛ وهو الحجة على من خالف. وقد زعم المحاسِبِي في كتاب الرعاية له أنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثةَ أرباع البر وللأب الربع؛ على مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والله أعلم.
السابعة لا يختص بِرّ الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافِرَين يَبَرّهما ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد؛ قال الله تعالى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8].
وفي صحيح البخارِيّ عن أسماء قالت: قَدِمتْ أمّي وهي مشركة في عهد قريش ومدّتهم إذ عاهدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: «إن أمّي قَدِمت وهي راغبة أفأصِلُها؟ قال: نعم صِليِ أمَّكِ» وروي أيضًا: عن أسماء قالت: أتتني أميّ راغبة في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ قال: «نعم» قال ابن عُيينة: فأنزل الله عز وجل فيها: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين} [الممتحنة: 8] الأوّل معلّق والثاني مسند.
الثامنة من الإحسان إليهما والبِرّ بهما إذا لم يتعيّن الجهاد ألاّ يجاهد إلا بإذنهما.
روى الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: «أحَيٌّ والداك؟ قال نعم قال: ففيهما فجاهد» لفظ مسلم.
في غير الصحيح قال: نعم؛ وتركتهما يبكيان.
قال: «اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما» وفي خبر آخر أنه قال: «نومك مع أبويك على فراشهما يضاحكانك ويلاعبانك أفضل لك من الجهاد معي» ذكره ابن خُوَيْز منداد.
ولفظ البخارِيّ في كتاب بِرّ الوالدين: أخبرنا أبو نعيم أخبرنا سفيان عن عطاء بن السَّائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وتَرَكَ أبويه يبكيان فقال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما» قال ابن المنذر: في هذا الحديث النّهيُ عن الخروج بغير إذن الأبوين ما لم يقع النَّفِير؛ فإذا وقع وجب الخروج على الجميع.
وذلك بَيِّنٌ في حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيش الأمراء؛ فذكر قصة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وابن رَوَاحة وأن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بعد ذلك: أن الصلاة جامعة؛ فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، اخرجوا فأمِدّوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد» فخرج الناس مشاةً وركبانًا في حَرٍّ شديد.
فدلّ قوله: «اخرجوا فأمدوا إخوانكم» أن العذر في التخلف عن الجهاد إنما هو ما لم يقع النفير؛ مع قوله عليه السلام: «فإذا استنفرتم فانْفُروا» قلت: وفي هذه الأحاديث دليل على أن الفروض أو المندوبات متى اجتمعت قُدّم الأهم منها.
وقد استوفى هذا المعنى المحاسبيُّ في كتاب الرعاية.
التاسعة واختلفوا في الوالدين المشركَيْن هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية؛ فكان الثَّوْرِيّ يقول: لا يغزو إلا بإذنهما وقال الشافعيّ: له أن يغزو بغير إذنهما.
قال ابن المنذر: والأجداد آباء، والجدّات أمهات فلا يغزو المرء إلا بإذنهم، ولا أعلم دلالة توجب ذلك لغيرهم من الإخوة وسائر القرابات.
وكان طاوس يرى السّعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل.
العاشرة من تمام بِرِّهما صِلة أهل وُدِّهما؛ ففي الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أبَرّ البر صلَة الرجل أهل وُدّ أبيه بعد أن يُوَلِّيَ» وروى أبو أسَيد وكان بَدْرِيًّا قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم جالسًا فجاءه رجل من الأنصار فقال: «يا رسول الله، هل بقي من بر والدَيّ من بعد موتهما شيء أبَرّهما به؟ قال: نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهذا الذي بقي عليك» وكان صلى الله عليه وسلم يُهدي لصدائق خديجة بِرًّا بها ووفاء لها وهي زوجته، فما ظنّك بالوالدين.
الحادية عشرة قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} خصّ حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بِرّه لتغيّر الحال عليهما بالضّعف والكبر؛ فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كَلًا عليه، فيحتاجان أن يَلِيَ منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يلِيَا منه؛ فلذلك خصّ هذه الحالة بالذكر.