فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن} وإنما خص اليتيم بالذكر لأنه إلى ذلك أحوج، والطمع في ماله أكثر. وفي قوله: {إلاّ بالتي هي أحسن} قولان:
أحدهما: حفظ أصوله وتثمير فروعه، وهو محتمل.
الثاني: أن التي هي أحسن التجارة له بماله.
{حتى يَبْلُغَ أَشدَّه} وفي الأشد وجهان: أحدهما: أنه القوة.
الثاني: المنتهى.
وفي زمانه ها هنا قولان:
أحدهما: ثماني عشرة سنة.
والثاني: الاحتلام مع سلامة العقل وإيناس الرشد.
{وأوفوا بالعهد} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنها العقود التي تنعقد بين متعاقدين يلزمهم الوفاء بها، وهذا قول أبي جعفر الطبري.
الثاني: أنه العهد في الوصية بمال اليتيم يلزم الوفاء به.
الثالث: أنه كل ما أمر الله تعالى به أو نهى فهو من العهد الذي يلزم الوفاء به.
{إن العهد كان مسئولًا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن العهد كان مطلوبًا، قاله السدي.
الثاني: أن العهد كان مسئولا عنه الذي عهد به، فيكون ناقض العهد هو المسئول.
الثالث: أن العهد نفسه هو المسئول بم نقِضت، كما تُسأل الموءُودة بأي ذنب قتلت.
قوله عز وجل: {... وزنُوا بالقسطاس المستقيم} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه القبان. قاله الحسن.
الثاني: أنه الميزان صغر أو كبر، وهذا قول الزجاج.
الثالث: هو العدل.
واختلف من قال بهذا على قولين:
أحدهما: أنه رومي، قاله مجاهد.
الثاني: أنه عربي مشتق من القسط، قاله ابن درستويه.
{ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلًا} فيه وجهان:
أحدهما: أحسن باطنًا فيكون الخير ما ظهر، وحسن التأويل ما بطن.
الثاني: أحسن عقابة، تأويل الشيء عاقبته.
قوله عز وجل: {ولا تقف ما ليس لك به عِلْمٌ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: معناه لا تقل ما ليس لك به علم فلا تقل رأيت، ولم تر، ولا سمعت، ولم تسمع، ولا علمت ولم تعلم. وهذا قول قتادة.
الثاني: معناه ولا ترم أحد بما ليس لك به علم، وهذا قول ابن عباس. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن بني النضر كنانة لا نقْفُو أمنا ولا ننتفي من أبينا».
الثالث: أنه من القيافة وهو اتباع الأثر، وكأنه يتبع قفا المتقدم، قال الشاعر:
ومِثْلُ الدُّمى شُمُّ العَرَنِينِ سَاكِنٌ ** بِهِنَّ الْحَيَاءُ لا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا

أي التقاذف.
{إن السمع والبصر والفؤاد كلُّ أُولئك كان عنه مسئولًا} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الإنسان هو المسئول عن السمع والبصر والفؤاد لأنه يعمل بها إلى الطاعة والمعصية.
الثاني: أن السمع والبصر والفؤاد تُسأل عن الإنسان ليكونوا شهودًا عليه، وله، بما فعل من طاعة وما ارتكب من معصية، ويجوز أن يقال أولئك لغير الناس، كما قال جرير:
ذُمّ المنازِلِ بَعْدَ منزِلِةِ اللِّوى ** والْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئكَ الأَيَّامِ

اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}.
الخطاب في هذه الآية للأوصياء الذين هم معدون لقرب مال اليتامى، ثم لمن تلبس بشيء من أمر يتيم من غير وصي، و{اليتيم} الفرد من الأبناء، واليتم الانفراد، يقال يتم الصبي يتيم إذا فقد أباه، قال ابن السكيت: اليتم في البشر من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم، وفي كتاب الماوردي، أن اليتم في البشر من قبل الأم أيضًا، وجمعه أيتام كشريف وأشراف وشهيد وأشهاد، ويجمع يتامى كأسير وأسارى كأنهما الأمور المكروهة التي تدخل على المرء غلبة، قال ابن سيده: وحكى ابن الأعرابي يتمان في يتيم، وأنشد في ذلك: [الطويل]
فبت أشوي ظبيتي وحليلتي ** طربا وجرو الذيب يتمان جائع

