فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الشاعر:
كانت فريضة ما تقول كما ** كان الزِّناء فريضةَ الرَّجْمِ

و{سَبِيلًا} نصب على التمييز؛ التقدير: وساء سبيله سبيلًا.
أي لأنه يؤدّي إلى النار.
والزنى من الكبائر، ولا خلاف فيه وفي قبحه لا سيما بحليلة الجار.
وينشأ عنه استخدام ولد الغير واتخاذه ابنا وغير ذلك من الميراث وفساد الأنساب باختلاط المياه.
وفي الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتَى بامرأة مُجِحٍّ على باب فسطاط فقال: «لعله يريد أن يُلِمّ بها» فقالوا: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد هَمَمْتُ أن ألْعَنه لَعْنًا يدخل معه قبرَه كيف يُوَرِّثه وهو لا يَحِلّ له كيف يستخدمه وهو لا يَحِلّ له».
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} قد مضى الكلام فيه في الأنعام.
قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} أي بغير سبب يوجب القتل.
{فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} أي لمستحِق دمه.
قال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد: الولِيّ يجب أن يكون ذكرًا؛ لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكير.
وذكر إسماعيل بن إسحاق في قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} ما يدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الوليّ، فلا جَرَم، ليس للنساء حق في القصاص لذلك ولا أثر لعَفْوِها، وليس لها الاستيفاء.
وقال المخالف: إن المراد ها هنا بالولي الوارث؛ وقد قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، وقال: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ} [الأنفال: 72]، وقال: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} [الأنفال: 75] فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة؛ وأمّا ما ذكروه من أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، كأن ما كان بمعنى الجنس يستوي المذكر والمؤنث فيه، وتتمته في كتب الخلاف.
{سُلْطَانًا} أي تسليطًا إن شاءَ قتل وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدِّية؛ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك وأشهب والشافعي. وقال ابن وهب قال مالك: السلطانُ أمر الله. ابن عباس: السلطان الحجة. وقيل: السلطان طلبه حتى يدفع إليه. قال ابن العربي: وهذه الأقوال متقاربة، وأوضحها قول مالك: إنه أمر الله. ثم إن أمر الله عز وجل لم يقع نَصًّا فاختلف العلماء فيه؛ فقال ابن القاسم عن مالك وأبي حنيفة: القتل خاصّةً، وقال أشهب: الخيرة؛ كما ذكرنا آنفًا، وبه قال الشافعيّ، وقد مضى في سورة البقرة هذا المعنى.
الثانية: قوله تعالى: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} فيه ثلاثة أقوال: لا يقتل غير قاتله؛ قاله الحسن والضحاك ومجاهد وسعيد بن جبير.
الثاني: لا يقتل بدل وَلِيّه اثنين كما كانت العرب تفعله.
الثالث: لا يمثّل بالقاتل؛ قاله طَلْق بن حبيب، وكله مراد لأنه إسراف منهيٌّ عنه.
وقد مضى في البقرة القول في هذا مستوفًى.
وقرأ الجمهور: {يُسْرِف} بالياء، يريد الولي، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: {تسرف} بالتاء من فوق، وهي قراءة حُذيفة.
وروى العلاء بن عبد الكريم عن مجاهد قال: هو للقاتل الأوّل، والمعنى عندنا فلا تسرف أيها القاتل.
وقال الطبريّ: هو على معنى الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده.
أي لا تقتلوا غير القاتل.
وفي حرف أبي: {فلا تسرِفوا فِي القتلِ}.
الثالثة: قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} أي مُعانًا، يعني الوليّ.
فإن قيل: وكم من وَلِيّ مخذول لا يصل إلى حقّه.
قلنا: المعونة تكون بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى، وبمجموعهما ثالثة، فأيّها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى.
وروى ابن كثير عن مجاهد قال: إن المقتول كان منصورًا.
النحاس: ومعنى قوله إن الله نصره بوليّه.
وروي أنه في قراءة أبي: {فلا تسرِفوا فِي القتلِ إِن وَلِيّ المقتولِ كان منصورًا}.
قال النحاس: الأبْيَنُ بالياء ويكون للوليّ؛ لأنه إنما يقال: لا يسرف إن كان له أن يقتل، فهذا للوليّ.
وقد يجوز بالتاء ويكون للوليّ أيضًا، إلا أنه يحتاج فيه إلى تحويل المخاطبة.
قال الضحاك: هذا أوّل ما نزل من القرآن في شأن القتل، وهي مكية. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}
لما بيَّن تعالى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد، وتقدم تفسير نظير هذه الآية، والفرق بين {خشية إملاق} ومن إملاق وبين قوله: {نرزقهم} ونرزقكم.
وقرأ الأعمش وابن وثاب: {ولا تقتلوا} بالتضعيف.
وقرئ {خشية} بكسر الخاء، وقرأ الجمهور: {خطأً} بكسر الخاء وسكون الطاء.
وقرأ ابن كثير بكسرها وفتح الطاء والمدّ، وهي قراءة طلحة وشبل والأعمش ويحيى وخالد بن إلياس وقتادة والحسن والأعرج بخلاف عنهما.
وقال النحاس: لا أعرف لهذه القراءة وجهًا ولذلك جعلها أبو حاتم غلطًا.
وقال الفارسي: هي مصدر من خاطأ يخاطىء وإن كنا لم نجد خاطأ ولكن وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليه فمنه قول الشاعر:
تخاطأت النبل أخشاه ** وأخر يومي فلم يعجل

