فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم يقول تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا..} [الإسراء: 33]
وهذا حكم نفي، المفروض ألاَّ يحدث. ومعنى {مَظْلُومًا} أي: قُتِل دون سبب من الأسباب الثلاثة السابقة أي: دون حق، فعلى فَرْض أن هذا القتل وقع بالفعل، فما الحكم؟
يقول تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ..} [الإسراء: 33]
وليه: أي وليّ المقتول، وهو مَنْ يتولّى أمره من قرابته: الأب أو الأخ أو الابن أو العم.. إلخ فهو الذي يتولّى أمر المطالبة بدمه.
{سُلْطَانًا..} [الإسراء: 33]
أي: شرعنا له، وأعطيناه الحقَّ والقوة في أنْ يقتل القاتل، والسلطان يكون في خدمة التنفيذ، ويُمكّنه منه، وكذلك المؤمنون أيضًا يقفون إلى جواره، ويساعدونه في تنفيذ هذا الحكم؛ لأن الأمر من الله قد يكون رادعه في ذات النفس، لكن إنْ ضعُفَتْ النفس فلابد لرادع من الخارج، وهنا يأتي دور السلطان ودور المجتمع الإيماني الذي يُعين على إقامة هذا الحكم.
إذن: جعل الحق سبحانه وتعالى سلطان القصاص لوليّ الدم، فإنْ لم يكن له وليّ فإن السلطان ينتقل للحاكم العام ليتولى إقامة هذا الحكم، لكن ما يُتعِب الدنيا- حينما ينتقل حَقُّ القصاص إلى الحاكم العام- طُول الإجراءات التي تُخرج الحكم عن المراد منه، وتُذْكِي نار الحقد والغِلِّ والتِّرَة في نفسِ وليَّ الدم.
فوليّ الدم وحده الذي يُعاني طول فترة التقاضي مع أناس لا يعنيهم أن تطولَ هذه الفترة أو تقصُر؛ لأن طول فترة التقاضي تأتي في صالح القاتل، حيث بمرور الأيام- بل والسنين- تبْرُد شراسة الجريمة في نفوس الناس، وتأخذ طريقًا إلى طيّات النسيان.
وبهذا تبهت الجريمة وتُنسَى بشاعتها، وبدلَ أن يقف المجتمع ويفكر في القاتل وفي القصاص منه، تتحول الأنظار والعواطف إلى النفس الجديدة التي ستُقتل، وبذلك يتعاطف الناس معه بدل أن يتعاطفوا في إقامة القصاص عليه.
لكن يجب أنْ يُقامَ القصاص قبل أنْ تبُردَ شراسة الجريمة في النفوس، وتبهت وتفقد حرارتها.
والحق سبحانه وتعالى كما شرع القصاص، وجعله في يد وليّ الدم، أراد في الوقت نفسه ألاَّ يحرم المجتمع من طموحات العفو الذي يُنهي أصول الخلاف، فيقول تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ..} [البقرة: 178]
ففي جَوِّ القتل وثورة الدماء التي تغلي بالثأر يتكلم الحق سبحانه عن العفو والأخوة والمعروف والإحسان، فمهما كان الأمر فالمؤمنون إخوة، وباب العفو والإحسان مفتوح. ولوليّ الدم بعد أن أعطيناه حَقَّ القصاص ندعوه إلى العفو، وله أن يأخذ الدية وتنتهي المسألة، وله أن يعفوَ عن بعضها أو عنها كلها.
إذن: فإعطاء الحق مَنع عن المقتول له ذِلّة التسلُّط من القاتل؛ لأن الله تعالى أعطاه حَقَّ القصاص منه، فإذا ما عفا عنه علم القاتل أن حياته أصبحت هبة من ولي الدم، وما دام الأمر كذلك فسوف تتلاشى بينهما الضغائن والأحقاد، ويحل محلها الوفاق والمحبة والسلام، ونُنهي تسلسل الثارات الذي لا ينتهي.
وقد اشتهر في صعيد مصر- وكان مثالًا للأخْذ بالثأر- أن القاتل يأخذ كفنه في يده، ويذهب به إلى وليّ الدم ويُسلِّم نفسه إليه معترفًا بجريمته، معطيًا لولي الدم حرية التصرف فيه. فما يكون من ولي الدم أمام هذا الاستسلام إلاّ أن يعفوَ ويصفح، وبذلك تُقتلَع الضغائن من جذورها.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ..} [الإسراء: 33]
أي: طالما أن الله أعطاك حَقَّ القصاص فليكُنْ القصاص بقَدْره دون زيادة أو تعدٍّ أو مجاوزة للحدِّ، والإسراف في القتل يكون بأوجه عدة:
فقد يكون القاتل غير ذي شأن في قومه، فلا يرضى وليّ الدم بقتْله، بل يتطلع إلى قتل إنسان آخر ذي مكانة وذي شأن، فيقتل إنسانًا بريئًا لا ذنبَ له، وهذا من الإسراف في القتل، وهو إسرافٌ في ذات المقتول.
