فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما الإمام أبو حنيفة رحمه الله- فقد قدمنا أن أيمان القسامة عنده لا يحلفها إلا خمسون رجلًا من أهل المحلة التي وجد بها القتيل. فيقسمون أنهم ما قتلوه ولا علموا له قاتلًا.
تنبيه:
قد علمت كلام العلماء فين يحلف أيمان القسامة. فإذا وزعت على عدد أقل من الخمسين ووقع فيها انكسار فإن تساووا جبر الكسر عليهم. كما لو خلف المقتول ثلاثة بنين. فإن على كل واحد منهم ثلث الخمسين يمنًا وهو ست عشرة وثلثان، فيتمم الكسر على كل واحد منهم. فيحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينًا.
فإن قيل: يلزم على ذلك خلاف الشرع في زيادة الأيمان على خمسين يمينًا. لأنها تصير بذلك إحدى وخمسين يمينًا.
فالجواب- أن نقص الأيمان عن خمسين لا يجوز، وتحميل بعض الورثة زيادة على الآخرين لا يجوز. فعلم استواؤهم في جبر الكسر. فإذا كانت اليمين المنكسرة لم يستوِ في قدر كسرها الحالفون، كأن كان على أحدهم نصفها، وعلى آخر ثلثها، وعلى آخر سدسها، حلفها من عليه نصفها تغليبًا للأكثر، ولا تجبر على صاحب الثلث والسدس.
وهذا هو مذهب مالك وجماعة من أهل العلم. وقال غيرهم: تجبر على الجميع. والله تعالى أعلم.
وقال بعض أهل العلم: يحلف كل واجد من المدعين خمسين يمينًا، سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه. واحتج من قال بهذا بأن الواحد منهم لو انفرد لحلف الخمسين يمينًا كلها. قال: وما يحلفه منفردًا يحلفه مع غيره كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى.
قاق مقيده عفا الله عنه: وهذا القول بعيد فيما يظهر. لأن الأحاديث الورادة في القسامة تصرح بأن عدد أيمانها خمسون فقط، وهذا القول قد تصير به مئات كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
الفرع السادس: لا يقتل بالقسامة عند من يوجب القود بها إلا واحد. وهذا قول أكثر القائلين بالقود بها، منهم مالك وأحمد والزهري، وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم.
وهذا القول هو الصواب، وتدل عليه الرواية الصحيحة التي قدمناها عند مسلم وغيره: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته..» الحديث. فقوله صلى الله عليه وسلم في معرض بيان حكم الواقعة: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم» يدل على أنهم ليس لهم أن يقسموا على غير واحد. وقيل: يستحق بالقسامة قتل الجماعة. لأنها بينة موجبة للقود، فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينه. وممن قال بهذا أبو ثور: قاله ابن قدامة في المغني.
وهل تسمع الدعوى في القسامة على غير معين أو لا؟ وهل تسمع على أكثر من واحد أو لا. فقال بعض أهل العلم: تسمع على غير معين. وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله مستدلًا بقصة الأنصاري المقتول بخيبر. لأن أولياءه ادعوا على يهود خيبر. وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن الدعوى فيها لا تسمع إلا على معين، قالوا: ولا دليل في قصة اليهود والأنصاري. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال فيها: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم» فبين أن المدعى عليه لابد أن يعين.
وقال بعض من اشترط كونها على معين: لابد أن تكون على واحد، وهو قول أحمد ومالك.
وقال بعض من يشترط كونها على معين: يجوز الحلف على جماعة معينين، وقد قدمنا اختلافهم: هل يجز قتل الجماعة أو لا يقتل إلا واحد، وهو ظاهر الحديث، وهو الحق إن شاء الله.
وقال أشهب صاحب مالكك لهم أن يحلفوا على جماعة ويختاروا واحًا للقتل، ويسجن الباقوت عامًا، ويضربون مائة.
