فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والإخوان جمع أخ، وهو هنا مستعار للملازم غير المفارق لأن ذلك شأن الأخ، كقولهم: أخو العلم، أي مُلازمه والمتصف به، وأخو السفَر لمن يُكثر الأسفار.
وقول عدي بن زيد:
وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ دجْ ** لةُ تَجبِي إليه والخابُور

يريد صاحب قَصر الحَضْر، وهو مَلك بلد الحَضْر المسمى الضَيْزنَ بنَ معاوية القضاعي الملقّب السيْطرون.
والمعنى: أنهم من أتباع الشياطين وحُلفائهم كما يتابع الأخُ أخاه.
وقد زيد تأكيد ذلك بلفظ {كانوا} المفيد أن تلك الأخوة صفة راسخة فيهم، وكفى بحقيقة الشيطان كراهة في النفوس واستقباحًا.
ومعنى ذلك: أن التبذير يدعو إليه الشيطان لأنه إما إنفاق في الفساد وإما إسراف يستنزف المال في السفاسف واللذات فيعطل الإنفاق في الخير وكل ذلك يرضي الشيطان، فلا جرم أن كان المتصفون بالتبذير من جند الشيطان وإخوانه.
وهذا تحذير من التبذير، فإن التبذير إذا فعله المرء اعتاده فأدمن عليه فصار له خلقًا لا يفارقه شأن الأخلاق الذميمة أن يسهل تعلقها بالنفوس كما ورد في الحديث: «إن المرء لا يزال يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» فإذا بذر المرء لم يلبث أن يصير من المبذرين، أي المعروفين بهذا الوصف، والمبذرون إخوان الشياطين، فليحذر المرء من عمل هو من شأن إخوان الشياطين، وليحذر أن ينقلب من إخوان الشياطين.
وبهذا يتبين أن في الكلام إيجازَ حذف تقديره: ولا تبذر تبذيرًا فتصير من المبذرين إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين.
والذي يدل على المحذوف أن المرء يصدق عليه أنه من المبذرين عندما يبذر تبذيرة أو تبذيرتين.
ثم أكد التحذير بجملة {وكان الشيطان لربه كفورا}.
وهذا تحذير شديد من أن يفضي التبذير بصاحبه إلى الكفر تدريجًا بسبب التخلق بالطبائع الشيطانية، فيذهب يتدهور في مهاوي الضلالة حتى يبلغ به إلى الكفر، كما قال تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121].
ويجوز حمل الكفر هنا على كفر النعمة فيكون أقرب درجات إلى حال التخلق بالتبذير، لأن التبذير صرف المال في غير ما أمر الله به فهو كفر لنعمة الله بالمال. فالتخلق به يفضي إلى التخلق والاعتياد لكفران النعم.
وعلى الوجهين فالكلام جار على ما يعرف في المنطق بقياس المساواة، إذ كان المبذر مؤاخيًا للشيطان وكان الشيطانُ كفورًا، فكانَ المبذّر كفورًا بالمآل أو بالدرجة القريبة. وقد كان التبذير من خُلق أهل الجاهلية، ولذلك يتمدحون بصفة المتلاف والمُهلك المال، فكان عندهم الميسر من أسْباب الإتلاف، فحذر الله المؤمنين من التلبس بصفات أهل الكفر، وهي من المذام، وأدبهم بآداب الحكمة والكمال.
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)} عطف على قوله: {وآت ذا القربى والمسكين} [الإسراء: 26] لأنه من تمامه.
والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب.
والمقصود بالخطاب النبي لأنه على وزان نظم قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] فإن المواجهة بـ {ربك} في القرآن جاءت غالبًا لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ويعدله ما روي أن النبي كان إذا سأله أحد مالًا ولم يكن عنده ما يعطيه يعرض عنه حياء فنبهه الله إلى أدب أكمل من الذي تعهده من قبل ويحصل من ذلك تعليم لسائر الأمة.
وضمير {عنهم} عائد إلى ذي القُربى والمسكين وابن السبيل.
والإعراض: أصله ضد الإقبال مشتق من العُرض بضم العين أي الجانب، فأعرض بمعنى أعطى جانبه {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه} [الإسراء: 83]، وهو هنا مجاز في عدم الإيتاء أو كناية عنه لأن الإمساك يلازمه الإعراض، أي إن سألك أحدهم عطاءً فلم تجبه إليه أو إن لم تفتقدهم بالعطاء المعروف فتباعدتَ عن لقائهم حياءً منهم أن تلاقيهم بيد فارغة فقل لهم قولًا ميسورًا.
والميسور: مفعول من اليُسر، وهو السهولة، وفعله مبني للمجهول.
يقال: يُسِر الأمرُ بضم الياء وكسر السين كما يقال: سُعِد الرجل ونُحِس، والمعنى: جُعِل يسيرًا غير عسير، وكذلك يقال: عُسِر.
والقول الميسور: اللين الحسن المقبول عندهم؛ شبه المقبول بالميسور في قبول النفس إياه لأن غير المقبول عسير.
أمر الله بإرفاق عدم الإعطاء لعدم الموجدة بقول لين حسن بالاعتذار والوعد عند الموجدة، لئلا يُحمل الإعراض على قلة الاكتراث والشح.
وقد شرط الإعراض بشرطين: أن يكون إعراضًا لابتغاء رزق من الله، أي إعراضًا لعدم الجدة لا اعتراضًا لبخل عنهم، وأن يكون معه قول لين في الاعتذار.
وعلم من قوله: {ابتغاء رحمة من ربك} أنه اعتذار صادق وليس تعللًا كما قال بشار:
وللبخيل على أمواله علل ** رزق العيون عليها أوجه سود