وقد يكون الإسراف في الكَمِّ، فإنْ قُتِل واحد فلا يكتفي وليّ الدم بأن يقتل القاتل، بل يحمله الغِلّ وثورة الدم إلى أنْ يقتل به أكثر من واحد.
وقد يكون الإسراف بأنْ يُمثّل بجثة المقتول، ولا يكفيه قتله، والمفروض ألاَّ يحملك الغضب على تجاوز الحدِّ المشروع لك. وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعلها في قاتل حمزة، فنهاه الله عن ذلك.
ثم يقول تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]
أي: لا يجوز له أنْ يُسرف في القتل؛ لأننا لم نتخلّ عنه، بل وقفنا بجانبه وأعطيناه حقّ القصاص ومكنَّاه منه، إذن: فهو منصور ليس متروكًا، فيجب أن يقف عند حَدِّ النُّصْرة لا يتجاوزها؛ لأنه إن تجاوزها بقتل غير القاتل، فسوف يُقتل هو الآخر قصاصًا. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)}.
قوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا في نُفُوسِكُمْ} أي: بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات، ومن التوبة من الذنب الذي فرط منكم أو الإصرار عليه، ويندرج تحت هذا العموم ما في النفس من البرّ والعقوق اندراجًا أوّليًا؛ وقيل: إن الآية خاصة بما يجب للأبوين من البرّ، ويحرم على الأولاد من العقوق، والأوّل أولى اعتبارًا بعموم اللفظ، فلا تخصصه دلالة السياق ولا تقيده {إِن تَكُونُواْ صالحين} قاصدين الصلاح، والتوبة من الذنب، والإخلاص للطاعة فلا يضركم ما وقع من الذنب الذي تبتم عنه.
{فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا} أي: الرجاعين عن الذنوب إلى التوبة، وعن عدم الإخلاص إلى محض الإخلاص.
غفورًا لما فرط منهم من قول أو فعل أو اعتقاد، فمن تاب تاب الله عليه، ومن رجع إلى الله رجع الله إليه.
ثم ذكر سبحانه التوصية بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال: {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم تهييجًا وإلهابًا لغيره من الأمة، أو لكل من هو صالح لذلك من المكلفين كما في قوله: {وقضى رَبُّكَ} [الإسراء: 23] والمراد بذي القربى: ذو القرابة، وحقهم هو صلة الرحم التي أمر الله بها، وكرّر التوصية فيها.
والخلاف بين أهل العلم في وجوب النفقة للقرابة، أو لبعضهم كالوالدين على الأولاد.
والأولاد على الوالدين معروف، والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة وحسبما يقتضيه الحال {والمساكين} معطوف على {ذا القربى}، وفي هذا العطف دليل على أن المراد بالحق الحق المالي {وابن السبيل} معطوف على المسكين، والمعنى: وآت من اتصف بالمسكنة، أو بكونه من أبناء السبيل حقه.
وقد تقدّم بيان حقيقة المسكين وابن السبيل في البقرة، وفي التوبة، والمراد في هذه الآية التصدّق عليهما بما بلغت إليه القدرة من صدقة النفل، أو مما فرضه الله لهما من صدقة الفرض، فإنهما من الأصناف الثمانية التي هي مصرف الزكاة.
ثم لما أمر سبحانه بما أمر به ها هنا، نهى عن التبذير فقال: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا} التبذير: تفريق المال كما يفرّق البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه، وهو الإسراف المذموم لمجاوزته للحدّ المستحسن شرعًا في الإنفاق، أو هو الإنفاق في غير الحق، وإن كان يسيرًا.
قال الشافعي: التبذير: إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير.
قال القرطبيّ بعد حكايته القول الشافعي هذا: وهذا قول الجمهور.
قال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال من حقه، ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله: {إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين} فإن هذه الجملة تعليل للنهي عن التبذير، والمراد بالأخوة الممائلة التامة، وتجنب مماثلة الشيطان ولو في خصلة واحدة من خصاله واجب، فكيف فيما هو أعمّ من ذلك كما يدلّ عليه إطلاق المماثلة، والإسراف في الإنفاق من عمل الشيطان، فإذا فعله أحد من بني آدم فقد أطاع الشيطان واقتدى به {وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا} أي: كثير الكفران عظيم التمرّد عن الحق، لأنه مع كفره لا يعمل إلاّ شرًا، ولا يأمر إلاّ بعمل الشرّ، ولا يوسوس إلاّ بما لا خير فيه.
وفي هذه الآية تسجيل على المبذرين بمماثلة الشياطين، ثم التسجيل على جنس الشيطان بأنه كفور، فاقتضى ذلك أن المنذر مماثل للشيطان، وكل مماثل للشيطان له حكم الشيطان، وكل شيطان كفور، فالمبذر كفور.
