فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأيضًا فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالّة البنوّة وقلّة الديانة، وأقلّ المكروه ما يظهره بتنفسه المتردَّد من الضجر.
وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب فقال: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.
روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رَغِمَ أنْفُه رغم أنفه رغم أنفه قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: مَن أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلَيْهما ثم لم يدخل الجنة» وقال البخاري في كتاب بر الوالدين: حدّثنا مسدّد حدّثنا بشر بن المفضل حدّثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي سعيد المَقْبُرِيّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «رَغِم أنف رجل ذُكرت عنده فلم يصلّ عليّ، رَغِمَ أنفُ رجل أدرك أبويه عند الكبر أو أحدَهما فلم يدخلاه الجنة، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفر له».
حدّثنا ابن أبي أُوَيْس حدّثني أخي عن سليمان بن بلال عن محمد بن هلال عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة السالميّ عن أبيه رضي الله عنه قال: إن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه قال قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أحضروا المنبر فلما خرج رَقِيَ إلى المنبر، فرقي في أوّل درجة منه قال آمين ثم رقي في الثانية فقال آمين ثم لما رقي في الثالثة قال آمين، فلما فرغ ونزل من المنبر قلنا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئًا ما كنا نسمعه منك؟ قال: وسمعتموه؟ قلنا نعم قال: إن جبريل عليه السلام اعترض قال: بَعُد من أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت آمين فلما رَقِيت في الثانية قال بَعُدَ من ذُكرتَ عنده فلم يصل عليك فقلت آمين فلما رقيت في الثالثة قال بَعُدَ من أدرك عنده أبواه الكبرَ أو أحدُهما فلم يُدخلاه الجنة قلت آمين» حدّثنا أبو نعيم حدّثنا سلمة بن وردان سمعت أنسًا رضي الله عنه يقول: «ارتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر درجة فقال آمين ثم ارتقى درجة فقال آمين ثم ارتقى الدرجة الثالثة فقال آمين، ثم استوى وجلس فقال أصحابه: يا رسول الله، علام أمّنت؟ قال: أتاني جبريل عليه السلام فقال رَغِم أنف من ذُكرتَ عنده فلم يصلّ عليك فقلت آمين ورغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخل الجنة فقلت آمين» الحديث.
فالسعيد الذي يبادر اغتنام فرصة بِرّهما لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك.
والشقيّ من عقّهما، لا سيما من بلغه الأمر ببرّهما.
الثانية عشرة قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرّم.
وعن أبي رجاء العُطَارِدِيّ قال: الأُفُّ الكلام القَذَع الرديء الخفيّ. وقال مجاهد: معناه إذا رأيت منهما في حال الشيَخ الغائطَ والبول الذي رأياه منك في الصغر فلا تَقْذَرْهما وتقول أُفّ. والآية أعمّ من هذا. والأُفّ والتُّفّ وسخ الأظفار. ويقال لكل ما يُضجر ويستثقل: أفّ له. قال الأزهري: والتُّفّ أيضًا الشيء الحقير. وقرئ {أُفٍّ} منوّنًا مخفوضًا؛ كما تُخفض الأصوات وتُنَوّن، تقول: صَهٍ ومهٍ.
وفيه عشر لغات: أفَّ، وأفُّ، وأفِّ، وأُفًّا وأُفٍّ، وأُفٌّ، وأُفَّهْ، وإفْ لك بكسر الهمزة، وأُفْ بضم الهمزة وتسكين الفاء، وأُفًا مخففة الفاء.
وفي الحديث: «فألقى طرف ثوبه على أنفه ثم قال أف أف» قال أبو بكر: معناه استقذار لما شَمّ.
وقال بعضهم: معنى أف الاحتقار والاستقلال؛ أُخذ من الأَفَف وهو القليل.
وقال القُتَبِيّ: أصله نفخك الشيء يَسقط عليك من رماد وتراب وغير ذلك، وللمكان تريد إماطة شيء لتقعد فيه؛ فقيلت هذه الكلمة لكل مستثقل.
وقال أبو عمرو بن العَلاء: الأفّ وسخ بين الأظفار، والتُّفّ قُلامتها.
وقال الزجاج: معنى أف النّتْن.
وقال الأصْمَعِيّ: الأف وسخ الأذن، والتّف وسخ الأظفار؛ فكثر استعماله حتى ذكر في كل ما يُتأذَّى به.
وروي من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو علم الله من العقوق شيئًا أردأ من {أف} لذكره فليعمل البارّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار وليعمل العاقّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة» قال علماؤنا: وإنما صارت قوله: {أف} للأبوين أردأ شيء لأنه رفضهما رفض كفر النعمة، وجحد التربية وردّ الوصية التي أوصاه في التنزيل.
و{أفّ} كلمة مقولة لكل شيء مرفوض؛ ولذلك قال إبراهيم لقومه: {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [الأنبياء: 67] أي رَفْض لكم ولهذه الأصنام معكم.