ويجوز أن يكون يتامى جمع يتمان، وفي الحديث: «لا يتم بعد حلم» وقوله: {إلا بالتي هي أحسن} يريد إلا بأحسن الحالات.
قال القاضي أبو محمد: وذلك في الوصي الغني، أن يثمر المال ويحوطه ولا يمسّ منه شيئًا على جهة الانتفاع به، هذا هو الورع والأولى الا أن يكون يشتغل في مال اليتيم ويشح فله بالفقه أن تفرض له أجرة، وأما الوصي الفقير الذي يشغله مال اليتيم عن معاشه، فاختلف الناس في أكله منه بالمعروف كيف هو؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يتسلف منه، فإذا أيسر رد فيه، وقال ابن المسيب، لا يشرب الماء من مال اليتيم، قيل له فما معنى {فليأكل بالمعروف} [النساء: 6]؟ قال: إنما ذلك لخدمته وغسل ثوبه، وقال مجاهد: لا يقرب إلا التجارة ولا يستقرض منه، قال: قوله: {فليأكل بالمعروف} [ذاته] معناه من مال نفسه، وقال أبو يوسف: لعل قوله: {فليأكل بالمعروف} [ذاته] منسوخ بقوله: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] [النساء: 29] وقال ابن عباس: يأكل منه الشربة من اللبن والطرفة من الفاكهة ونحو هذا مما يخدمه، ويلط الحوض ويجد النخل، وينشد الضالة فليأكل غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب، وقال زيد بن أسلم: يأكل منه بأطراف أصابعه بلغة من العيش بتعبه.
قال القاضي أبو محمد: وهذه استعارة للتقلل، وقال مالك رحمه الله وغيره. يأخذ منه أجره بقدر تعبه، فهذه كلها تدخل فيما هو أحسن، وكمال تفسير هذه المعاني في سورة النساء بحسب ألفاظ تلك الآيات، وفي الخبر عن قتادة أن هذه الآية لما نزلت شقت على المسلمين وتجنبوا الأكل معهم في صحفة ونحوه، فنزلت {وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} [البقرة: 220] وقوله: {حتى يبلغ أشده} غاية الإمساك عن مال اليتيم، ثم ما بعد الغاية قد بينته آية أخرى، وما بعد هذه الغايات أبدًا موقوف حتى يقوم فيه دليل شرعي أو يقتضي ذلك الاتفاق في النازلة، ومثل هذا قول عائشة رضي الله عنها أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، وبعث بها، فلم يحرم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي، والأشد جمع شد عند سيبويه، وقال أبو عبيدة: لا واحد له من لفظه، ومعناها قواه في العقل والتجربة والنظر لنفسه، وذلك لا يكون إلا مع البلوغ، فالأشد في مذهب مالك أمران، البلوغ بالاحتلام أو ما يقوم مقامه حسب الخلاف في ذلك، والرشد في المال، واختلف هل من شروط ذلك الرشد في الدين على قولين، فابن القاسم لا يراعيه إذا كان ضابطًا لماله، وراعاه غيره من بعض أصحاب مالك، ومذهب أبي حنيفة أن الأشد هو البلوغ فقط فلا حجر عنده على بالغ إلا أن يعرف منه السفه.
قال القاضي أبو محمد: ولست من هذا التقييد في قوله على ثقة، وقال أبو إسحاق الزجاج: الأشد في قوله أن تأتي على الصبي ثمان عشرة سنة، وإنما أراد أنها بعض ما قيل في حد البلوغ لمن لا يحتلم، وأما أن يكون بالغ رشيد تقي لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ هذه المدة فشيء لا أحفظ من يقوله، وقوله: {بالعهد} لفظ عام لكل عهد وعقد بين الإنسان وبين ربه أو بينه وبين المخلوقين في طاعة، وقوله: {إن العهد كان مسؤولًا} أي مطلوبًا ممن عهد إليه أو عوهد هل وفى به أم لا؟.
وقوله تعالى: {وأوفوا الكيل} الآية، أمر الله تعالى في هذه الآية أهل التجر والكيل والوزن أن يعطوا الحق في كيلهم ووزنهم، وروي عن ابن عباس أنه كان يقف في السوق ويقول: يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم، هذا المكيال وهذا الميزان.
قال القاضي أبو محمد: وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع، لأن المشتري لا يقال له أوف الكيل، هذا ظاهر اللفظ والسابق منه، و{القسطاس} قال الحسن هو القبان، ويقال القفان وهو القلسطون، ويقال القرسطون، وقيل: {القسطاس} الميزان صغيرًا كان أو كبيرًا، وقال مجاهد: {القسطاس} العدل، وكان يقول هي لغة رومية، فكأن الناس قيل لهم زنوا بمعدلة في وزنكم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: {القُسطاس} بضم القاف، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {القِسطاس} بكسر القاف، وهما لغتان، واللفظة منه للمبالغة من القسط، والمراد بها في الآية جنس الموازين المعدّلة على أي صفة كانت، قال أبو حاتم إنما قرأ بكسر القاف أهل الكوفة، وكل قراءة لا تجاوز الكوفة إلى الحرمين والبصرة فاقرأ بغيرها، وقرأت فرقة {القصطاس} بالصاد.
قال القاضي أبو محمد: وكان مذهب مجاهد في هذا وفي ميزان القيامة، وكل ذلك أنها استعارات للعدل، وقوله: في ميزان القيامة مردود، وعقيدة أهل السنة أنه ميزان له عمود وكفتان.
وسمعت أبي رضي الله عنه يقول رأيت الواعظ أبا الفضل الجوهري في جامع عمرو بن العاص يعظ الناس في الوزن فقال في جملة كلامه إن هيئة اليد بالميزان عظة وذلك أن الأصابع تجيء منها صورة المكتوبة ألف ولامان وهاء فكأن الميزان يقول الله الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وعظ جميل، والتأويل في هذه الآية المآل. قاله قتادة، ويحتمل أن يكون التأويل مصدر تأول أي يتأول عليكم الخير في جميع أموركم إذا أحسنتم في الكيل والوزن، والفرض من أمر الكيل والوزن تحري الحق، فإن غلب الإنسان تعد تحريه شيء يسير من تطفيف شاذًا لم يقصده بذلك نزر موضوع عنه إثمه، وذلك ما لا يكون الانفكاك عنه في وسع، وقوله: {ولا تقف} معناه ولا تقل ولا تتبع.
قال القاضي أبو محمد: لكنها لفظة تستعمل في القذف والعضه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن بنو النضر لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا» ونقول فلان قفوتي أي موضع تهمتي، وتقول العرب رب سامع عذرتي ولم يسمع قفوتي أي ما رميت به، وهذا مثل للذي يفشي سره ويعتذر من ذنب لم يسمعه المعتذر إليه، وقد قال ابن عباس أيضًا ومجاهد: {ولا تقف} معناه، ولا ترم، ومن هذه اللفظة قول الشاعر:
ومثل الدمى شم العرانين ساكن ** بهن الحياء لا يشعن التقافيا