قال ابن حجر في الفتح. وهو قوله لم يسبق إليه. والعلم عند اله تعالى.
الفرع السابع: اعلم أن أيمان القسامة تحلف على البت، ودعوى القتل أيضًا على البت.
فإن قيل: كيف يحلف الغائب على أمر لم يحضره، وكيف يأذن الشارع في هذه اليمين التي هي من الأيمان على غير معلوم؟
فالجواب- أن غلبة الظن تكفي في مثل هذا، فإن غلب على ظنه غلبة قوية أنه قله حلف على ذلك. وإن لم يغلب على ظنه غلبة قويه فلا يجوز له الإقادم على الحلف.
الفرع الثامن: إن مات مستحق الأيمان قبل أن يحلفها انتقل إلى وراثه ما كان عليه من الأيمان، وكانت بينهم على حسب مواريثهم، ويجبر الكسر فيها عليهم كما يجبر في حق ورثة القتيل على نحو ما تقدم. لأن من مات عن حق انتقل إلى وارثه.
ولنكتف لما ذكرنا من أحكام القسامة خوف الإطالة المملة، ولأن أحكامها كثيرة متشعبة جدًا، وقد بسط العلماء عليها الكلام في كتب الفروع.
غريبة تتعلق بهذه الآية الكريمة:
وهي أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما استنبط من هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها: ايام النزاع بين علي رضي الله عنه وبين معاوية رضي الله عنه- أن السلطنة والملك سيكونان لمعاوية، لأن من أولياء عثمان رضي الله عنه وهو مقتول ظلمًا، والله تعالى يقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} الآية. وكان الأمر كما قال ابن عباس.
وهذا الاستنباط عنه ذكره ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة، وساق الحديث في ذلك بسنده عند الطبراني في معجمه. وهو استنباط غريب عجيب. ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية الكريمة خوف الإطالة المملة. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)}.
وواضحٌ الصلة بين هذه الآية وسابقتها؛ لأن الكلام هنا ما يزال في الرزق، والخالق سبحانه يُحذِّرنا: إياكم أنْ تُدخِلوا مسألة الرزق في حسابكم؛ لأنكم لم تخلقوا أنفسكم، ولم تخلقوا أولادكم ولا ذريتكم. بل الخالق سبحانه هو الذي خلقكم وخلقهم، وهو الذي استدعاكم واستدعاهم إلى الوجود، وما دام هو سبحانه الذي خلق، وهو الذي استدعى إلى الوجود فهو المتكفّل برزق الجميع، فإياك أنْ تتعدَّى اختصاصك، وتُدخِل أنفك في هذه المسألة، وخاصة إذا كانت تتعلق بالأولاد.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ..} [الإسراء: 31]
القتل: إزهاق الحياة، وكذلك الموت. ولكن بينهما فَرْق يجب ملاحظته:
فالقتل: إزهاق الحياة بنَقْض البِنْية؛ لأن الإنسان يتكوّن من بنية بناها الخالق سبحانه وتعالى، وهي أجهزة الجسم، ثم يعطيها الروح فتنشأ فيها الحياة.
فإذا ضرب إنسانٌ إنسانًا آخر على رأسه مثلًا، فقد يتلف مخه فتنتهي حياته، لكن تنتهي بنقْض البنية التي بها الحياة، لأن الروح لا تبقى إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإذا ما تغيرت هذه الصفات فارقتْه الروح.
أما الموت: فيبدأ بمفارقة الروح للجسد، ثم تُنقَض بنيته بعد ذلك. وتتلَفُ أعضاؤه، فالموت يتم في سلامة الأعضاء.