فقوله: {ابتغاء رحمة من ربك} حال من ضمير {تعرضن} مصدر بالوصف، أي مبتغيًا رحمة من ربك.
و{ترجوها} صفة ل {رحمة}.
والرحمة هنا هي الرزق الذي يتأتى منه العطاء بقرينة السياق.
وفيه إشارة إلى أن الرزق سبب للرحمة لأنه إذا أعطاه مستحقه أثيب عليه، وهذا إدماج.
وفي ضمن هذا الشرط تأديب للمؤمن إن كان فاقدًا ما يبلغ به إلى فعل الخير أن يرجوَ من الله تيسير أسبابه، وأن لا يحمله الشح على السرور بفقد الرزق للراحة من البذل بحيث لا يَعدِم البذلَ الآن إلا وهو راج أن يسهل له في المستقبل حرصًا على فضيلته، وأنه لا ينبغي أن يعرض عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل إلا في حال رجاء حصول نعمة فإن حصلت أعطاهم.
{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)} عود إلى بيان التبذير والشح، فالجملة عطف على جملة {ولا تبذر تبذيرًا} [الإسراء: 26].
ولولا تخلل الفصل بينهما بقوله؛ {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك} [الإسراء: 28] الآية لكانت جملة ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك غَيْر مقترنة بواو العطف لأن شأن البيان أن لا يعطف على المبين، وأيضًا على أن في عطفها اهتمامًا بها يجعلها مستقلة بالقصد لأنها مشتملة على زيادة على البيان بما فيها من النهي عن البخل المقابل للتبذير.
وقد أتت هذه الآية تعليمًا بمعرفة حقيقة من الحقائق الدقيقة فكانت من الحكمة.
وجاء نظمها على سبيل التمثيل فصيغت الحكمة في قالب البلاغة.
فأما الحكمة فإذ بينت أن المحمود في العطاء هو الوسط الواقع بين طرفي الإفراط والتفريط، وهذه الأوساط هي حدود المحامد بين المذام من كل حقيقة لها طرفان.
وقد تقرر في حكمة الأخلاق أن لكل خلق طرفين ووسطًا، فالطرفان إفراط وتفريط وكلاهما مقر مفاسد للمصدر وللمورد، وأن الوسط هو العدل، فالإنفاق والبذل حقيقة أحد طرفيها الشح وهو مفسدة للمحاويج ولصاحب المال إذ يجر إليه كراهية الناس إياه وكراهتيه إياهم.
والطرف الآخر التبذير والإسراف، وفيه مفاسد لذي المال وعشيرته لأنه يصرف ماله عن مستحقه إلى مصارف غير جديرة بالصرف، والوسط هو وضع المال في مواضعه وهو الحد الذي عبر عنه في الآية بنفي حالين بين لا ولا.
وأما البلاغة فبتمثيل الشح والإمساك بغل اليد إلى العُنق، وهو تمثيل مبني على تخيل اليد مصدرًا للبذل والعطاء، وتخيُّل بَسطها كذلك وغلها شحًا، وهو تخيل معروف لدى البلغاء والشعراء، قال الله تعالى: وقالت اليهود يد الله مغلولة ثم قال: {بل يداه مبسوطتان} [المائدة: 64] وقال الأعشى:
يَداك يدَا صدق فكف مفيدة ** وكف إذا ما ضُن بالمال تنفق

ومن ثم قالوا: له يدُ على فلان، أي نعمة وفضل، فجاء التثميل في الآية مبنيًا على التصرف في ذلك المعنى بتمثيل الذي يشح بالمال بالذي غُلّت يده إلى عنقه، أي شدت بالغُلّ، وهو القيد من السير يشد به يد الأسير، فإذا غُلت اليد إلى العنق تعذر التصرف بها فتعطل الانتفاع بها فصار مصدر البذل معطلًا فيه، وبضده مُثِّلَ المسرف بباسط يده غاية البسط ونهايته وهو المفاد بقوله: {كل البسط} أي البسطَ كله الذي لا بسط بعده، وهو معنى النهاية.
وقد تقدم من هذا المعنى عند قوله تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} إلى قوله: {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} في سورة العقود [المائدة: 64].
هذا قالب البلاغة المصوغةُ في تلك الحكمة.
وقوله: {فتقعد ملوما محسورًا} جواب لكلا النهيين على التوزيع بطريقة النشر المرتب، فالملوم يرجع إلى النهي عن الشح، والمحسور يرجع إلى النهي عن التبذير، فإن الشحيح ملوم مذموم.
وقد قيل:
إن البخيل ملوم حيثما كانا