الثالثة عشرة قوله تعالى: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} النَّهْر: الزجر والغِلظة. {وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} أي لَيِّنًا لطيفًا، مثل: يا أبتاه ويا أمّاه، من غير أن يسميهما أو يُكَنِّيهما؛ قاله عطاء.
وقال أبو الهدّاج التُّجِيبيّ: قلت لسعيد بن المسيّب كلّ ما في القرآن من برّ الوالدين قد عرفته إلا قول: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيّب: قولُ العبد المذنب للسيد الفَظّ الغليظ.
الرابعة عشرة قوله تعالى: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} هذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلّل الرعية للأمير والعبيد للسادة؛ كما أشار إليه سعيد بن المسيّب.
وضَربَ خَفْضَ الجناح ونصبه مثلًا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده.
والذل: هو اللين.
وقراءة الجمهور بضم الذال، من ذَلّ يَذِل ذُلًا وذِلّة ومَذلة فهو ذالّ وذليل.
وقرأ سعيد بن جُبير وابن عباس وعروة بن الزبير {الذِّل} بكسر الذال، ورُويت عن عاصم؛ من قولهم: دابّة ذَلول بينة الذِّل.
والذِّل في الدواب المنقاد السهل دون الصعب.
فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذِلة، في أقواله وسكناته ونظره، ولا يُحِدّ إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب.
الخامسة عشرة الخطاب في هذه الآية للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته؛ إذ لم يكن له عليه السلام في ذلك الوقت أبوان.
ولم يذكر الذلّ في قوله تعالى: {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الشعراء: 215] وذكره هنا بحسب عظم الحق وتأكيده.
و{مِن} في قوله: {مِنَ الرحمة} لبيان الجنس، أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنّة في النفس، لا بأن يكون ذلك استعمالًا.
ويصح أن يكون لانتهاء الغاية، ثم أمر تعالى عباده بالترحّم على آبائهم والدعاء لهم، وأنْ ترحمهما كما رحماك وتَرْفُق بهما كما رَفَقا بك؛ إذ وَلِيَاك صغيرًا جاهلًا محتاجًا فآثراك على أنفسهما، وأسهرا ليلهما، وجاعا وأشبعاك، وتعرّيا وكَسَواك، فلا تجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحدَّ الذي كنت فيه من الصغر، فتَلي منهما ما وَلِيَا منك، ويكون لهما حينئذ فضل التقدّم.
قال صلى الله عليه وسلم: «لا يَجْزِي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشترِيَه فيُعْتِقه» وسيأتي في سورة مريم الكلام على هذا الحديث.
السادسة عشرة قوله تعالى: {كَمَا رَبَّيَانِي} خصّ التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقًا لهما وحنانًا عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين. وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قُرْبَى، كما تقدم.
وذُكر عن ابن عباس وقتادة أن هذا كله منسوخ بقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] إلى قوله: {أصْحَابُ الجحِيم} فإذا كان والدا المسلم ذِمِّيّيْن استعمل معهما ما أمره الله به هاهنا؛ إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر؛ لأن هذا وحده نسخ بالآية المذكورة.
وقيل: ليس هذا موضع نسخ، فهو دعاء بالرحمة الدنيوية للأبوين المشركين ما داما حيّين، كما تقدم.
أو يكون عموم هذه الآية خُصّ بتلك، لا رحمة الآخرة، لا سيما وقد قيل إن قوله: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما} نزلت في سعد بن أبي وَقّاص، فإنه أسلم، فألقت أمُّه نفسها في الرّمْضَاء متجرِّدة، فذكر ذلك لسعد فقال: لِتَمُت، فنزلت الآية.
وقيل: الآية خاصة في الدعاء للأبوين المسلمين.
والصواب أن ذلك عموم كما ذكرنا، وقال ابن عباس قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من أمسى مُرْضِيًا لوالدَيْه وأصبح أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان من الجنة وإن واحدًا فواحدًا ومن أمسى وأصبح مُسْخطًا لوالديه أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان إلى النار وإن واحدًا فواحدًا فقال رجل: يا رسول الله، وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه» وقد روينا بالإسناد المتصل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي أخذ مالي فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للرجل: فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمِعته أذناه فلما جاء الشيخ قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقه إلا على إحدى عمّاته أو خالاته أو على نفسي! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيهِ، دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلتَه في نفسك ما سمِعَتْه أذناك» فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقينا، لقد قلتُ في نفسي شيئًا ما سمعته أذناي.
قال: قل وأنا أسمع قال قلت:
غَذَوْتُكَ مولودا ومُنْتُك يافِعا ** تُعَلّ بما أجْنِي عليك وتُنْهَلُ