وما أشبه هذه المسألة بلمبة الكهرباء التي لا تُضيء، إلا إذا توافرتْ لها مواصفات خاصة: من مُولّد أو مصدر للكهرباء، وسلك مُوصلً ولمبة كهرباء، فإذا كُسرَتْ هذه اللمبة يذهب النور، لماذا؟
لأنك نقضتَ شيئًا أساسيًا في عملية الإنارة هذه. وكذلك إذا صَوَّب واحد رصاصة مثلًا في قلب الآخر فإنه يموت وتفارقه الروح؛ لأنك نقضْتَ عنصرًا أساسيًا من بنية الإنسان، ولا تستمر الروح في جسده بدونها.
لذلك ليس في الشرع عقوبة على الموت- ونقصد به هنا الموت الطبيعي الذي يبدأ بخروج الروح من الجسد- لكن توجد عقوبة على القتل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ملعون من هدم بنيان الله».
لأن حياة كل منا هي بناء أقامه الخالق تبارك وتعالى، وهو مِلْك لخالقه لا يجوز حتى لصاحبه أن ينقضه، وإلا فلماذا حرَّم الإسلامُ الانتحار، وجعله كفرًا بالله؟!
إذن: المنهي عنه في الآية القتل؛ لأنه من عمل البشر، وليس الموت. وقد أوضح القرآن الكريم هذه المسألة في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]
فالقتل غير الموت، القتل اعتداء على بِنْية إنسان آخر وهَدْم لها. وقوله تعالى: {أَوْلادَكُمْ..} [الإسراء: 31] الأولاد تُطلق على الذكَر والأنثى، ولكن المشهور في استقصاء التاريخ أنهم كانوا يَئدون البنات خاصة دون الذكور، وفي القرآن الكريم: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8-9]
لأنهم في هذه العصور كانوا يعتبرون الذكور عَوْنًا وعُدّةً في مُعْترك الحياة، وما يملؤها من هجمات بعضهم على بعض، كما يَروْن فيهم العِزْوة والامتداد.
في حين يعتبرون البنات مصدرًا للعار، خاصة في ظِلّ الفقر والعَوَزِ والحاجة، فلربما يستميل البنت ذو غِنىً إلى شيء من المكروه في عِرْضها، وبهذا الفهم يؤول المعنى إلى الرزق أيضًا.
وقوله: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ..} [الإسراء: 31]
أي: خَوْفًا من الفقر، والإملاق: مأخوذة من مَلَق وتملّق، وكلها تعود إلى الافتقار؛ لأن الإنسان لا يتملَّق إنسانًا إلا إذا كان فقيرًا لما عنده محتاجًا إليه، فيتملَّقه ليأخذ منه حاجته.
وقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم..} [الإسراء: 31]
وفي هذه الآية مَلْمح لطيف يجب التنّبه إليه وفَهْمه لنتمكن من الردِّ على أعداء القرآن الذين يتهمونه بالتناقض.
الحق سبحانه وتعالى يقول هنا: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ..} [الإسراء: 31]
أي: خَوْفًا من الفقر، فالفقر- إذن- لم يَأْتِ بعد، بل هو مُحْتمل الحدوث في مستقبل الأيام، فالرزق موجود وميسور، فالذي يقتل أولاده في هذه الحالة غير مشغول برزقه، بل مشغول برزق أولاده في المستقبل؛ لذلك جاء الترتيب هكذا: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ..} [الإسراء: 31]
أولًا: لأن المولود يُولَد ويُولَد معه رزقه، فلا تنشغلوا بهذه المسألة؛ لأنها ليستْ من اختصاصكم.
ثم: {وَإِيَّاكُم..} [الإسراء: 31]
أي: أن رِزْق هؤلاء الأبناء مُقدَّم على رزقكم أنتم، ويمكن أن يُفْهَم المعنى على أنه: لا تقتلوا أولادكم خَوْفًا من الفقر، فنحن نرزقكم من خلالهم، ومن أجلهم.