وقول الآخر في كمأة:
تخاطأه القناص حتى وجدته ** وخرطومه في منقع الماء راسب

فكان هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل.
وقرأ ابن ذكوان {خطأ} على وزن نبأ.
وقرأ الحسن خطاء بفتحهما والمد جعله اسم مصدر من أخطأ كالعطاء من أعطى قاله ابن جنيّ.
وقال أبو حاتم: هي غلط غير جائز ولا يعرف هذا في اللغة، وعنه أيضًا خطى كهوى خفف الهمزة فانقلبت ألفًا وذهبت لالتقائهما.
وقرأ أبو رجاء والزهري كذلك إلاّ أنهما كسرا الخاء فصار مثل ربا وكلاهما من خطىء في الدين وأخطأ في الرأي، لكنه قد يقام كل واحد منهما مقام الآخر وجاء عن ابن عامر: {خطأ} بالفتح والقصر مع إسكان الطاء وهو مصدر ثالث من خطىء بالكسر.
{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)}.
لما نهى تعالى عن قتل الأولاد نهى عن التسبب في إيجاده من الطريق غير المشروعة، فنهى عن قربان الزنا واستلزم ذلك النهي عن الزنا، والزنا الأكثر فيه القصر ويمد لغة لا ضرورة، هكذا نقل اللغويون.
ومن المدّ قول الشاعر وهو الفرزدق:
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ** ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا

ويروى أبا خالد.
وقال آخر:
كانت فريضة ما تقول كما ** كان الزناء فريضة الرجم

وكان المعنى لم يزل أي لم يزل {فاحشة} أي معصية فاحشة أي قبيحة زائدة في القبح {وساء سبيلًا} أي وبئس طريقًا طريقه لأنها سبيل تؤدّي إلى النار.
وقال ابن عطية: و{سبيلًا} نصب على التمييز التقدير، وساء سبيله انتهى.
وإذا كان {سبيلًا} نصبًا على التمييز فإنما هو تمييز للمضمر المستكن في {ساء}، وهو من المضمر الذي يفسره ما بعده، والمخصوص بالذم محذوف، وإذا كان كذلك فلا يكون تقديره وساء سبيله سبيلًا لأنه إذ ذاك لا يكون فاعله ضميرًا يراد به الجنس مفسرًا بالتمييز، ويبقى التقدير أيضًا عاريًا عن المخصوص بالذم، وتقدّم تفسير قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق} في أواخر الأنعام قال الضحاك: هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل انتهى.
ولما نهى عن قتل الأولاد وعن إيجادهم من الطريق غير المشروعة نهى عن قتل النفس فانتقل من الخاص إلى العام، والظاهر أن هذه كلها منهيات مستقلة ليست مندرجة تحت قوله: {وقضى ربك} كاندراج {أن لا تعبدوا} وانتصب {مظلومًا} على الحال من الضمير المستكن في {قتل} والمعنى أنه قتل بغير حق، {فقد جعلنا لوليه} وهو الطالب بدمه شرعًا، وعند أبي حنيفة وأصحابه اندراج من يرث من الرجال والنساء والصبيان في الولي على قدر مواريثهم، لأن الولي عندهم هو الوارث هنا.
وقال مالك: ليس للنساء شيء من القصاص، وإنما القصاص للرجال.
وعن ابن المسيب والحسن وقتادة والحكم: ليس إلى النساء شيء من العفو والدم وللسلطان التسلط على القاتل في الاقتصاص منه أو حجة يثبت بها عليه قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية: والسلطان الحجة والملك الذي جعل إليه من التخيير في قبول الدم أو العفو قاله ابن عباس والضحاك.
وقال قتادة: السلطان القود وفي كتاب التحرير السلطان القوة والولاية.
وقال ابن عباس: البيِّنة في طلب القود.
وقال الحسن القود.
وقال مجاهد الحجة.
وقال ابن زيد: الوالي أي واليًا ينصفه في حقه، والظاهر عود الضمير في {فلا يسرف} على الولي، والإسراف المنهي عنه أن يقتل غير القاتل قاله ابن عباس والحسن، أو يقتل اثنين بواحد قاله ابن جبير، أو أشرف من الذي قتل قاله ابن زيد، أو يمثل قاله قتادة، أو يتولى القاتل دون السلطان ذكره الزجاج.
وقال أبو عبد الله الرازي: السلطنة مجملة يفسرها {كتب عليكم القصاص} الآية ويدل عليه أنه مخير بين القصاص والدية وقوله عليه السلام يوم الفتح: «من قتل قتيلًا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية» فمعنى {فلا يسرف في القتل} لا يقدم على استيفاء القتل، ويكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو ولفظة في محمولة على الباء أي فلا يصير مسرفًا بسبب إقدامه على القتل، ويكون معناه الترغيب في العفو كما قال {وأن تعفوا أقرب للتقوى} انتهى ملخصًا.
ولو سلم أن {في} بمعنى الباء لم يكن صحيح المعنى، لأن من قتل بحق قاتل موليه لا يصير مسرقًا بقتله، وإنما الظاهر والله أعلم النهي عما كانت الجاهلية تفعله من قتل الجماعة بالواحد، وقتل غير القاتل والمثلة ومكافأة الذي يقتل من قتله.
وقال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد: بؤ بشسع نعل كليب.
وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في {فلا يسرف} ليس عائدًا على الولي، وإنما يعود على العامل الدال عليه، ومن قتل أي {لا يسرف} في القتل تعديًا وظلمًا فيقتل من ليس له قتله.
وقرأ الجمهور: {فلا يسرف} بياء الغيبة.
وقرأ الإخوان وزيد بن عليّ وحذيفة وابن وثاب والأعمش ومجاهد بخلاف وجماعة، وفي نسخة من تفسير ابن عطية وابن عامر وهو وهم بتاء الخطاب والظاهر أنه على خطاب الولي فالضمير له.
وقال الطبري: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده أي فلا تقتلوا غير القاتل انتهى.
قال ابن عطية: وقرأ أبو مسلم السرّاج صاحب الدعوة العباسية.
وقال الزمخشري قرأ أبو مسلم صاحب الدولة.
وقال صاحب كتاب اللوامح أو مسلم العجلي مولى صاحب الدولة: {فلا يسرف} بضم الفاء على الخبر، ومعناه النهي وقد يأتي الأمر والنهي بلفظ الخبر.
وقال ابن عطية في الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر، وفي قراءة أبيّ فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصورًا انتهى.
رده على ولا تقتلوا والأولى حمل قوله إن ولي المقتول على التفسير لا على القراءة لمخالفته السواد، ولأن المستفيض عنه {إنه كان منصورًا} كقراءة الجماعة والضمير في {أنه} عائد على الولي لتناسق الضمائر ونصره إياه بأن أوجب له القصاص، فلا يستزاد على ذلك أو نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق.
وقيل: يعود الضمير على المقتول نصره الله حيث أوجب القصاص بقتله في الدنيا، ونصره بالثواب في الآخرة.
قال ابن عطية: وهو أرجح لأنه المظلوم، ولفظة النصر تقارن الظلم كقوله عليه السلام: «ونصر المظلوم وإبرار القسم» وكقوله: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» إلى كثير من الأمثلة.
وقيل: على القتل.
وقال أبو عبيد: على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر، وهذا ضعيف بعيد القصد.
وقال الزمخشري: وإنما يعني أن يكون الضمير في أنه الذي بقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف انتهى.
وهذا بعيد جدًا. اهـ.