إذا ليلةٌ ضافَتك بالسُّقم لم أَبِتْ ** لسُقْمك إلا ساهرًا أتململُ

كأني أنا المطروق دونك بالذي ** طُرِقتَ به دوني فَعَيْنِيَ تَهْمُلُ

تخاف الرَّدَى نفسي عليك وإنها ** لتعلم أن الموت وقتٌ مؤجل

فلما بلغتَ السنّ والغايةَ التي ** إليها مَدَى ما كنتُ فيك أؤمّلُ

جعلتَ جزائِي غِلظة وفظاظة ** كأنك أنت المُنْعِمُ المتفضِّلُ

فليتَك إذ لم تَرْعَ حقّ أبوّتي ** فعلتَ كما الجار المُصَاقِب يفعل

فأوْليتني حقّ الجِوار ولم تكن ** عليّ بمال دون مالك تَبْخَلُ

قال: فحينئذ أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: «أنت ومالك لأبيك» قال الطبراني: اللَّخْمِيُّ لا يروى يعني هذا الحديث عن ابن المنكدر بهذا التمام والشعر إلا بهذا الإسناد؛ وتفرّد به عبيد الله بن خلصة. والله أعلم.
قوله تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنوّ عليهما، أو من غير ذلك من العقوق، أو من جعل ظاهر برّهما رياء.
وقال ابن جُبير: يريد البادرة التي تبذر، كالفَلْتة والزَّلة، تكون من الرجل إلى أبويه أو أحدهما، لا يريد بذلك بأسًا؛ قال الله تعالى: {إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ} أي صادقين في نية البرّ بالوالدين فإن الله يغفر البادرة.
وقوله: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} وعد بالغفران مع شرط الصلاح والأَوبة بعد الأوبة إلى طاعة الله سبحانه وتعالى.
قال سعيد بن المسيّب: هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: الأوّاب: الحفيظ الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها.
وقال عُبيد بن عُمير: هم الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء ثم يستغفرون الله عز وجل.
وهذه الأقوال متقاربة.
وقال عَوْن العُقَيْليّ: الأوّابون هم الذين يصلون صلاة الضحا.
وفي الصحيح: «صلاة الأوّابين حين تَرْمَضُ الفِصال».
وحقيقة اللفظ أنه من آب يؤوب إذا رجع. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
{أف} اسم فعل بمعنى أتضجر ولم يأت اسم فعل بمعنى المضارع إلاّ قليلًا نحو: أف وأوه بمعنى أتوجع، وكان قياسه أن لا يبنى لأنه لم يقع موقع المبني.
وذكر الزناتي في كتاب الحلل له: إن في أف لغات تقارب الأربعين ونحن نسردها مضبوطة كما رأيناها وهي: أف أفِ أفُ أفَّ أفِّ أفُّ أفا أفّ أفّ أفا أفٍ أفٌ أف أفء أفيّ بغير إمالة أفيّ بالإمالة المحضة أفي بالإمالة بين بين أفيْ أفوْ أفّهْ أفّهْ أفّه فهذا اثنان وعشرون مع الهمزة المضمومة إفْ أفّ إف إفٍ إفٍّ إفا إفٌّ إفُّ إفا إفيِّ بالإمالة إفيْ فهذه إحدى عشرة مع الهمزة المكسورة أفْ أفّ آفّ آفٍّ أفيّ.
وذكر ابن عطية أفاه بهاء السكت وهي تمام الأربعين.
النهر الزجر بصياح وإغلاظ.
قال العسكريّ: وأصله الظهور، ومنه النهر والانتهار، وأنهر الدم أظهره وأساله، وانتهر الرجل أظهر له الإهانة بقبح الزجر والطرد.
وقال ابن عطية: الانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ.
وقال الزمخشري: النهي والنهر والنهم أخوات.
التبذير الإسراف قاله أبو عبيدة يعني في النفقة، وأصله التفريق ومنه سمي البذر بذرًا لأنه يفرق في المزرعة.