ونهتمّ بتوضيح هذه المسألة؛ لأن أعداء الدين الذين يُنقِّبون في القرآن عن مَأْخذ يروْنَ تعارضًا أو تكرارًا بين هذه الآية التي معنا وبين آية أخرى تقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ..} [الأنعام: 151]
ونقول لهؤلاء: لقد استقبلتم الأسلوب القرآني بغير الملَكَة العربية في فَهْمه، فأسلوب القرآن ليس صناعة جامدة، بل هو أسلوب بليغ يحتاج في فَهْمه وتدبُّره إلى ذَوْق وحِسٍّ لُغويٍّ.
وإذا استقبلتم كلام الله استقبالًا سليمًا فلن تجدوا فيه تعارضًا ولا تكرارًا، فليست الأولى أبلغَ من الثانية، ولا الثانية أبلغَ من الأولى، بل كل آية بليغة في موضوعها؛ لأن الآيتين وإنْ تشابهتَا في النظرة العَجْلَى لكنْ بينهما فَرْق في المعنى كبير، فآية الإسراء تقول: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم..} [الإسراء: 31]
وقد أوضحنا الحكمة من هذا الترتيب: نرزقهم وإياكم.
أما في آية الأنعام: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ..} [الأنعام: 151]
فلابُدَّ أن نلاحظَ أن للآية صدرًا وعَجُزًا، ولا يصح أن تفهم أحدهما دون الآخر، بل لابد أن تجمع في فَهْم الآية بين صدرها وعجزها، وسوف يستقيم لك المعنى ويُخرجك من أي إشكال.
وما حدث من هؤلاء أنهم نظروا إلى عَجُزَيْ الآيتين، وأغفلوا صَدريهما، ولو كان الصدر واحدًا في الآيتين لكان لهم حق فيما ذهبوا إليه، ولكنّ صَدْري الآيتين مختلفان:
الأولى: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ..} [الإسراء: 31]
والأخرى: {مِّنْ إمْلاَقٍ..} [الأنعام: 151]
والفرْق واضح بين التعبيرين: فالأول: الفقر غير موجود؛ لأن الخشية من الشيء دليل أنه لم يحدث، ولكنه مُتوقَّع في المستقبل، وصاحبه ليس مشغولًا برزقه هو، بل برزق مَنْ يأتي من أولاده.
أما التعبير الثاني: {مِّنْ إمْلاَقٍ..} [الأنعام: 151]
فالفقر موجود وحاصل فعلًا، والإنسان هنا مشغول برزقه هو لا برزق المستقبل، فناسب هنا أنْ يُقدِّم الآباء في الرزق عن الأبناء.
وما دام الصَّدْر مختلفًا، فلابد أن يختلف العَجُز، فأيْنَ التعارضُ إذن؟ وهناك مِلْحَظٌ آخر في الآية الكريمة، وهو أن النهي مُخَاطَبٌ به الجمع: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ..} [الإسراء: 31]
فالفاعل جمع، والمفعول به جمع، وسبق أن قلنا: إن الجمع إذا قُوبل بالجمع تقتضي القسمة آحادًا، فالمعنى: لا يقتل كل واحد منكم ولده. كما يقول المعلم للتلاميذ: أخرجوا كُتبكم، والمقصود أنْ يُخرج كل تلميذ كتابه.
فإنْ قال قائل: إن الآية تنهي أنْ يقتلَ الأب ولده خَوْفًا من الفقر، لكنها لا تمنع أنْ يقتل الأبُ ولد غيره مجاملةً له، وهو الآخر يقتل ولد غيره مجاملة له.
نقول: لا.. لأن معنى الآية ألاَّ يقتل كل الآباء كل الأولاد، فينسحب المعنى على أولادي وأولاد غيري، وهذا هو المراد بمقابلة الجمع بالجمع. أما لو قُلْنا: إن المعنى: تجاملني وتقتل لي ابني، وأجاملك وأقل لك ابنك، فهذا لا يستقيم؛ لأن المقابلة هنا ليس مقابلة جمع بجمع.
وقوله تعالى: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31]