وقال الكميت: الوافر:
ولا أرم البرى بغير ذنب ** ولا أقفو الحواضن إن قفينا

وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر، تقول قفوت الأثر، ويشبه أن هذا من القفا مأخوذ، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو البيت، وتقول قفت الأثر، ومن هذا: هو القائف، وتقول فقوت الأثر بتقديم الفاء على القاف، ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ، كما قالوا وعمري في لعمري وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت قفا وقاف مثل عثا وعاث، فمعنى الآية، ولا تتبع لسانك من القول ما لا علم لك به، وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب فهذه الآية بالجملة تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة الردية، وقرأ الجمهور: {ولا تقف} وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي: {ولا تقُف} بضم القاف وسكون الفاء، وقرأ الجراح: {والفآد} بفتح الفاء وهي لغة، وأنكرها أبو حاتم وغيره، وعبر عن {السمع والبصر والفؤاد} ب {أولئك} لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها بـ {أولئك}، وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى: {رأيتهم لي ساجدين} [يوسف: 4] إنه إنما قال رأيتهم في نجوم لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل، عبر عنها بكناية من يعقل، وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري: الكامل:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيش بعد أولئك الأيام

فأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام، والضمير في {عنه} يعود على ما ليس للإنسان به علم، ويكون المعنى أن الله تعالى يسأل سمع الإنسان، وبصره، وفؤاده عما قال مما لا علم له به، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي، ويحتمل أن يعود الضمير في {عنه} على كل التي هي للسمع والبصر والفؤاد، والمعنى أن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصر وفؤاده، فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولًا، أي عما حصل لهؤلاء من الإدراكات ووقع منها من الخطأ، فالتقدير عن أعمالها مسؤولًا، فهو على حذف مضاف. اهـ.