فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثالثة:
ظاهر هذه الآية أنه لا سبب لحل القتل إلا قتل المظلوم، وظاهر الخبر يقتضي ضم شيئين آخرين إليه: وهو الكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، ودلت آية أخرى على حصول سبب رابع وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ} [المائدة: 33] ودلت آية أخرى على حصول سبب خامس وهو الكفر.
قال تعالى: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} [التوبة: 29] وقال: {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [النساء: 89] والفقهاء تكلموا واختلفوا في أشياء أخرى فمنها: أن تارك الصلاة هل يقتل أم لا؟ فعند الشافعي رحمه الله يقتل، وعن أبي حنيفة رحمه الله لا يقتل.
وثانيها: أن فعل اللواط هل يوجب القتل؟ فعند الشافعي يوجب، وعند أبي حنيفة لا يوجب.
وثالثها: أن الساحر إذا قال: قتلت بسحري فلانًا فعند الشافعي يوجب القتل، وعند أبي حنيفة لا يوجب.
ورابعها: أن القتل بالمثقل هل يوجب القصاص؟ فعند الشافعي يوجب.
وعند أبي حنيفة لا يوجب.
وخامسها: أن الامتناع من أداء الزكاة هل يوجب القتل أم لا؟ اختلفوا فيه في زمان أبي بكر.
وسادسها: أن إتيان البهيمة هل يوجب القتل، فعند أكثر الفقهاء لا يوجب، وعند قوم يوجب، حجة القائلين بأنه لا يجوز القتل في هذه الصور هو أن الآية صريحة في منع القتل على الإطلاق، إلا لسبب واحد وهو قتل المظلوم، ففيما عدا هذا السببب الواحد، وجب البقاء على أصل الحرمة، ثم قالوا: وهذا النص قد تأكد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدم على الإطلاق، فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارض، وذلك المعارض إما أن يكون نصًا متواترًا أو نصًا من باب الآحاد أو يكون قياسًا، أما النص المتواتر فمفقود، وإلا لما بقي الخلاف، وأما النص من باب الآحاد فهو مرجوح بالنسبة إلى هذه النصوص المتواترة الكثيرة، وأما القياس فلا يعارض النص.
فثبت بمقتضى هذا الأصل القوي القاهر أن الأصل في الدماء الحرمة إلا في الصور المعدودة، والله أعلم.
المسألة الرابعة:
قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا فَلاَ يُسْرِف} فيه بحثان:
البحث الأول:
أن هذه الآية تدل على أنه أثبت لولي الدم سلطانًا، فأما بيان أن هذه السلطنة تحصل فيما ذا فليس في قوله: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} دلالة عليه ثم ههنا طريقان: الأول: أنه تعالى لما قال بعده: {فَلاَ يُسْرِف في القتل} عرف أن تلك السلطنة إنما حصلت في استيفاء القتل، وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} فلا ينبغي أن يسرف الظالم في ذلك القتل، لأن ذلك المقتول منصور بواسطة إثبات هذه السلطنة لوليه.
والثاني: أن تلك السلطنة مجملة ثم صارت مفسرة بالآية والخبر، أما الآية فقوله تعالى في سورة البقرة: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء فاتباع بالمعروف وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان} [البقرة: 178] وقد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن الواجب هو كون المكلف مخيرًا بين القصاص وبين الدية.
وأما الخبر فهو قوله عليه السلام يوم الفتح: «من قتل قتيلًا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية» وعلى هذا الطريق فقوله: {فَلاَ يُسْرِف في القتل} معناه: أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص إن شاء، وسلطنة استيفاء الدية إن شاء.
قال بعده: {فَلاَ يُسْرِف في القتل} معناه أن الأولى أن لا يقدم على استيفاء القتل وأن يكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو وبالجملة فلفظة {في} محمولة على الباء، والمعنى: فلا يصير مسرفًا بسبب إقدامه على القتل ويصير معناه الترغيب في العفو والاكتفاء بالدية كما قال: {وَأَن تَعْفُو أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237].
البحث الثاني:
أن في قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} ذكر كونه مظلومًا بصيغة التنكير، وصيغة التنكير على ما عرف تدل على الكمال، فالإنسان المقتول ما لم يكن كاملًا في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص.
قال الشافعي رحمه الله: قد دللنا على أن المسلم إذا قتل الذمي لم يدخل تحت هذه الآية، بدليل أن الذمي مشرك والمشرك يحل دمه، إنما قلنا: إنه مشرك لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116] حكم بأن ما سوى الشرك مغفور في حق البعض، فلو كان كفر اليهودي والنصراني شيئًا مغايرًا للشرك لوجب أن يصير مغفورًا في حق بعض الناس بمقتضى هذه الآية، فلما لم يصر مغفورًا في حق أحد دل على أن كفرهم شرك، ولأنه تعالى قال: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة} [البقرة: 73] فهذا التثليث الذي قال به هؤلاء، إما أن يكون تثليثًا في الصفات وهو باطل، لأن ذلك هو الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة فلا يمكن جعله تثليثًا للكفر، وإما أن يكون تثليثًا في الذوات، وذلك هو الحق ولا شك أن القائل به مشرك، فثبت أن الذمي مشرك، وإنما قلنا: إن المشرك يجب قتله لقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] ومقتضى هذا الدليل إباحة دم الذمي فإن لم تثبت الإباحة فلا أقل من حصول شبهة الإباحة.
وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت أنه ليس كاملًا في المظلومية فلم يندرج تحت قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} وأما الحر إذا قتل عبدًا فهو داخل تحت هذه الآية إلا أنا بينا أن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد} [البقرة: 178] يدل على المنع من قتل الحر بالعبد من وجوه كثيرة وتلك الآية أخص من قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} والخاص مقدم على العام، فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص ولا في مسألة أنه يجب قتل المسلم بالذمي، ولا في مسألة أنه يجب قتل الحر بالعبد، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {فَلاَ يُسْرِف في القتل}.
ففيه مباحث:
البحث الأول: فيه وجوه:
الأول:
المراد هو أن يقتل القاتل وغير القاتل، وذلك لأن الواحد منهم إذا قتل واحدًا من قبيلة شريفة فأولياء ذلك المقتول كانوا يقتلون خلقًا من القبيلة الدنيئة فنهى الله تعالى عنه وأمر بالاقتصار على قتل القاتل وحده.
الثاني:
هو أن لا يرضى بقتل القاتل فإن أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشراف قبيلة القاتل ثم كانوا يقتلون منهم قومًا معينين ويتركون القاتل.
والثالث:
هو أن لا يكتفي بقتل القاتل بل يمثل به ويقطع أعضاؤه.
قال القفال: ولا يبعد حمله على الكل، لأن جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافًا.
البحث الثاني:
قرأ الأكثرون: {فَلاَ يُسْرِف} بالياء وفيه وجهان: الأول: التقدير: فلا ينبغي أن يسرف الولي في القتل.
الثاني: أن الضمير للقاتل الظالم ابتداء، أي فلا ينبغي أن يسرف ذلك الظالم وإسرافه عبارة عن إقدامه على ذلك القتل الظلم، وقرأ حمزة والكسائي: {فَلا تسرف} بالتاء على الخطاب، وهذه القراءة تحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الخطاب للمبتدىء القاتل ظلمًا كأنه قيل له: لا تسرف أيها الإنسان، وذلك الإسراف هو إقدامه على ذلك القتل الذي هو ظلم محض، والمعنى: لا تفعل فإنك إن قتلته مظلومًا استوفى القصاص منك.
والآخر: أن يكون الخطاب للولي فيكون التقدير: لا تسرف في القتل أيها الولي، أي اكتف باستيفاء القصاص ولا تطلب الزيادة.
وأما قوله: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} ففيه ثلاثة أوجه: الأول: كأنه قيل للظالم المبتدىء بذلك القتل على سبيل الظلم لا تفعل ذلك، فإن ذلك المقتول يكون منصورًا في الدنيا والآخرة، أما نصرته في الدنيا فبقتل قاتله، وأما في الآخرة فبكثرة الثواب له وكثرة العقاب لقاتله.
والقول الثاني: أن هذا الولي يكون منصورًا في قتل ذلك القاتل الظالم فليكتف بهذا القدر فإنه يكون منصورًا فيه ولا ينبغي أن يطمع في الزيادة منه، لأن من يكون منصورًا من عند الله يحرم عليه طلب الزيادة.
والقول الثالث: أن هذا القاتل الظالم ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص وأن لا يطلب الزيادة.
واعلم أن على القول الأول والثاني ظهر أن المقتول وولي دمه يكونان منصورين من عند الله تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قلت لعلي بن أبي طالب عليه السلام وأيم الله ليظهرن عليكم ابن أبي سفيان، لأن الله تعالى يقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} وقال الحسن: والله ما نصر معاوية على علي عليه السلام إلا بقول الله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا}، والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ} يعني وأد البنات أحياء خيفة الفقر.
{نحن نرزقهم وإياكُم إنّ قتلهم كان خطئًا كبيرًا}
والخِطءُ العدول عن الصواب بعمد، والخطأ العدول عنه بسهو، فهذا الفرق بين الخِطْءِ والخطأ، وقد قال الشاعر:
الخِطْءُ فاحشةٌ والبِرُّ نافِلةٌ ** كعَجْوةٍ غرسَتْ في الأرض تؤتَبرُ

الثاني: أن الخطء ما كان إثمًا، والخطأ ما لا إثم فيه، وقرأ الحسن خطاء بالمد.
قوله عز وجل: {ولا تقتلوا النفس التي حَرَّم الله إلاَّ بالحق} يعني إلا بما تستحق به القتل.
{ومَن قُتِل مظلومًا فقد جعلنا لوليّه سلطانًا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه القود، قاله قتادة.
الثاني: أنه الخيار بين القود أو الدية أو العفو، وهذا قول ابن عباس والضحاك.
الثالث: فقد جعلنا لوليه سلطانًا ينصره وينصفه في حقه.
{فلا يُسْرِف في القَتل} فيه قولان:
أحدهما: فلا يسرف القاتل الأول في القتل تعديًا وظلمًا، إن وليّ المقتول كان منصورًا، قاله مجاهد.
الثاني: فلا يسرف وليّ المقتول في القتل.
وفي إسرافه أربعة أوجه:
أحدها: أن يقتل غير قاتله، وهذا قول طلق بن حبيب.
الثاني: أن يمثل إذا اقتص، قاله ابن عباس.
الثالث: أن يقتل بعد أخذ الدية، قاله يحيى.
الرابع: أن يقتل جماعة بواحد، قاله سعيد بن جبير وداود.
{إنه كان منصورًا} فيه وجهان:
أحدهما: أن الولي كان منصورًا بتمكينة من القود، قاله قتادة. الثاني: أن المقتول كان منصورًا بقتل قاتله، قاله مجاهد. اهـ.