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} قد تقدّم قريبًا أن أصل {إما} هذه مركب من (إن) الشرطية و(ما) الإبهامية، وأن دخول نون التأكيد على الشرط لمشابهته للنهي؛ أي: إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل لأمر اضطرك إلى ذلك الإعراض {ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ} أي لفقد رزق من ربك، ولكنه أقام المسبب الذي هو ابتغاء رحمة الله مقام السبب الذي هو فقد الرزق، لأن فاقد الرزق مبتغٍ له، والمعنى: وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح الله به عليك {فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا} أي: قولًا سهلًا لينًا كالوعد الجميل أو الاعتذار المقبول.
قال الكسائي: يسرت له القول أي: لينته.
قال الفراء: معنى الآية إن تعرض عن السائل إضاقة وإعسارًا {فقل لهم قولًا ميسورًا}: عدهم عدة حسنة.
ويجوز أن يكون المعنى: وإن تعرض عنهم ولم تنفعهم لعدم استطاعتك فقل لهم قولًا ميسورًا، وليس المراد هنا الإعراض بالوجه.
وفي هذه الآية تأديب من الله سبحانه لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون.
ربما يردّون، ولقد أحسن من قال:
إنْ لا يَكُنْ وَرِقٌ يَوْمًا أَجُوُد بِها ** لِلسَائِلين فإنِّي لينّ العُودِ

لا يَعْدم السَائِلوُنَ الخْيرَ مِنْ خُلِقي ** إمَّا نَوالٌ وإمَّا حُسنُ مَرْدُودِ

لما ذكر سبحانه أدب المنع بعد النهي عن التبذير بيّن أدب الإنفاق فقال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} وهذا النهي يتناول كل مكلف، سواء كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تعريضًا لأمته وتعليمًا لهم، أو الخطاب لكل من يصلح له من المكلفين.
والمراد: النهي للإنسان بأن يمسك إمساكًا يصير به مضيقًا على نفسه وعلى أهله، ولا يوسع في الإنفاق توسيعًا لا حاجة إليه، بحيث يكون به مسرفًا، فهو نهى عن جانبي الإفراط والتفريط.
ويتحصل من ذلك مشروعية التوسط، وهو العدل الذي ندب الله إليه:
ولا تك فيها مُفْرِطًا أو مفَرِّطا ** كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقد مثّل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه، بحيث لا يستطيع التصرّف بها، ومثّل حال من يجاوز الحدّ في التصرف بحال من يبسط يده بسطًا لا يتعلق بسببه فيها شيء مما تقبض الأيدي عليه، وفي هذا التصوير مبالغة بليغة.
ثم بيّن سبحانه غائلة الطرفين المنهيّ عنهما فقال: {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح {مَّحْسُورًا} بسبب ما فعلته من الإسراف، أي: منقطعًا عن المقاصد بسبب الفقر، والمحسور في الأصل: المنقطع عن السير، من حسره السفر إذا بلغ منه، والبعير الحسير: هو الذي ذهبت قوّته فلا انبعاث به، ومنه قوله تعالى: {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4].
أي: كليل منقطع؛ وقيل: معناه نادمًا على ما سلف، فجعله هذا القائل من الحسرة التي هي الندامة، وفيه نظر، لأن الفاعل من الحسرة: حسران.
ولا يقال محسور إلاّ للملوم.
ثم سلى رسوله والمؤمنين بأن الذين يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله سبحانه، ولكن لمشيئة الخالق الرازق فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} أي: يوسعه على بعض ويضيقه على بعض لحكمة بالغة لا لكون من وسع له رزقه مكرمًا عنده، ومن ضيقه عليه هائنًا لديه.
قيل: ويجوز أن يراد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي لا تفنى خزائنه.
فأما عباده فعليهم أن يقتصدوا.
ثم علل ما ذكره من البسط للبعض والتضييق على البعض بقوله: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي: يعلم ما يسرون وما يعلنون، لا يخفى عليه من ذلك خافية، فهو الخبير بأحوالهم، البصير بكيفية تدبيرهم في أرزاقهم، وفي هذه الآية دليل على أنه المتكفل بأرزاق عباده، فلذلك قال بعدها: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق} أملق الرجل: لم يبق له إلاّ الملقات، وهي الحجارة العظام الملس، قال الهذلي يصف صائدًا:
أتيح لها أقيدر ذو خشيف ** إذا سامت على الملقات ساما

الأقيدر تصغير الأقدر: وهو الرجل القصير، والخشيف من الثياب: الخلق، وسامت: مرّت، ويقال: أملق: إذا افتقر وسلب الدهر ما بيده.
قال أوس:
وأملق ما عندي خطوب تنبل

نهاهم الله سبحانه عن أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر، وقد كانوا يفعلون ذلك، ثم بيّن لهم أن خوفهم من الفقر حتى يبلغوا بسبب ذلك إلى قتل الأولاد لا وجه له، فإن الله سبحانه هو الرازق لعباده، يرزق الأبناء كما يرزق الآباء، فقال: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} ولستم لهم برازقين حتى تصنعوا بهم هذا الصنع، وقد مرّ مثل هذه الآية في الأنعام ثم علل سبحانه النهي عن قتل الأولاد لذلك بقوله: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}.