وقال زهير:
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ** على قومه يُستغن عنه ويذمم

والمحسور: المنهوك القوى.
يقال: بعير حسير، إذا أتعبه السير فلم تبق له قوة، ومنه قوله تعالى: {ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير} [الملك: 4]، والمعنى: غير قادر على إقامة شؤونك.
والخطاب لغير معين.
وقد مضى الكلام على تقعد آنفًا.
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)}.
موقع هذه الجملة موقع اعتراض بالتعليل لما تقدم من الأمر بإيتاء ذي القربى والمساكين، والنهي عن التبذير، وعن الإمساك المفيد الأمرَ بالقصد، بأن هذا واجب الناس في أموالهم وواجبهم نحو قرابتهم وضعفاء عشائرهم، فعليهم أن يمتثلوا ما أمرهم الله من ذلك.
وليس الشح بمبق مال الشحيح لنفسه، ولا التبذير بمغنٍ من يبذر فيهم المال فإن الله قدر لكل نفس رزقها.
فيجوز أن يكون الكلام جاريًا على سنن الخطاب السابق لغير معين.
ويجوز أن يكون قد حُول الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم فَوُجّه بالخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الأولى بعلم هذه الحقائق العالية، وإن كانت أمته مقصودة بالخطاب تبعًا له، فتكون هذه الوصايا مخللة بالإقبال على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم.
{ويقدر} ضد {يبسط} وقد تقدم عند قوله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} في سورة [الرعد: 26].
وجملة {إنه كان بعباده خبيرا بصيرا تعليل لجملة إن ربك يبسط الرزق} إلى آخرها، أي هو يفعل ذلك لأنه عليم بأحوال عباده وما يليق بكل منهم بحسب ما جبلت عليه نفوسهم، وما يحف بهم من أحوال النظم العالمية التي اقتضتها الحكمة الإلهية المودعة في هذا العالم.
والخبير: العالم بالأخبار.
والبصير: العالم بالمبصرات.
وهذان الاسمان الجليلان يرجعان إلى معنى بعض تعلق العلم الإلهي. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)}.
الضمير في قوله: {عَنْهُمُ} راجع إلى المذكورين قبله في قوله: {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل} [الإسراء: 26] الآية. ومعنى الآية: إن تعرض عن هؤلاء المذكورين فلم تعطهم شيئًا لأنه ليس عندك. وإعراضك المذكور عنهم {ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهًَا} أي رزق حلال. كالفيء يرزقكة الله فتعطيهم منه {فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورا} أي لينًا لطيفًا طيبًا. كالدعء لهم بالغنى وسعة الرزق، ووعدهم بأن الله إذا يسر من فضله رزقاَ أنك تعطيهم منه.
وهذا تعليم عظيم من الله لنبيه لمكارم الأخلاق، وأنه إن لم يقدر على الإعطاء الجميل فليتجمل في عدم الإعطاء. لأن الرد الجميل خير من الإعطاء القبيح.
وهذا الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، صرح به الله جل وعلا في سورة البقرة في قوله: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى} [البقرة: 236] الآية، ولقد أجاد من قال:
إلاتكن روق يومًا أجود بها ** لسائلين فإني لين العود

لا يعدم السائلون الخير من خلقي ** إما نوالى وإما حسن مردودي

والآية الكريمة تشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعرض عن الإعطاء إلا عتد عدم ما يعطى منه، وأن الرزق المنتظر إذا يسره الله فإنه يعطيهم منه، ولا يعرض عنهم. وهذا هو غاية الجود وكرم الأخلاق. وقال القرطبي: قولًا {مَّيْسُورًا} مفعول بمعنى الفاعل من لفظ اليسر كالميمون.
وقد علمت مما قررنا أن قوله: {ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ} متعلق بفعل الشرط الذي هو {تُعْرِضَنَّ} لا بجزاء الشرط.
وأجاز الزمخشري في الكشاف تعلقه بالجزاء وتقديمه عليه. ومعنى ذلك: فقل لهم قولًا ميسورًا {ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ}. أي يسر عليهم والطف بهم. لابتغائك بذلك رحمة الله. ورد ذلك عليه أبو حيان في البحر المحيط بأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله. قال: لا يجوز في قولك إن يقم فاضرب خالدًا- أن تقول: إن يقم خالدًا فاضرب. وهذا منصوص عليه- انتهى.
عن سعيد بن جبير رحمه الله: أن الضمير في قوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُم} [الإسراء: 28] راجع للكفار. أي إن تعرض عن الكفار ابتغاء رحمة من ربك، أي نصر لك عليهم، أو هداية من الله لهم. وعلى هذا فالقول الميسور: المداراة باللسان. قاله أبو سليمان الدمشقي، انتهى من البحر. ويسر بالتخفيف يكون لازمًا ومتعديًا، وميسور من المتعدي. تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته. قاله أبو حيان أيضًا. اهـ.